أطفـال فـي عمـر الزهـور يبيعـون الزهـور بالعاصمـة
عبـد الفتـاح الفاتحـي
ملامح شقاء بادية على محيا طفولة بريئة، تنتصب قاماتها النحيفة طوال النهار على قارعة الطريق تعرض مناديل ورقية تحت لهيب شمس الصيف الحارقة نهارا. في عمر الزهور يبيعون الزهور للأزواج ليلا.
وسط زحمة السيارات تُغتال أجمل مراحل العمر على قارعة الطريق من أين أتوا؟ من طردهم من مكانهم الطبيعي؟ ومن دفع بهم إلى تحمل أعباء الحياة وهم لا يزالون في بداية المشوار؟.
عادة سيئة إذن تشيع في صفوف طفولتنا في هذا الشهر الفضيل، تجدهم على قارعة الطريق بملامح الشقاء والتعاسة، طفولة مشردة بدون تعليم وبلا مأوى، بابتسامتهم الساذجة التي يرسمونها على وجهوهم البريئة، يعرضون على أصحاب السيارات علب المناديل الورقية، أو يبيعون باقات الورد عند أضواء إشارات المرور وسط زحمة السيارات التي تهدد أمن حياتهم. ومنهم من يختار التجول في شوارع العاصمة الرباط، شارع محمد الخامس وشارع الأمير مولاي عبد الله وشارع الحسن الثاني يعاكس الأزواج ويطالبهم بشراء ورود مغلفة بالبلاستيك الأبيض للإهداء.
عند مرورك بمفترق الطرق بالعاصمة الرباط، يلفت انتباهك باعة صغار يستعطفون أصحاب السيارات بشراء علب المناديل الورقية، ورايات الوطن الصغيرة إضافة إلى رايات: العراق، فلسطين، العربية السعودية ورايات بعض الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية، ويعرضون أيضا يوميات، وأقلام، وعلك، وأذكار دينية تعلق في السيارات.
إنها بالفعل معاناة الطفولة المغربية الغارقة في وحل الفقر وأمية التربية الوالدية، معاناة تأبى إلى أن ترسم على قلوبهم حروقا وجروحا لا تندمل، أطفال ترجلوا قبل الآجال، لكنهم لم ينسوا أحقيتهم في اللعب، فيلهون مع بعضهم البعض وسط الطريق، كلما خفت حركة المرور، ينتظرون اشتعال الضوء الأحمر موعد بداية عرض سلعهم البسيطة على أصحاب السيارات. وبين البيع والشراء يجد التسول طريقة إلى سلوكيات الأطفال، فكثيرا ما تصادف طفلا يتوسل إليك لشراء بضاعته، بنغمة أقرب إلى التوسل منه إلى البيع.
أطفال بأجسام نحيفة وملابس رثة يراقبون الطريق في انتظار توقف السيارات عند إشارة المرور فيهرعون إليها ليعرضوا على أصحابها سلعهم البسيطة، معرضين حياتهم للخطر، سنهم يتراوح بين سبعة إلى عشر سنوات، ومنهم من لم يتجاوز بعد الأربع سنوات.
توحي محياهم على قساوة ظروفهم الاجتماعية، التي تجعل عددا كبيرا منهم مستعد لبيع طفولته مقابل أي شيء. عندما تتوقف السيارات عند إشارة المرور، يخاطرون بأنفسهم لا شيء يهمهم سوى بيع ما لديهم من علب المناديل الورقية المتبقية، وهم لا يعون الطفولة ولا يعيرون لها أمرا، عكس أقرانهم الذين يستمتعون بأجواء المخيم الصيفي أو الجبلي.
ويعتقد هؤلاء الأطفال أن طريقهم هذه هي بداية الحياة، حتى أن هناك من بينهم صغيرات لا يقوين على التكلم بعد، ومع ذلك فهن يأتين إليك ببراءة يطلبن منك شراء ما يحملن، وكثيرا ما يحزن عندما يتجاهلن، لكنهن لا ييأسن أو يتراجعن.. فالمعاناة التي يتعرضن لها أقوى. في عيونهم ونظراتهم البريئة ألف حكاية وحكاية للمعاناة الاجتماعية التي يعيشونها، لكنهم يبتسمون من شدة الغيض والبؤس بأسنان صفراء لسوء في التغذية، يشجعونك على شراء معروضاتهم.
أردنا الكشف عن هذه المعاناة وعن خلفياتها، أو بالأحرى محاولة للوقوف على مسببات هذه المآسي اليومية لبعض من طفولتنا التي كتب لها أن تفتح أعينها على شيء اسمه بلوى الشارع العام، وهم يفتشون عن لقمة عيش؛ بالتأكيد ستكون مرة.
وزاد فضولنا يسر المهمة؛ خاصة حين طرق طفل صغير زجاج نافذة سيارة صديقي عند إشارة مرور، وحال لسانه يقول: "اشري من عندي أ عمي أو شجعني الله يخليك"، أصيب صديقي بحرج شديد مد له 10 دراهم دون أن يأخذ علبة المناديل، فبادرت الطفل بسؤال إذا ما كان يذهب إلى المدرسة أم لا، فقال: "كنت، أما الآن فإنني غادرت المدرسة لأنني كنت أتغيب كثيرا".
أخبرت صديقي بأن موضوع هؤلاء الأطفال مهم بالنسبة لي، ونزلت من السيارة لمتابعة حوار الطفل "سعيد" لكن بمجرد ما سألته عن اسمه وماذا يفعل بالنقود التي يتحصل عليها، فر من أمامي نحو باقي الأطفال، فتحلقوا حولي ينظرون إلي بنظرات مشمئزة، غير أنني تشجعت متوجها إلى طفل آخر أستفسره الأمر، لكن طفلا آخرا في نفس سنهم نهره، وقال له أسكت إنه صحفي "باغي يقلقلك" أي يستطلع عن معلومات، فازداد حرجي بينهم فقررت الانسحاب بسلام، وفهمت أن هناك من يوصيهم أو ينبههم إلى عدم التكلم في حال ما وجهت لهم أسئلة من هذا القبيل.
موقف حمسنا للبحث في موقف آخر للتحدث إلى طفل وأطفال، فقررت شراء علبة مناديل صغيرة وحين البيع تحلق حولنا باقي الأطفال، وحينئذ كنت أشتكي إليهم ارتفاع سومة العلبة، لتيسير التواصل، والحصول على المعلومات أيضا.
هشام يبلغ من 11 سنة قال: "إنك زبوني السابع خلال هذه الفترة الصباحية. لا ينتظره شيء سوى بيع علب المناديل في مفترق الطرقات، هذا ما فهمناه من كلامه حيث أن عائلته تقطن في سكن قصدري بـ: "دوار الكورة" وأمه مطلقة تبيع الخضر على الشارع المجاور لسكناهم. ولذلك فهو مضطر لمزاولة مهنته هاته يساعد بها أمه، طبعا على حساب طفولته التي تضيع بين الطرقات.
طفل آخر سألته فقال إنه يأتي كل صباح إلى وسط المدينة ويقضي طوال يومه، يبيع علب المناديل لأصحاب السيارات، فلا يبرح وسط المدينة إلا عند حلول الظلام، رحلة طفولة على طول الشارع العام مفتوحة أمام كل مختلف أشكال الانحراف.
بعض المارة ممن حاورناهم بخصوص الموضوع أكدوا أن ما يحصل مع هؤلاء الأطفال يعد "جريمة إنسانية" في حق طفولتهم، ولا يمكن السكوت عنها، بالإضافة إلى أن الكثير من سائقي السيارات يوجهون لهم كلاما قاسيا ما يجعل الطفل ينمو بأفكار العنف والبغض تجاه مجتمعه ومحيطه.
وحول سبب عدم تجاوب الأطفال مع أسئلتنا، لم يستبعد أحمد صاحب محل تجاري بالشارع وجود أشخاص مسؤولين عن الأطفال الباعة يراقبونهم عن بعد ويضمنون لهم الحماية، ويعملون على مدهم بتوجيهات، لذلك فهم يتجنبون الخوض في أي حديث يخصهم مع غرباء، وحتى إذا نجحت في الكلام معهم فهم لا يصدقوك القول. ونعتقد بناء عليه أن هذا أول درس تلقوه من الكبار.
وللأسف يستمر إهمال الطفولة خارج المؤسسات التعليمية، وتبقى الطفولة القابعة في نفوس هؤلاء الأطفال تبدد يوميا على قارعة الطريق بفعل الأمية ومصاعب الحياة وظروفها القاسية، فبدل أن يستمتعوا باللعب كسائر الأطفال فإن الزمن يصر على أن يحرمهم من الاستلذاذ بعذوبة إحساس الطفولة في فضاءات تمنحهم الأمن والطمأنينة.
التعليقات (0)