مواضيع اليوم

أطفالنا. تغيرت المهن وبقيت المهانة

د.هايل نصر

2009-11-24 22:16:38

0

أطفالنا. تغيرت المهن وبقيت المهانة
من وحي زيارة مشروطة للوطن.
من مقهى حديث الافتتاح, مطل على شارع رئيسي في بلدي, الذي لم أزره إلا مرتين بعد أكثر من 35 عاما من الاغتراب, شارع كان يومها الرئيسي والوحيد في المدينة. كنت أعبره ذهابا وإيابا مرات عديدة يوميا. فيه وعبره تمر كل نشاطات المدينة وفعالياتها. انه عندنا أغلى من الشانزيليزه عند الفرنسيين. من هذا المقهى, والمقاهي نادرة في مدينتنا, كانت جلسات استعادة الذكريات, فكلما سنحت الفرصة, استرق بعضا من الوقت في غفلة من الأصدقاء والأهل والمعارف للهروب من بعض الواجبات الاجتماعية التي تفرضها العادات والتقاليد على المغترب, للخلوة بنفسي ليس بكاء على الاطلال, وانما لمشاهدة فعل الزمن واثاره, واستحضار الماضي وذكريات الطفولة والدراسة الإعدادية والثانوية, وهل هناك في حياة الإنسان مرحلة أعز على القلب من تلك المرحلة مهما طال الزمان وبعد المكان؟. إنها المرحلة التي ستؤثر في بناء شخصية الإنسان لاحقا.
في بلداننا تتلاعب بنا الصدف وللأقدار, وتأخذنا في كل اتجاه وصوب, وقد تبعدنا إلى حيث لم نكن نتوقع. إلى ما وراء البحار. فكأن جذورنا غير عميقة في ارضنا, غير مقاومة بما فيه الكفاية. تقتلعها بسهولة ازمة اقتصادية, او قمع سياسي. قد يطول اغترابنا وصولا إلى أواخر مراحل الشباب, وللكهولة, وحتى الشيخوخة, وقد يلقى البعض وجه ربه الكريم غريبا دون أن تكتب له العودة. ولو لمرة واحدة ليرى الوطن بمن فيه وبما فيه
من وراء واجهة المقهى المذكور, في الطابق الأول, كنت أرى المارة في زحام وتدافع بمعدلات غير مسبوقة ــ بفعل تزايد معدلات الولادة الاكثر ارتفاعا على هذا الكوكب, ان كان على غيره ولادات, فنحن مجتمعات ولودة, منتجة وهذا مجالنا ــ وبوجوه فيها صرامة وثقل الواقع وأعبائه. وهو ما لم يكن عليه الحال في أيامنا الخوالي. كان الكل يلقي التحية على الكل.
يختلط الماضي بالحاضر في مخيلتي. أرى نفسي, وكأنها البارحة. طالب قروي قادم إلى إعدادية المدينة والى ثانويتها لاحقا. وأتذكر الطلبة الآخرين من قريتنا والقرى الأخرى. كنا وقتها محل تهكم أبناء المدينة باعتبارنا قرويين, رغم انعدام الفوارق الكبيرة بين قرانا والمدينة المذكورة. كأننا قادمين من دول الجنوب المتخلف إلى دول الشمال المتطور. وكان رفضنا حينها لنفس أسباب رفض الشمال الغني لمهاجري الجنوب الفقير في أيامنا هذه.
كنا عرضة لهجوم متواصل من أطفال في مثل أعمارنا, أو اكبر قليلا, ممن لم تتح لهم الفرص وإمكانياتهم المادية دخول المدارس. وأجبرتهم ظروف الحياة على امتهان مسح الأحذية (بوياجية) أو حمل أمتعة المسافرين في حافلات النقل الداخلي (عتالة), رغم اعتراض أصحاب الأمتعة الخفيفة التي لا يحتاج صاحبها لمساعدة في حملها, وإرغامهم على دفع مبلغ من النقود يحدده العتّال (الحمال) نفسه بالإرادة المنفردة والنفاذ العاجل. وهذا من أصول المهنة وقوانينها وأدبياتها. ولا يستطيع المسافر أو العائد من السفر, الاعتراض أو المساومة إذا كانت كرامته تهمه.
كنا نسير مجموعات من الأصدقاء والمعارف حتى لا يتم التفرد بنا في زاوية مهجورة أو طريق منعزل. وما أكثر القصص, وما أكثر الحوادث, وما أكثر الذكريات التي كانت تقفز للمخيلة في الجلسات التذكارية تلك. ( ومع إني لا أريد ذكر طرائف, فليس هنا مكان ذكرها, قفزت بي الذاكرة فورا إلى حادثة جرت في الزاوية الباقية على حالها, التي يطل عليها المقهى المذكور. كان بطلها من كنا نسميه العتّال الأخضر, لارتدائه خلال سنوات طويلة وفي كل الفصول, قميصا اخضر اللون تحول اخضراره, بفعل الزمن , من غامق إلى باهت جدا, إلى فاقد لكل لون, ومع ذلك بقي فيه بعض ما يذكر بلونه الأصلي, الاخضر. كان المذكور قوي البنية والشكيمة, متعدد المهن: ماسح أحذية, حمال. جاهز لكل عمل يدوي. متقن لأصول المصارعة الحرة يمارسها في كل مكان عند اقتضاء الحاجة ومع من لا يعجبه. ولهذا كله كانت له القيادة والريادة بين نظرائه ــ ما زالت القيادة والريادة في بيئتنا للقوة الغاشمة حتى ولو تغيرت الاىسماء والمسميات والمواقع والدرجات ــ أما الضحية فكنت أنا نفسي. كنت يومها عائد من الإعدادية, فاستفرد بي الأخضر المشهور, وأعطاني علبة كبريت فيها عود ثقاب واحد مبلل قليلا, لضعف وقاية جيب القميص المشهور لمحتوياته. أمرني أن أشعل له سيجارته بهذا العود. فان نجحت نجوت, وإلا فالعقاب الشديد واقع لا محالة. حاولت التنفيذ بعد الاتكال على الله, متهيئا في الوقت نفسه لهرب سريع لان النتيجة معروفة سلفا. وهذا ما كان. أنقذتني خفتي وثقل وزنه. ولكن مع ذلك لم اسلم من العقاب بعد أسبوع من ترصده بي. (مازال المنطق العدواني الغاشم يتربص بمن يعتبره مذنبا ويلاحقه لإيقاع العقاب به ولو بعد دهور.). كان ذلك نوع من الصراع بين الأطفال المحرومين, وبين من توفرت لهم بعض الفرص التي قد تقود لمستقبل أفضل. صراع يعبر عن غضب وقهر وحرمان, ولكن التنفيس عنه كان يذهب في الاتجاه الخاطئ.
الأطفال المتسربون من المدارس في أيامنا تلك معدودون ومعروفون بالاسم عند الجميع تقريبا. يمارسون مهنهم تلك بمعرفة أو بعدم معرفة ذويهم. وبعد سن معينة, قبل البلوغ أو في بداياته يسافر بعضهم إلى الخليج. والبعض الآخر إلى الأمريكيتين, فنزويلا بشكل خاص, ومنهم من يعود بثروات لا بأس بها, ويساهمون في أعمار بلدهم الذي عجز عن توفير لقمة عيش كريمة لهم في طفولتهم, أو نوع من الكرامة. ومع ذلك فكلهم مجال ابتزاز في كل مرة يعودون فيها لزيارة الوطن, زيارات مشروطة أو للإقامة النهائية فيه, من أصحاب النفوذ والسطوة, المقيمين في هذا الوطن وعلى صدره إقامة دائمة مانعة لغيرهم, رادعة لهم.
تذكرت كل هذا وأنا أرى أطفال اليوم , في الشارع نفسه, وقد تغيرت بعض المهن, من مسح الأحذية والعتالة السافرة, إلى التجارة. وأية تجارة !! ! تجارة على عربات أو" بسطات" على أرصفة الشوارع, أو صناديق معلقة على الصدور لبيع الجوارب أو العلكة, أو العاب الأطفال, والسجائر, أو الاقلام, أو الالعاب لغيرهم من الاطفال, أو علب الكبريت, وكأننا في زمن فيكتور هيجو ... ينادون على بضاعتهم دون توقف بأصوات صاخبة, معتقدين أن جلب الزبائن يتناسب طردا مع ارتفاع الأصوات ومع الضجيج. إلى جانب هؤلاء الأطفال آخرون, رفاق لهم, يحيطون بهم للمرافقة والتسلية, أو مندفعين لتعلم سر المهنة في عين المكان, على أمل الوصول مثلهم إلى أبواب التجارة وكنوزها. كان هذا في الصيف. وأكد لي بعضهم إن الحال يبقى على ما هو عليه أيام افتتاح المدارس في الشتاء, لأنه لا يتعارض مطلقا مع الدراسة. فهو يجري بعد الخروج من المدارس وفي أوقات الراحة وعلى حسابها, ولا حاجة للأطفال للراحة لانها ضرب من ضروب الكسل وإضاعة الوقت!!!.
كنت قد تحدثت لبعضهم, من أبناء الأقارب والأصدقاء, عن جدوى هذه الأعمال لمن هم في أعمارهم. وعن تعارض ذلك مع الدراسة. فأتت الإجابات مختلفة ــ بعد التفات يمنة ويسرى وفي كل الاتجاهات, وتضرع للسموات طلبا للحماية والستر والمعونة والوقاية. انه الرعب الأزرق من جني ازرق ــ يعيد البعض الأسباب إلى الوضع العائلي, والبطالة المتفشية التي تطال الأهل والأخوة القادريين على العمل. أو لمساعدة العاجزين في الأسرة. أو للمساهمة في علاج مريض. أو لعدم إمكانية السفر لتكوين النفس !!, أو لجمع مبلغ من المال قد يفيد في إكمال الدراسة, إذا ما أوصدت الجامعات مستقبلا أبوابها في وجههم, واضطروا للالتحاق بجامعات الأقساط, الهادفة للثراء على حساب الحظوظ التعيسة من الطلاب أولا. وتقديم الفرص لهم ثانيا لنجاة مؤقتة من اللجوء المبكر للشوارع. أو لان الشهادات لم تعد تنفع في شيء في الحياة العملية, أو لأن مستواها سقط سقوطا حرا. ويضربون عشرات الأمثلة عن خريجي جامعات من فروع مختلفة يبحثون عن عمل فلا يجدونه, حتى ولو كان غير مناسب لدراساتهم التي ضحوا من أجلها بسنين طويلة من حياتهم. ولان هؤلاء الخريجين سيعودون للحياة العملية لممارسة الأعمال التي يمارسها غير المتعلمين, فأذن, والحال هذا, ما جدوى الدراسة ومتاعبها وتكاليفها !!!.
قادتني الصدفة إلى محل تجاري أنيق لبيع ملابس للأطفال القادرين على شرائها, قرب المقهى المذكور, تشرف عليه سيدة كريمة في غاية التهذيب واللطف والأناقة ـ قبل مغادرتي مدينتي كان فيها فتاة واحدة تعمل في محل تجاري مع والدها, فأصبحن اليوم بالمئات ـ دخل علينا صبي في الرابعة عشر من عمره تقريبا, فسألني عن رأيي في السفر إلى فنزويلا, ولا أنسى عندها ما رأيت في عيون السيدة الرقيقة صاحبة المحل: قلق وحيرة وخشية. علما بأنها هي نفسها كانت مغتربة في البلد المذكور, كان يقلقها الوضع الأمني هناك وما يتعرض له المغتربون من حوادث قتل وسطو واختطاف. فكيف لا تقلق إذا كان طالب الاغتراب ابنها ؟ .
أمام نظراتها المؤثرة المعبرة التي لا أنساها, أجبت السائل باني لا استطيع النصح بما لا اعرف, وان كان لابد من السفر. والسفر يجب أن يكون استثناء, لان بلداننا أحق بنا, لها حقوق علينا ولنا عليها حقوق, فليكن لمثل من في عمره للدراسة, وبناء مستقبل أفضل. (كدت أقول, وأنا أرى في عيون الصبي عدم ارتياح كاف, وآنا مثلك اكره النصائح والوعظ. ما أكثر الوعاظ في بلداننا. حتى أنا نالني منها الكثير في عمري هذا, وبعد تجربتي التي احسبها غنية. فللكبير حق نصيحة الصغير. وللرجل حق النصح والوصاية على المرأة, بما فيه حق استمرار حياتها او انهائها. وللحزبي والمتنفذ حق إرشاد وتوعية وتوجيه وقمع المواطن, في كل المراحل العمرية والمستويات الثقافية. وليس للمواطن إلا واجب السمع والطاعة. ). وكنت في الوقت نفسه ارقب خفية وجه الأم علي أتبين اثر كلامي في ملامحه الرقيقة. واعترف, رغم كوني مغترب, ومن المفترض أن أدرك مثل هذه المشاعر, بعدم مقدرتي على قراءة كل شيء فيه. وليس كل ما في القلب مقروء على الوجه. قلب الأم لا يعلم كامل مكنوناته إلا خالقه.
آلاف الأمهات والآباء في وطننا يقلقهم المصير المجهول لأبنائهم. فلا يريدونهم باعة متجولين, وأصحاب مهن منقرضة تعود تدريجيا للظهور. ولا أميين, ولا أنصاف متعلمين. ولا خريجي جامعات, بشهادات منقوصة مشكوك بقيمتها العلمية, ولا عاطلين عن العمل, أو في بطالة مقنعة. ولا موظفين مكدسين في مكاتب عملهم الاساسي فيها اهانة المراجعين. ولا نهبا للقلق والخوف من المجهول ومن الملاحقات الأمنية, ومن غموض المصير. أطفال لم يلدوهم ليصبحوا مهاجرين أو مشاريع مهاجرين. ف" أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض". يريدون أن يكون مشيهم على أرضنا آمنا ومتزنا وواثقا, حاضرا ومستقبلا.
إنهم أبناء الوطن, لم يخلقوا للصراخ في طرقاته وشوارعه لبيع غير مجد, ولا للتشرد فيها. إنهم المستقبل. ولا مستقبل لوطن أبناؤه في الشوارع. لهؤلاء حقوق عليه. وله عليهم بعد ذلك ومقابله واجبات. لهم عليه حقوق مواطنية كاملة. حقوق الوصول إلى العمل الشريف, وتوفير الكرامة الإنسانية. حق المساواة مع غيرهم ممن يعيش في هذا الوطن ويعتبر نفسه المالك الشرعي له. الحق في طفولة متزنة ومستقرة. و تنمية شاملة, جسدية ونفسية. الحق في تعليم مجاني, في كل المراحل, هادف ومخطط وعصري.الحق في علاج مجاني. حق الضمان الاجتماعي. حق البقاء مع أسرته والاستقرار بأمان. حق ممارسة مهن شريفة غير مهينة أو ممتهنة. حق ضمان المستقبل.
عندها, وعندها فقط, يصبح الوطن للجميع. وله على الجميع واجبات المحبة والولاء, والتضحية والدفاع عن قيمه وترابه. وعندها, وعندها فقط, تصبح العلاقة علاقة بين مواطن ووطن.
د. هايل نصر.







التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات