أطروحات حول المسألة اللغوية في المغرب
د.عبد الصمد بلكبير
1- لا يتصور الإنسان بدون اللغة، لقد ارتبط وجودا بالكلام وباللغة، وصفا لمحيطه وتصنيفا له وتخزينا لمعارفه وتجريدا وتركيما لها، وأداة تواصل في ما بين أفراده وجماعاته عموديا وأفقيا (تزامنا وتزمنا). إنها إذن وأيضا أداته الرئيس لتشكيل وعيه ووجدانه وضميره... ووسيلته للتعبير عنها جميعا.
بهذا المعنى، فهي ليست وحسب أداة كغيرها من الأدوات التي توسل ويتوسل بها الإنسان لمعرفة العالم ومعرفة ذاته ولأجل تغييرها بما يلائم حاجياته ومطامحه. إنها أكثر من ذلك بكثير، كل الأدوات ظواهر تاريخية أما اللغة فهي حالة وجودية.
يكشف المفكر الكندي مارشال ماكلوهان الأطروحة الثورة في عصرنا «الوسائل رسائل» فما بالنا باللغة التي صنعت وتصنع الإنسان وحفظت تاريخه ووحدت شعوبه وأممه وأسست دوله وكشفت وعبرت عن مكنوناته وسمحت بتواصله وتكامله مع بعضه البعض وأنسنت وميزت بعده الحيواني... وجعلته سيدا على العالم في انتظار أن تسيده على مصيره أيضا.
إن تاريخ الإنسان وتاريخ حضاراته يكاد يختصر في تاريخ لغاته المعروف منها والمجهول.
2- إذا كان تعدد اللغات قد ارتبط عموما بتنوع الجغرافيات. فإن تاريخ المغرب والمغاربة قد ارتبط تاريخيا وحضاريا بجغرافية جنوب وشرق المتوسط خاصة، تفاعلا وتنقلا بشريا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا... وبالتالي لغويا. وآثار ذلك ومظاهره لا حصر لعددها. لعل آخرها وأهمها حركات المساهمة في تحريره، ومن تم تأسيس دوله المستقلة وتعريب إداراتها ومدنها ومدارسها.
ليست العربية أو غيرها، لغة عرق، ذلك لأنه ليس ثمة أعراق، بل فقط جغرافيات وقبائل وقوميات. «كلكم لآدم وآدم من تراب» إن الشروط والمصالح التي تفرضها الجغرافية، هي بالذات التي تفرض الاستراتيجيات اللغوية والثقافية (بما فيها الدين) والسياسة كذلك.
إن اللغة تورث من الأبوين.. ولكن أيضا من اختيارات قبائل وشعوب في سياق اختيارات أخرى ذات طبيعة استراتيجية بل ومصيرية غالبا. وهو أمر لا يخص شعوبنا بل يعم غيرها جميعا.
إن شعوبا عريقة في جغرافيتنا المشتركة لم يقتصروا على الاندماج والمساهمة في تأسيس وبناء دولة وحضارة الإسلام البديلة والخليفة للدولتين الإقطاعيتين والعظميين عصرئذ (بيزنطة وفارس). وذلك مثل مصر الفرعونية والعراق العاشوري ولبنان الفينيقي.. بل لقد تخلت جميعها عن لغاتها وتبنت مطلقا دولة ومجتمعا اللغة العربية.
تميز سلوك المغاربة في هذا الصدد بنوع من المزاوجة اللغوية المتماسكة والمتكاملة والخلاقة، ما بين العربية لإدارة الدولة ومجتمعات المدن والمدرسة... والبربريات للتواصل المجتمعي (الفلاحي، القبلي).
إن العربية كغيرها، هي لغة من اختيار المتعامل بها. فلم يتجاوز مجموع مهاجرة العرب نحو الشمال الإفريقي مئة ألف، خمسها توجه نحو شبه جزيرة إيبريا (من مجموع مليون هاجروا من شبه الجزيرة العربية). إن إدارات الدول المغاربية هي التي تبنت عن وعي وقررت عن مصلحة إستراتيجية وحضارية، العربية لغة لمدارسها وتجارتها ونخبتها... وجميع قادتها العظام كانوا برابرة كما هو معروف من عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين إلى المهدي بن تومرت وعبد المومن ويعقوب... بلوغا إلى الذين يحكمون المغرب المعاصر فهم جميعا أبناء مغربيات بربريات حرات وعظيمات.
3- لا يمكن الحديث عن «الاستعمار» بالمعنى المخصوص للكلمة، قبل العصر الحديث. أي مع نشأة الأسواق والدول المركزية والقومية، والاستقرار الجغرافي للشعوب... قبل ذلك كانت أرض الله واسعة لتنقلات وهجرات الجماعات «السلالية» العائلات والعشائر والقبائل... أو روابط ملية عقدية و/أو سياسية إمبراطورية (حكومات ذاتية إقليمية) فلم يكن مفيدا ولا ممكنا للمركز الإمبراطوري أن تتبنى الأقاليم المرتبطة به أو التابعة له. لغة عاصمته. بل العكس، لقد كان امتلاكها من قبل الأطراف سلاحا يستعمل في سياق المنافسة والتكافؤ مع نخبة المركز وأيضا لتعميق وتوسيع درجة ومستوى الاستقلالية عنه، وفرصة بالأحرى للمساهمة في تنمية الثقافة وبناء الحضارة الإنسانية.
ليست جميع اللغات (وهي بالآلاف) وفي جميع الشروط الجغرافية والتاريخية مؤهلة موضوعيا للقيام بأعباء تأسيس الدول وبناء الحضارات. وعندما تتأهل إحداها للقيام بذلك، فإنه يحصل بمساهمة وتعاون واندماج... لغات وشعوب متعددة. كذلك حدث للعربية بين جغرافياتها ولغاتها المتعددة (لهجاتها) ويبينها مع بقية لغات الشعوب-الدول التي ساهمت في إعادة إنتاجها وخاصة على مستوى الكتابة (الفرعونية، العراقية، الشامية، الفارسية، الإفريقية، والبربرية).
إن العربية اليوم، كما كانت بالأمس هي لغة من تبناها نطقا و/أو كتابة. والعربي لذلك هو من ينطق بها أو يسكن جغرافيتها الطبيعية والتاريخية.. تماما مثلما نعتبر الألزاسي فرنسيا أو...
لقد ساهم البربر في صناعة عربية التراث وعربية اليوم، بنفس درجة مساهمة غيرهم في الجغرافيات العربية القديمة والوسيطة والحديثة.
4- إن تجريد وترميز الأصوات اللغوية في أشكال كتابية، هو امتياز حقا، ولكنه تاريخي، بمعنى أنه حادث، طارئ ومصطنع، ارتبط باختراع آخر هام، في التاريخ الحضاري للبشرية هو الدولة وإداراتها. نستطيع لذلك أن نحدد عموما تاريخا تقريبيا لظهور وصناعة الكتابة (= صناعة التاريخ) ولكننا لا نستطيع ذلك بالنسبة للغة نفسها التي ارتبط وجودها بوجود الإنسان نفسه وبالعكس.
لقد تعددت وتنوعت علاقات الأقاليم والشعوب التي ساهمت في تأسيس دولة (دول) الإسلام مع اللغة العربية. فالروس وثقوا كتابها الثاني الأهم والإيرانيون اندمجوا فيها مطلقا وصنعوا معجمها وقعدوها (يسروا تعليمها والإنتاج بها) ولقحوا آدابها. والمصريون صبوا لغتهم في معجمها واقتصر الهنود والأتراك والأفغان... إلخ على اقتباس حروف كتابتها للغاتهم... أما المغاربة فلقد كان اختيارهم أمثل، مآخاة اللغتين وتفاعلهما وتوحيد حروف كتابتهما وتوزيع الوظائف والمهام فيما بينهما بشكل متكامل ومتعارن ودونما نزاع من أي نوع، بل إن كبار نحاتها وأكثر المتحمسين في الدفاع عنها كانوا مغاربة انطلاقا من الجزولي مرورا بالمكودي وابن آجروم وابن مالك وحتى الرمز الثقافي الوطني الأبرز في عصرنا الموسوعي الأجل محمد المختار السوسي.
قلنا «اختيارا أمثل» ونقصد البعد النسبي للمعنى، كما هو أمر جميع المعاني والمفاهيم، ذلك لأن ما كان يعتبر ميزة رمزية قد يمسى في شرط تاريخي آخر ولاحق منقصة... وبالعكس. وهو اليوم ما يعتبر أفقا حضاريا لعصرنا.
لا يتصل الأمر بالكتابة وحسب، بل بالدولة التي هي أمها وابنتها في نفس الوقت.
إن مظهرا من أهم مظاهر الأزمة بل الأزمات الراهنة في العالم، هو أزمة إدارات دول لم يعد منطقها ولم تعد هياكلها تستجيب لمتطلبات التطور العلمية والتقنية والثقافية... الراهنة، لقد استنفذت أغراضها السابقة أو الأصلية وأضحت معرقلا للتنمية وللتطور لا مساعدا عليه بالأحرى. تستحيل تدريجيا إلى صنم يحيط به سدنة يحتكرون الخيرات ويوزعون الخدمات فيما بينهم. والضبط وحتى القمع لمجتمعاتهم.
إنها الدولة المركزية، والحال إن الفضيلة الرئيس للدولة الحديثة والذي هو الديمقراطية لم تعد ممكنة مع المركزية. بل أضحت نقيضا لها. إن الدولة المعاصرة اليوم أمامها منفذ ومنقذ وحيد لإعادة إنتاج مشروعيتها هو التخلي عن كثير من صلاحياتها التقليدية على مستويين:
أ-أفقي، وذلك باتحادها ضمن فيدراليات أو كنفدراليات توحد أسواق الأمم التاريخية وتلغي الحدود بين شعوبها (الاتحاد الأوربي).
ب-عمودي، وذلك بتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي للأقاليم والجهات (نموذج آخر الديمقراطيات المعاصرة: إسبانيا وجنوب إفريقيا).
تطوران متلازمان ومترابطان وفي علاقة جدلية: سياسي وثقافي.
إعادة الاعتبار للجغرافيا، وتعاظم أهمية الجماعات الصغرى، الأقاليم والجهات... الهوامش بل والأفراد... على حساب المراكز. يرتبط ويتفاعل مع التناقض التدريجي لأهمية الكتابة بالنسبة للثقافة وللتربية والتعليم، مقارنة إلى الشريط والقرص والغناء والتلفزة والسينما والانترنت والهواتف والمسرح والمتحف والمهرجان والاحتفال والرقص والرياضة والسياحة والترجمة الآلية، والأدب المحكى... إلخ.
مستقبل البربريات والعربيات.. وغيرهما، يكمن في الرهان على هذا الأفق المستقبلي لا في «التنافس» مع العربية على الكتابة والتي هي أمر في سبيله إلى التضاؤل دورا لا التعاظم، وذلك ارتباطا مع تضاؤل أدوار الدولة التي هي وليدها ومنتجها في آن معا.
إنها حالة نموذجية لما يسمى بـ»حظوظ التخلف» فرصة الأقاليم والجمعيات والجماعات والأفراد لكي يبدعوا ويبتكروا انطلاقا من موروث مساعد، أما المراكز، فلم تعد تنتج وتعيد إنتاج سوى ما نعرفه ونعاني منه جميعا.
صناعة المستقبل تتطلب خيالا وذاكرة أعمق. لا إعادة إنتاج لتجربة يستحيل تكرارها إلا على سبيل هزلي وبالتالي مضحك.
لقد تأسست الدولة المركزية والديمقراطية الحديثة في الغرب.. ومدرستها وثقافاتها «الوطنية» على حساب لغات وثقافات هوامش عواصمها. وديمقراطية اليوم تسمح بالحفاظ عليها وذلك بجميع فضائلها وخصائصها التعددية التلقائية الحميمية الحكمية الصورية الحركية... والشفوية.
إنه الجهاد الأفضل، وفيه يفترض أن يتنافس المتنافسون على مستوى الحفظ والخزن والتوثيق والتصنيف والتسييد والتنمية والاستثمار الثقافي والفني والتربوي والتعليمي... كما يصنع المقاومون الثقافيون الفلسطينيون اليوم للمحافظة الإستراتيجية على كيانهم الثقافي من التخريب والانتحال والسرقة... وسبيلا لاسترجاع الأرض والاستقلال والسيادة الوطنيين.
5- بعد فشل تجربة الرهان على فصل اللغوي البشري والأرضي، عن الجوهر الديني في القرآن، وما نتج عن ذلك عمليا من تقييد النمو والتطور اللغوي بثبات النص الديني، تحقق الكثير من ذلك في حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية اليومية، كما في آدابهم نفسها. الأمر الذي تولدت عنه أشكال ولغات وبلاغة راقية، انتبه إليها رجل عبقري هو ابن خلدون ودعا إلى تبنيها في التربية والتعليم... تمثلت غالبا في الأزجال والكاكان والمواليا والدوبيت والزجل والموشحات والسير... إلخ، وكان من أرقاها ظاهرة الملحون أو المألوف في الشمال الإفريقي.
لقد كان الهجوم السياسي-العسكري والتجاري لشمال الأبيض المتوسط على جنوبه واحتلال جميع سواحله تقريبا وتحويل التجارة نحو المحيط... تهديدا للوجود العربي نفسه، الأمر الذي انتهى إلى السيطرة العثمانية التي حمت العقيدة والأرض ولكنها لم تحترم حرمة اللغة، فاضطرت لذلك النخبة العربية إلى العودة نحو القديم وتقليده وحتى اجتراره للحفاظ عليه. وتحولت بذلك الفصيحة من أداة تواصل وتعبير إلى متون مقدسة تحاط بالهوامش والتفاسير والتعليقات والشروح.. خوفا عليها وحفظا لها.
التدخل الخارجي أربك مسيرة الإصلاح اللغوي والذي هو شرط أي إصلاح ثقافي-ديني واجتماعي-سياسي.
6- لقد تزامن دخول العرب فجر نهضتهم وحداثتهم بليل الاستعمار، وهكذا فلقد اضطروا إلى دخول العصر الحديث من بوابة الاحتلال والاستعمار الرأسمالي الأوربي، متوسلا للتحديث بالبندقية والتفرقة العنصرية وتخريب الذاكرة وتمريغ الكرامة ونزع السيادة... إلخ.
ولأن الرأسمالية الفرنسية (وأحرى الإسبانية) كانت أقل نضجا من غريمتها الإنجليزية. فلقد اضطرت إلى مساومة أرستقراطيتها المحلية وتصدير تناقضاتها معها نحو الشمال الإفريقي خاصة. الأمر الذي انعكس بعواقب أفظع على مستوى الموقف الثقافي-اللغوي والديني الفرنسي من الميثاق الثقافي الوطني. تجلى ذلك خاصة في الهجوم الفاضح والمعلن على القيم الدينية والمجتمعية واللغوية والأخلاقية... سواء بالتنصير أو محاولة عزل سكان الجبال عن السهول والمدن أو اصطناع التناقض بين العربية الفصيحة وأختيها الدارجة والأمازيغية، وتشجيع العرف، على حساب الشريعة والرجعة نحو الوثنية في سياق تشجيع الطرق والزوايا وتعهير النساء وتصديرهن لجبهات الحروب الاستعمارية... إلخ. جميع ذلك وغيره ضاعف من جهته في عودة المغاربة بمن في ذلك نخبتهم نحو التقليد والتقليدانية على جميع المستويات بما في ذلك اللغوية والثقافية والدينية خاصة.
ليس التقليد «طبيعة» مغربية وعربية، ولا هو بالأحرى ظاهرة لغوية ثقافية وأحرى دينية. إنه المنتوج الحتمي لتحالف الرأسمال الأوربي مع إقطاعه ومع الإقطاع الوطني المحلي. إن التقليدانية هي الوجه الآخر، الوجه الثاني للحداثة الاستعمارية.
7- لعل أخطر ما غرسه الاستعمار في بلادنا ونماه ونشره، ولا تزال عواقبه متجذرة حتى اليوم. هو الازدواجية، وذلك على جميع المستويات الترابية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية... مجتمعان في رقعة جغرافية واحدة كما كان يعبر القائد المفكر عبد الله إبراهيم. لو اقتصر ذلك على المستوى الأفقي لها، لقد كان وما يزال على المستوى العمودي أيضا وهو الأسوأ وبالغ الخطورة حاضرا ومستقبلا. إن التفاوت بين الجهات وبين الأقاليم والمدن بل وبين الأحياء في المدينة الواحدة... لهو أخطر من التفاوت الاجتماعي، فما بالنا إذا اختلط به وتداخل معه ووقعت تزكيته ثقافيا ولغويا أيضا، ليس التعايش هو ما يحكم العلاقة بين المجتمعين واللغتين والثقافتين... بل الكراهية والحقد والحرب الكبيتة أو المؤجلة.
لقد بادرت عموم فئات الطبقة الوسطى ونخبتها القائدة في الحركة الوطنية إلى مقاومة هذا الوضع في سياق مقاوماتها للاستعمار، وتمكنت فعلا وبتحالف مع القصر من إنجاز الكثير في هذا الصدد. ما أدى إلى إعادة اللحمة الوطنية والوحدة المجتمعية وذلك خاصة بجملة آليات وأدوات أهمها كان الإصلاح الثقافي-اللغوي وتأسيس المدرسة الوطنية وبناء الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة ونهضة الأدب... مستعينة على جميع ذلك بمنجزات شقائقها في المشرق العربي... وتمكنت لذلك من تحقيق مرحلة من استراتيجية الحرية والاستقلال الوطنيين.
لم يكن خطاب «الازدواجية»، كما هو حاله اليوم أيضا، بالخطاب العلمي أو الواقعي، إنه بالأحرى مخادع ومغشوش. ذلك لأن اختلال العلاقة بين المستويين في الاقتصاد والمجتمع والثقافة واللغة... لا يسمح بالتكافؤ بله التعايش والتضامن بل فقط بالهيمنة والسيطرة للأقوى على الأضعف، وهو ما كان وما يزال حاصلا اليوم بين المجتمعين واللغتين.. في جغرافية الوطن الواحد.
8- واليوم، نحن أمام جديدين مؤثرين في عصرنا:
أ-تعاظم أهمية العلم والثقافة.. في الإنتاج والمعاش ومن تم في السياسة مقارنة إلى دور الوسائط السابقة التي أضحت تقليدية في الإنتاج.
ب-تعاظم الصراع واحتدامه بين الرأسماليات الكبرى في العالم، الأمر الذي ينعكس بالسلب على الشعوب الضعيفة أو المستضعفة. وذلك من خلال استيرادها لتناقضاتهم ولصراعاتهم.. بما في ذلك خاصة حول السوق اللغوية...
ت-في جميع ذلك وغيره، لم يعد المستهدف للاستغلال وحسب، هو الأرض ما فوقها وما في باطنها أو قوة العمل البشري... بل الإنسان نفسه والأوطان كوعي وكذاكرة وكخيال وكأذواق وكسلوك... باختصار كثقافة ولغة وخصوصية أو هوية جغرافية وتاريخية.
إذا كان ذلك وغيره يعتبر حظا للتحرر وللتقدم في إطار إستراتيجية راشدة، فإنه على النقيض من ذلك يضاعف الفاقة الاقتصادية والبؤس الثقافي في إطار سياسة للتبعية. وهو ما يحدث حاليا وتؤدي عواقبه شعوب المغارب مضاعفا بما بلغ درجة الحرب الأهلية في الشقيقة الجزائر.
في هذا الإطار تلاحظ جملة أمور:
أ-محاولات الإمبريالية الأمريكية فتح دكاكين لها في السوق اللغوي المغربي وذلك على جميع مستويات التعليم بما في ذلك الأولي والمؤسسات الثقافية..
ب-محاولات الامبرياليتين الفرنسية والإسبانية الدفاع عن مصالحهما في المغرب بل وعلى مستوى وطنيهما.. وذلك بالرهان على المدرسة المغربية وخريجيها من الأطر والعلماء...
ت-في الحالات الثلاث وبدعوى تجفيف منابع الإرهاب المتمثل عندهم في القرآن الكريم، يتم تعاونهم جميعا على حرب اللغة العربية الكلاسية، وأيضا على العربية الحديثة أو الفصيحة.
ت-اصطناع التناقض ومن تم الصراع بين الفصحى وشقائقها من اللغات الإقليمية المغربية عربية كانت أو بربرية.
ث-محاولة اصطناع «لغة مغربية» هجينة وسوقية وغرائزية منحطة وذلك من خلال:
1-الإذاعات المحلية والتي يبدوا أنها لا ترخص، إلا تحت هذا الشرط.
2-الأفلام الممولة من قبل المركز السينمائي المغربي.
3-الأفلام المدبلجة من قبل التلفزة المغربية
4- عض الصحف المختصة في تشويه العربية، وبعض الصحفيين المأجورين والمبثوثين في بعض الصحف الخاصة (وهي ليست بالضرورة مستقلة).
5-التوظيف المطلق للقناتين الرسميتين لهذا الغرض.
6-الاختراق المتدرج لبعض البرامج المدرَّجة بما فيها نشرات أخبار القناة الوطنية الأولى نفسها.
7-محاربة «الأمية» بالدارجة (؟!)
8-الحرب الشاملة على الحرف العربي على مستوى الإعلانات واللافتات والواجهات التجارية.
9-تشجيع التعليم الخاص التجاري منه والأجنبي الاستعماري.
10-تكريس سيادة اللغة الأجنبية الفرنسية في الاقتصاد والإدارة والتعليم العالي العام والتجاري المغربي منه والأجنبي.
11-إبعاد اللغات البربرية عن تراثها من جهة وعن شقائقها العربية وذلك بتبني الحرف الفينيقي لكتابتها.
9- لا يقتصر التهديد في حقيقته على شعوب الجنوب المستضعفة وفي المقدمة منها العربية والإسلامية، بل إنه يعم الإنسانية جميعها بل والأرض كذلك.
إن الرأسمالية ونخبتها المنظرة والحاكمة... تتخلى تدريجيا عن إرثها الإنساني والحداثي-الديمقراطي... وفي سياق دفاعها عن مصالحها، تخرب الكثير في البيئة والطبيعة: الضجيج، تلويث المحيطات والبحار والأنهار التصحر تناقص الغطاء والتنوع النباتي والحيواني، ارتفاع الحرارة وثقب الأوزون.. إلخ.
وفي الاقتصاد: المضاربة، الاحتكار، صناعة وتجارة السلاح، واصطناع الحروب، والتبييض والتهريب، وتجارة المخدرات والقمار والرقيق الأبيض... إلخ.
وعلى مستوى القيم الثقافية: شيوع النزعة الاستهلاكية، احتقار العمل، المتعة الغريزية، سيادة الإعلان والدعاية وما يسمى بالثقافة الجماهيرية والتمييز القومي والعدمية والانتهازية والأنانية والنزعات الانتحارية...إلخ.
لا يتصل الأمر إذن وفقط على انتهاك الخصوصيات الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصائرها وبناء دولها الحرة والمستقلة وذات السيادة... إلخ. بل إن المواطنين في الغرب يتعرضون هم أنفسهم لأزمات لا يبدو أن لتواليها حدا ستقف عنده.
إن الاعتداء على اللغات الوطنية والعدوان على الخصوصيات الثقافية هو جزء من عدوان اقتصادي، سياسي شامل لنظام العلاقات الرأسمالية الظالمة في مراكزها والاستعمارية لأطرافها، إنها الأزمة أو الأزمات التي ينتجها الشمال وتصدر عواقبها بشكل مضاعف نحو شعوب ودول الجنوب، عساها تنقذه ليس على المستوى الاقتصادي وحسب بل والثقافي-اللغوي كذلك، وأيضا إعاقة نهوضها منعا لمنافستها المحتملة...
10- وبالنسبة للمغرب، فإن ما يعاني منه شعبه على المستوى الثقافي
اللغوي وبالتالي الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي هو الفرنكوفونية وهي في منظور هذا البيان غير الفرنسية. وهنا يجب التوقف للتوضيح.
إن اللغة الفرنسية، كغيرها من لغات مختلف الشعوب، هي بالنسبة لشعبها مثل العربية بالنسبة لنا. ولا تناقض لذلك لدينا معها بل على العكس، إنها لغة تاريخية عظيمة لشعب عظيم وتحمل في ذاكراتها ونصوصها من القيم والخيرات الثقافية ما لا يمكن لعاقل أن ينكره. خاصة في عصري التنوير ثم الثورة الفرنسية، التي تعتبر أعظم حدث توجت به الإنسانية عصر حداثتها ودمقرطتها وإعلان حقوق الإنسان فيها.
أما الفرنكوفونية فهي أمر آخر تماما، إنها التوظيف الاستعماري للغة الفرنسية لا من أجل الحوار الحضاري والمثاقفة والتضامن ودعم الأقوى للضعيف وتسييد قيم الحرية والمساواة والإخاء... بل لأجل السيطرة والاستغلال وخلق وتأبيد وضع التبعية والاستضعاف.
إن شعوبنا هي اليوم أحوج إلى قيم وفضائل المؤسسين وبناة الثقافة الفرنسية ومن رموز الإنسانية التحررية من أمثال ديكارت فولتير ومونتسكيو وهيجو و... وأكثر من له مصلحة في ترسيخها وإشاعتها هم الناطقون باللغة العربية.. أما النخبة الفرنسية السائدة والحاكمة اليوم.. فهي أكثر من تخلي ويتخلى يوميا عن تلك القيم النبيلة، لا على مستوى علاقات الدولة الفرنسية بشعوب ودول مستعمراتها القديمة وغيرها... بل على مستوى علاقاتهم بمهاجريهم إليها وأيضا وبالأحرى بالشعب الفرنسي نفسه.
نعم إذن للغة والثقافة الفرنسيتين ولا الفرنكوفونية.
نعم للتعدد اللغوي والثقافي ولا للسيطرة والاحتكار اللغوي.
فنفتح نعم ولكن على جميع اللغات النافعة لا السجن بين جدران لغة واحدة، هي نفسها تعاني في ظل سيادة حكم بئيس من حالات تقهقر يومي في فرنسا وعلى صعيد علاقتها الخارجية جميعا.
«إن دولة تحتل أرض.. شعب آخر، لا يمكن أن يكون شعبها حرا»
11- إن الوجه الآخر للفرنكوفونية، والخصيم الثاني للعربية هو التقليدانية وذلك من حيث إنها تسوغها وتتكامل معها وتتوزعان بينهما الأدوار، إنها الازدواجية القاتلة مرة أخرى. اللغة الأجنبية للحياة العملية المنتجة في الاقتصاد والإدارة... والعربية للمحافظة على التقاليد الدينية والاجتماعية...
ارتبطت سيادة الفصيحة الكلاسية على الإدارة والعلم في الماضي بإصلاحها (ع. الملك بن مروان) ولولا ذلك لبقيت هامشية أمام لغتي الحضارة القديمة. وكذلك هو الأمر اليوم، لا يتصل وحسب بإحلال لغة مكان لغة دونما تأهيلها والاستعداد لإصلاحها.
إن المحافظ الحقيقي دائما هو المجدد، أما الخوف على العقيدة من ذلك فهو خطأ سيؤدي إلى ضياعهما جميعا. إن الذي يحفظ القرآن اليوم هم في أكثريتهم الساحقة غير عرب أصلا.
وهذا الأمر لا يعني بحال تأجيل التسييد إلى حين الإصلاح، إن شرط الإصلاح الأول هو إقحامها في الإدارة والمصنع والتعليم العالي والتقني... وانفتاحها خلال ذلك على جميع ما يمكنها الاستفادة منه. هذا فضلا عن الحاجة المستعجلة إلى تبني ما هو معروف ومطروح وموروث من اجتهادات ومقترحات بل واستعمالات وقع التخلي عنها في زمني التقليدانية قبيل وخلال التعرض للاحتلال الأجنبي.
عزل اللغة العربية عن الحياة الاقتصادية والإدارية... وعن البحث العلمي... ليس وحسب تهميش لها. بل هو اغتيال مع سبق الإصرار والترصد..
12- الأنكى في موضوع محاولات النفوذ والسيطرة من قبل الفرنكوفونية على شعوب الشمال الإفريقي وعموم مستعمراتها السابقة. أن يتم ذلك تمويلا على حساب مداخيلنا الوطنية الفقيرة أصلا، يقع ذلك في الاقتصاد والإدارة كما في التعليم والإعلام والثقافة... إن فرنسا التي تتفق على حماية لغتها ونشرها، أكثر مما تتفق على دفاعها الوطني. بل وتعتبر ذلك من صلب وفي المقدمة من جبهات الدفاع على سيادتها واستقلالها... لا تقتصر على ذلك، بل ترغمنا نحن ضحايا التبعية اللغوية لها والاغتراب الثقافي على «مساعدتها» في تمويل برامجها الإنقاذية تلك للغتها ولثقافتها أمام المزاحمة الدولية الشديدة وأمام تناقص أعداد الناطقين بها، ما ينعكس علينا في وجه ثالث أقبح هو استنزاف أطرنا بأبخس الأجور مقارنة إلى ما صرفته عليهم دولهم وشعوبهم وأسرهم من وقت ومن أموال.
إن هذا التقهقر اللغوي-الثقافي للفرنسية على الصعيد العالمي. يؤثر ويعكس في نفس الوقت التقهقر السياسي لنخبتها الحاكمة مقارنة إلى التراث التنويري والتحرري لفرنسا الحداثة والديمقراطية. إن صعود اليمين الفرنسي وتحكمه.. ارتبط بجملة تراجعات ذات طبيعة استعمارية وعنصرية (العودة لسياسة الأحلاف العسكرية الاستعمارية، التراجع في المسألة الفلسطينية، الموقف من الهجرة والمهاجرين، التطرف العلماني، التدخلات العسكرية في إفريقيا...إلخ) ليست الفرنكوفونية إذن بالسياسة الخاصة أو المعزولة عن استراتيجية تراجعية عامة حتى بالمقارنة إلى الإرث الدوغولي.
13-إن وضعيتنا اللغوية في ظل سيادة الاستعمار الجديد هي اليوم أسوء مما كانت عليه في المرحلة السابقة للاستعمار.
لقد كانت إدارة الحماية تحترم درجة ما من «الازدواجية، وتحفظ للمجتمع درجة من المنعة وحماية الخصوصية الثقافية... أما اليوم:
أ-لم تعد للإدارة الاستعمارية الجديدة أدوار تحديثية... بل تخريبية غالبا...
ب-أضحت الفرنكوفونية دعوة للنخب الاقتصادية السياسية الحاكمة وأكثرية من هم في صفوف «الإصلاحية».
ت-مخططات اصطناع وتعميق التناقض والصراع داخل اللغات الوطنية.. أضحت مضاعفة ومديرة بشكل منهجي وتدريجي وعنيف...
ث-تعليم البعثات بلغ درجة من الفساد ومن الإفساد، أمسى معه تهديدا وطنيا ماثلا: تدريس العربية الدارجة / نشر الانحلال والتشجيع على المخدرات... إفساد مسبق للنخبة المنتظر أن ترث سلطة الحكم وسلطة الاقتصاد.
ج-أما التعليم الخاص والذي كان «حرا» فلقد تحول عموما إلى «تجارة» يقلد حرفيا أحيانا تعليم البعثة الفرنسية.
ح-لقد بلغ الأمر حد اقتراف الجريمة، عندما يفرض على أطفال الحضانة والروض فضلا عن الابتدائي... أن يتلقنوا لغة غير لغة الأسرة والمحيط الاجتماعي. إنه اغتصاب ثقافي وجريرة بالنسبة للشرعة الدولية لحقوق الطفل.
(أين هي هيئة وجمعيات حقوق الإنسان ؟!)
14- الانقسام المصطنع والعمودي للشعوب والأمم على المستوى اللغوي-الثقافي.. يعتبر خطرا وتهديدا موضوعيا بالحروب الأهلية والتطهير البشري-الثقافي. والحال أن بلاد المغارب هي موضوعيا توجد في هذا الشرط وتستهدف لهذه الغاية وما حالة الشعب الجزائري الشقيق بالبعيدة عنا زمنا وجغرافية. ووطننا راهنا هو اليوم يعيش نوعا من الحرب الأهلية الثقافية الصامتة. وما ردود الفعل الدينية والسلفية وحتى المتطرفة والعنيفة سوى مظهر من ردود الفعل تلك أمام العدوان اللغوي-الثقافي الفرنكوفوني الغاشم.
إن التعدد الثقافي واللغوي للمغاربة هو إغناء لوحدتهم ولنوعهم الخاص في العالم. أما تعايش لغتين وثقافتين... فهو مستحيل عمليا وهو لذلك يستبطن صراعا موضوعيا حول السيادة وهو لذلك أيضا مرشح وفي كل لحظة للتصعيد نحو عنف الدفاع أمام عنف العدوان واضطهاده لمقومات وخصوصيات الشخصية الوطنية المستقلة وذات السيادة على أرضها وشعبها وإدارة دولتها واقتصادها...
15- إن أحد شروط التنمية الإنسانية هو محاربة الأميات وهذه لا يمكن أن تتم بلغة أجنبية، وأحرى إذا كانت ذات طبيعة استعمارية. ولهذا نعاين كيف أن وطننا وبعد أكثر من نصف قرن من استقلاله المفترض، لازال يحمل عار انتشار بل وسيادة الأمية بين صفوف شعبه خاصة نسائه وفلاحيه.
إن العواقب القبيحة لذلك لا تنعكس وحسب على مستوى الانتاج الاقتصادي والاجتماع والسلوك البشري... بل وعلى المسألة الديمقراطية نفسها أي مستوى مطامحنا في دولة الحق والقانون والمؤسسات... إذ أن انتشار.. في حالتنا، سيادة الأمية تعرقل ذلك ولا تسمح به. وتشجع على نقيضه... الاستبداد وفكر الخرافة والسحر وسلوك التواكل واحتقار الزمن والعمل والإنسان.
إن شعوبا غاية في الفقر بل ومحاصرة، تمكنت من القضاء على الأمية في صفوف شعوبها بلغاتها الوطنية وذلك في شروط أسبق وأسوء من شروطنا الوطنية الخاصة.
إن الشعوب الأمية، لا تستطيع في عالم اليوم أن تنافس.. وبالتالي أن تجد لها مكانا محترما في التوزيع الدولي للعمل والإنتاج... إلا ما كان من الاستجابة لحاجيات الآخرين، بما في ذلك القبيحة منها..
16- لا يوجد عيب في اللغة العربية نفسها يبرر تهميشها بل وحتى العمل على اغتيالها جميع اللغات مؤهلة موضوعيا للاستجابة لحاجيات ومطالب الإنسان في الاقتصاد والإدارة والمعرفة والعلم. المشكل إذا وجد، يكمن في الإرادة السياسية السيادية والحرة لإدارة الدولة والأمثلة حولنا أكثر من أن تحصى سواء بالنسبة للغات وقع إحياؤها من موات طال أمده أو لغات حديثة العهد بحياة.
لا علاقة للغة بالحداثة، لقد تمت هذه الأخيرة بلغات. والتحديث يتم اليوم بلغات أخرى، وذلك بصورة أنجع مما لو تم بلغاته الأسبق. بل إن المظهر الأول للحداثة، هو أولا سيادة اللغات الوطنية بما قد يقتضيه ذلك من تحديثها الذي يعني أولا وأخيرا استعمالها في الاقتصاد والمختبر والإدارة والتعليم بجميع أسلاكه.
إن اصطناع التناقض وحتى الصراع بين العربية والتحديث. لا يسقط في الفرنكوفونية وحسب بل وينتج تناقضا وصراعا مزيفين ومن تم اختيارا محرجا وفاسدا بين حداثة فرانكوفونية أو هوية تقليدانية. والحال أن الخيارين كليهما زائف وفاسد، إذ لا تناقض بين المحافظة على الخصوصية الوطنية وبين الحداثة إلا في شرط استعماري مفروض كما حال هو وطننا اليوم، أصالة هي في حقيقتها تقليدانية، ومعاصرة هي في حقيقتها استلاب وتبعية وفرنكوفونية. وهذه في الحقيقة هي إرادة الاستعمار واستراتيجته المدبرة لشعوبنا.
هذا مرة أخرى صراع عمودي لا يساعد على التقدم، بل بالعكس كما حصل عند جارتنا الشقيقة. يقسم النخبة ويعزلها عن مجتمعها، ويعزل المجتمع عن إدارة دولته، ويعزل الشعوب والدول العربية عن بعضها... إلخ والحال أن الخيار الأمثل هو الخيار الثالث الوطني والعلمي والديمقراطي، نقتحم تحديات الحداثة بمؤهلاتنا الذاتية الطريف منها والتليد المبتكر والموروث.. وأهمه اللغة الوطنية التي اختارها شعبنا لوحدته ولنهضته منذ قرون وأكدت في ذلك جدارتها ومردوديتها.
لقد بادرت عموم فئات الطبقة الوسطى ونخبتها القائدة في الحركة الوطنية إلى مقاومة هذا الوضع في سياق مقاوماتها للاستعمار، وتمكنت فعلا وبتحالف مع القصر من إنجاز الكثير في هذا الصدد. ما أدى إلى إعادة اللحمة الوطنية والوحدة المجتمعية وذلك خاصة بجملة آليات وأدوات أهمها كان الإصلاح الثقافي-اللغوي وتأسيس المدرسة الوطنية وبناء الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة ونهضة الأدب... مستعينة على جميع ذلك بمنجزات شقائقها في المشرق العربي... وتمكنت لذلك من تحقيق مرحلة من استراتيجية الحرية والاستقلال الوطنيين.
لم يكن خطاب «الازدواجية»، كما هو حاله اليوم أيضا، بالخطاب العلمي
أو الواقعي، إنه بالأحرى مخادع ومغشوش. ذلك لأن اختلال العلاقة بين المستويين في الاقتصاد والمجتمع والثقافة واللغة... لا يسمح بالتكافؤ بله التعايش والتضامن بل فقط بالهيمنة والسيطرة للأقوى على الأضعف، وهو ما كان وما يزال حاصلا اليوم بين المجتمعين واللغتين.. في جغرافية الوطن الواحد.
8- واليوم، نحن أمام جديدين مؤثرين في عصرنا:
أ-تعاظم أهمية العلم والثقافة.. في الإنتاج والمعاش ومن تم في السياسة مقارنة إلى دور الوسائط السابقة التي أضحت تقليدية في الإنتاج.
ب-تعاظم الصراع واحتدامه بين الرأسماليات الكبرى في العالم، الأمر الذي ينعكس بالسلب على الشعوب الضعيفة أو المستضعفة. وذلك من خلال استيرادها لتناقضاتهم ولصراعاتهم.. بما في ذلك خاصة حول السوق اللغوية...
ت-في جميع ذلك وغيره، لم يعد المستهدف للاستغلال وحسب، هو الأرض ما فوقها وما في باطنها أو قوة العمل البشري... بل الإنسان نفسه والأوطان كوعي وكذاكرة وكخيال وكأذواق وكسلوك... باختصار كثقافة ولغة وخصوصية أو هوية جغرافية وتاريخية.
إذا كان ذلك وغيره يعتبر حظا للتحرر وللتقدم في إطار إستراتيجية راشدة، فإنه على النقيض من ذلك يضاعف الفاقة الاقتصادية والبؤس الثقافي في إطار سياسة للتبعية. وهو ما يحدث حاليا وتؤدي عواقبه شعوب المغارب مضاعفا بما بلغ درجة الحرب الأهلية في الشقيقة الجزائر.
في هذا الإطار تلاحظ جملة أمور:
أ-محاولات الإمبريالية الأمريكية فتح دكاكين لها في السوق اللغوي المغربي وذلك على جميع مستويات التعليم بما في ذلك الأولي والمؤسسات الثقافية..
ب-محاولات الامبرياليتين الفرنسية والإسبانية الدفاع عن مصالحهما في المغرب بل وعلى مستوى وطنيهما.. وذلك بالرهان على المدرسة المغربية وخريجيها من الأطر والعلماء...
ت-في الحالات الثلاث وبدعوى تجفيف منابع الإرهاب المتمثل عندهم في القرآن الكريم، يتم تعاونهم جميعا على حرب اللغة العربية الكلاسية، وأيضا على العربية الحديثة أو الفصيحة.
ت-اصطناع التناقض ومن تم الصراع بين الفصحى وشقائقها من اللغات الإقليمية المغربية عربية كانت أو بربرية.
ث-محاولة اصطناع «لغة مغربية» هجينة وسوقية وغرائزية منحطة وذلك من خلال:
1-الإذاعات المحلية والتي يبدوا أنها لا ترخص، إلا تحت هذا الشرط.
2-الأفلام الممولة من قبل المركز السينمائي المغربي.
3-الأفلام المدبلجة من قبل التلفزة المغربية
4- عض الصحف المختصة في تشويه العربية، وبعض الصحفيين المأجورين والمبثوثين في بعض الصحف الخاصة (وهي ليست بالضرورة مستقلة).
5-التوظيف المطلق للقناتين الرسميتين لهذا الغرض.
6-الاختراق المتدرج لبعض البرامج المدرَّجة بما فيها نشرات أخبار القناة الوطنية الأولى نفسها.
7-محاربة «الأمية» بالدارجة (؟!)
8-الحرب الشاملة على الحرف العربي على مستوى الإعلانات واللافتات والواجهات التجارية.
9-تشجيع التعليم الخاص التجاري منه والأجنبي الاستعماري.
10-تكريس سيادة اللغة الأجنبية الفرنسية في الاقتصاد والإدارة والتعليم العالي العام والتجاري المغربي منه والأجنبي.
11-إبعاد اللغات البربرية عن تراثها من جهة وعن شقائقها العربية وذلك بتبني الحرف الفينيقي لكتابتها.
9- لا يقتصر التهديد في حقيقته على شعوب الجنوب المستضعفة وفي المقدمة منها العربية والإسلامية، بل إنه يعم الإنسانية جميعها بل والأرض كذلك.
إن الرأسمالية ونخبتها المنظرة والحاكمة... تتخلى تدريجيا عن إرثها الإنساني والحداثي-الديمقراطي... وفي سياق دفاعها عن مصالحها، تخرب الكثير في البيئة والطبيعة: الضجيج، تلويث المحيطات والبحار والأنهار التصحر تناقص الغطاء والتنوع النباتي والحيواني، ارتفاع الحرارة وثقب الأوزون.. إلخ.
وفي الاقتصاد: المضاربة، الاحتكار، صناعة وتجارة السلاح، واصطناع الحروب، والتبييض والتهريب، وتجارة المخدرات والقمار والرقيق الأبيض... إلخ.
وعلى مستوى القيم الثقافية: شيوع النزعة الاستهلاكية، احتقار العمل، المتعة الغريزية، سيادة الإعلان والدعاية وما يسمى بالثقافة الجماهيرية والتمييز القومي والعدمية والانتهازية والأنانية والنزعات الانتحارية...إلخ.
لا يتصل الأمر إذن وفقط على انتهاك الخصوصيات الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصائرها وبناء دولها الحرة والمستقلة وذات السيادة... إلخ. بل إن المواطنين في الغرب يتعرضون هم أنفسهم لأزمات لا يبدو أن لتواليها حدا ستقف عنده.
إن الاعتداء على اللغات الوطنية والعدوان على الخصوصيات الثقافية هو جزء من عدوان اقتصادي، سياسي شامل لنظام العلاقات الرأسمالية الظالمة في مراكزها والاستعمارية لأطرافها، إنها الأزمة أو الأزمات التي ينتجها الشمال وتصدر عواقبها بشكل مضاعف نحو شعوب ودول الجنوب، عساها تنقذه ليس على المستوى الاقتصادي وحسب بل والثقافي-اللغوي كذلك، وأيضا إعاقة نهوضها منعا لمنافستها المحتملة...
10- وبالنسبة للمغرب، فإن ما يعاني منه شعبه على المستوى الثقافي
اللغوي وبالتالي الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي هو الفرنكوفونية وهي في منظور هذا البيان غير الفرنسية. وهنا يجب التوقف للتوضيح.
إن اللغة الفرنسية، كغيرها من لغات مختلف الشعوب، هي بالنسبة لشعبها مثل العربية بالنسبة لنا. ولا تناقض لذلك لدينا معها بل على العكس، إنها لغة تاريخية عظيمة لشعب عظيم وتحمل في ذاكراتها ونصوصها من القيم والخيرات الثقافية ما لا يمكن لعاقل أن ينكره. خاصة في عصري التنوير ثم الثورة الفرنسية، التي تعتبر أعظم حدث توجت به الإنسانية عصر حداثتها ودمقرطتها وإعلان حقوق الإنسان فيها.
أما الفرنكوفونية فهي أمر آخر تماما، إنها التوظيف الاستعماري للغة الفرنسية لا من أجل الحوار الحضاري والمثاقفة والتضامن ودعم الأقوى للضعيف وتسييد قيم الحرية والمساواة والإخاء... بل لأجل السيطرة والاستغلال وخلق وتأبيد وضع التبعية والاستضعاف.
إن شعوبنا هي اليوم أحوج إلى قيم وفضائل المؤسسين وبناة الثقافة الفرنسية ومن رموز الإنسانية التحررية من أمثال ديكارت فولتير ومونتسكيو وهيجو و... وأكثر من له مصلحة في ترسيخها وإشاعتها هم الناطقون باللغة العربية.. أما النخبة الفرنسية السائدة والحاكمة اليوم.. فهي أكثر من تخلي ويتخلى يوميا عن تلك القيم النبيلة، لا على مستوى علاقات الدولة الفرنسية بشعوب ودول مستعمراتها القديمة وغيرها... بل على مستوى علاقاتهم بمهاجريهم إليها وأيضا وبالأحرى بالشعب الفرنسي نفسه.
نعم إذن للغة والثقافة الفرنسيتين ولا الفرنكوفونية.
نعم للتعدد اللغوي والثقافي ولا للسيطرة والاحتكار اللغوي.
فنفتح نعم ولكن على جميع اللغات النافعة لا السجن بين جدران لغة واحدة، هي نفسها تعاني في ظل سيادة حكم بئيس من حالات تقهقر يومي في فرنسا وعلى صعيد علاقتها الخارجية جميعا.
«إن دولة تحتل أرض.. شعب آخر، لا يمكن أن يكون شعبها حرا»
11- إن الوجه الآخر للفرنكوفونية، والخصيم الثاني للعربية هو التقليدانية وذلك من حيث إنها تسوغها وتتكامل معها وتتوزعان بينهما الأدوار، إنها الازدواجية القاتلة مرة أخرى. اللغة الأجنبية للحياة العملية المنتجة في الاقتصاد والإدارة... والعربية للمحافظة على التقاليد الدينية والاجتماعية...
ارتبطت سيادة الفصيحة الكلاسية على الإدارة والعلم في الماضي بإصلاحها (ع. الملك بن مروان) ولولا ذلك لبقيت هامشية أمام لغتي الحضارة القديمة. وكذلك هو الأمر اليوم، لا يتصل وحسب بإحلال لغة مكان لغة دونما تأهيلها والاستعداد لإصلاحها.
إن المحافظ الحقيقي دائما هو المجدد، أما الخوف على العقيدة من ذلك فهو خطأ سيؤدي إلى ضياعهما جميعا. إن الذي يحفظ القرآن اليوم هم في أكثريتهم الساحقة غير عرب أصلا.
وهذا الأمر لا يعني بحال تأجيل التسييد إلى حين الإصلاح، إن شرط الإصلاح الأول هو إقحامها في الإدارة والمصنع والتعليم العالي والتقني... وانفتاحها خلال ذلك على جميع ما يمكنها الاستفادة منه. هذا فضلا عن الحاجة المستعجلة إلى تبني ما هو معروف ومطروح وموروث من اجتهادات ومقترحات بل واستعمالات وقع التخلي عنها في زمني التقليدانية قبيل وخلال التعرض للاحتلال الأجنبي.
عزل اللغة العربية عن الحياة الاقتصادية والإدارية... وعن البحث العلمي... ليس وحسب تهميش لها. بل هو اغتيال مع سبق الإصرار والترصد..
12- الأنكى في موضوع محاولات النفوذ والسيطرة من قبل الفرنكوفونية على شعوب الشمال الإفريقي وعموم مستعمراتها السابقة. أن يتم ذلك تمويلا على حساب مداخيلنا الوطنية الفقيرة أصلا، يقع ذلك في الاقتصاد والإدارة كما في التعليم والإعلام والثقافة... إن فرنسا التي تتفق على حماية لغتها ونشرها، أكثر مما تتفق على دفاعها الوطني. بل وتعتبر ذلك من صلب وفي المقدمة من جبهات الدفاع على سيادتها واستقلالها... لا تقتصر على ذلك، بل ترغمنا نحن ضحايا التبعية اللغوية لها والاغتراب الثقافي على «مساعدتها» في تمويل برامجها الإنقاذية تلك للغتها ولثقافتها أمام المزاحمة الدولية الشديدة وأمام تناقص أعداد الناطقين بها، ما ينعكس علينا في وجه ثالث أقبح هو استنزاف أطرنا بأبخس الأجور مقارنة إلى ما صرفته عليهم دولهم وشعوبهم وأسرهم من وقت ومن أموال.
إن هذا التقهقر اللغوي-الثقافي للفرنسية على الصعيد العالمي. يؤثر ويعكس في نفس الوقت التقهقر السياسي لنخبتها الحاكمة مقارنة إلى التراث التنويري والتحرري لفرنسا الحداثة والديمقراطية. إن صعود اليمين الفرنسي وتحكمه.. ارتبط بجملة تراجعات ذات طبيعة استعمارية وعنصرية (العودة لسياسة الأحلاف العسكرية الاستعمارية، التراجع في المسألة الفلسطينية، الموقف من الهجرة والمهاجرين، التطرف العلماني، التدخلات العسكرية في إفريقيا...إلخ) ليست الفرنكوفونية إذن بالسياسة الخاصة أو المعزولة عن استراتيجية تراجعية عامة حتى بالمقارنة إلى الإرث الدوغولي.
13-إن وضعيتنا اللغوية في ظل سيادة الاستعمار الجديد هي اليوم أسوء مما كانت عليه في المرحلة السابقة للاستعمار.
لقد كانت إدارة الحماية تحترم درجة ما من «الازدواجية، وتحفظ للمجتمع درجة من المنعة وحماية الخصوصية الثقافية... أما اليوم:
أ-لم تعد للإدارة الاستعمارية الجديدة أدوار تحديثية... بل تخريبية غالبا...
ب-أضحت الفرنكوفونية دعوة للنخب الاقتصادية، السياسية الحاكمة وأكثرية من هم في صفوف «الإصلاحية».
ت-مخططات اصطناع وتعميق التناقض والصراع داخل اللغات الوطنية.. أضحت مضاعفة ومديرة بشكل منهجي وتدريجي وعنيف...
ث-تعليم البعثات بلغ درجة من الفساد ومن الإفساد، أمسى معه تهديدا وطنيا ماثلا: تدريس العربية الدارجة / نشر الانحلال والتشجيع على المخدرات... إفساد مسبق للنخبة المنتظر أن ترث سلطة الحكم وسلطة الاقتصاد.
ج-أما التعليم الخاص والذي كان «حرا» فلقد تحول عموما إلى «تجارة» يقلد حرفيا أحيانا تعليم البعثة الفرنسية.
ح-لقد بلغ الأمر حد اقتراف الجريمة، عندما يفرض على أطفال الحضانة والروض فضلا عن الابتدائي... أن يتلقنوا لغة غير لغة الأسرة والمحيط الاجتماعي. إنه اغتصاب ثقافي وجريرة بالنسبة للشرعة الدولية لحقوق الطفل.
(أين هي هيئة وجمعيات حقوق الإنسان ؟!)
14- الانقسام المصطنع والعمودي للشعوب والأمم على المستوى اللغوي-الثقافي.. يعتبر خطرا وتهديدا موضوعيا بالحروب الأهلية والتطهير البشري-الثقافي. والحال أن بلاد المغارب هي موضوعيا توجد في هذا الشرط وتستهدف لهذه الغاية وما حالة الشعب الجزائري الشقيق بالبعيدة عنا زمنا وجغرافية. ووطننا راهنا هو اليوم يعيش نوعا من الحرب الأهلية الثقافية الصامتة. وما ردود الفعل الدينية والسلفية وحتى المتطرفة والعنيفة سوى مظهر من ردود الفعل تلك أمام العدوان اللغوي-الثقافي الفرنكوفوني الغاشم.
إن التعدد الثقافي واللغوي للمغاربة هو إغناء لوحدتهم ولنوعهم الخاص في العالم. أما تعايش لغتين وثقافتين... فهو مستحيل عمليا وهو لذلك يستبطن صراعا موضوعيا حول السيادة وهو لذلك أيضا مرشح وفي كل لحظة للتصعيد نحو عنف الدفاع أمام عنف العدوان واضطهاده لمقومات وخصوصيات الشخصية الوطنية المستقلة وذات السيادة على أرضها وشعبها وإدارة دولتها واقتصادها...
15- إن أحد شروط التنمية الإنسانية هو محاربة الأميات وهذه لا يمكن أن تتم بلغة أجنبية، وأحرى إذا كانت ذات طبيعة استعمارية. ولهذا نعاين كيف أن وطننا وبعد أكثر من نصف قرن من استقلاله المفترض، لازال يحمل عار انتشار بل وسيادة الأمية بين صفوف شعبه خاصة نسائه وفلاحيه.
إن العواقب القبيحة لذلك لا تنعكس وحسب على مستوى الانتاج الاقتصادي والاجتماع والسلوك البشري... بل وعلى المسألة الديمقراطية نفسها أي مستوى مطامحنا في دولة الحق والقانون والمؤسسات... إذ أن انتشار.. في حالتنا، سيادة الأمية تعرقل ذلك ولا تسمح به. وتشجع على نقيضه... الاستبداد وفكر الخرافة والسحر وسلوك التواكل واحتقار الزمن والعمل والإنسان.
إن شعوبا غاية في الفقر بل ومحاصرة، تمكنت من القضاء على الأمية في صفوف شعوبها بلغاتها الوطنية وذلك في شروط أسبق وأسوء من شروطنا الوطنية الخاصة.
إن الشعوب الأمية، لا تستطيع في عالم اليوم أن تنافس.. وبالتالي أن تجد لها مكانا محترما في التوزيع الدولي للعمل والإنتاج... إلا ما كان من الاستجابة لحاجيات الآخرين، بما في ذلك القبيحة منها..
16- لا يوجد عيب في اللغة العربية نفسها يبرر تهميشها بل وحتى العمل على اغتيالها جميع اللغات مؤهلة موضوعيا للاستجابة لحاجيات ومطالب الإنسان في الاقتصاد والإدارة والمعرفة والعلم. المشكل إذا وجد، يكمن في الإرادة السياسية السيادية والحرة لإدارة الدولة والأمثلة حولنا أكثر من أن تحصى سواء بالنسبة للغات وقع إحياؤها من موات طال أمده أو لغات حديثة العهد بحياة.
لا علاقة للغة بالحداثة، لقد تمت هذه الأخيرة بلغات. والتحديث يتم اليوم بلغات أخرى، وذلك بصورة أنجع مما لو تم بلغاته الأسبق. بل إن المظهر الأول للحداثة، هو أولا سيادة اللغات الوطنية بما قد يقتضيه ذلك من تحديثها الذي يعني أولا وأخيرا استعمالها في الاقتصاد والمختبر والإدارة والتعليم بجميع أسلاكه.
إن اصطناع التناقض وحتى الصراع بين العربية والتحديث. لا يسقط في الفرنكوفونية وحسب بل وينتج تناقضا وصراعا مزيفين ومن تم اختيارا محرجا وفاسدا بين حداثة فرانكوفونية أو هوية تقليدانية. والحال أن الخيارين كليهما زائف وفاسد، إذ لا تناقض بين المحافظة على الخصوصية الوطنية وبين الحداثة إلا في شرط استعماري مفروض كما حال هو وطننا اليوم، أصالة هي في حقيقتها تقليدانية، ومعاصرة هي في حقيقتها استلاب وتبعية وفرنكوفونية. وهذه في الحقيقة هي إرادة الاستعمار واستراتيجته المدبرة لشعوبنا.
هذا مرة أخرى صراع عمودي لا يساعد على التقدم، بل بالعكس كما حصل عند جارتنا الشقيقة. يقسم النخبة ويعزلها عن مجتمعها، ويعزل المجتمع عن إدارة دولته، ويعزل الشعوب والدول العربية عن بعضها... إلخ والحال أن الخيار الأمثل هو الخيار الثالث الوطني والعلمي والديمقراطي، نقتحم تحديات الحداثة بمؤهلاتنا الذاتية الطريف منها والتليد المبتكر والموروث.. وأهمه اللغة الوطنية التي اختارها شعبنا لوحدته ولنهضته منذ قرون وأكدت في ذلك جدارتها ومردوديتها.
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
التعليقات (0)