أصمت... أنت تحت المراقبة.
قرأت في أحد المواقع الالكترونية خبرا منقولا عن صحيفة "المصري اليوم"، يتحدث عن معاناة أسرة مصرية مازالت مستمرة منذ 11 عاما، حيث اكتشف الزوجان أن مكالماتهما الهاتفية تخضع للتنصت. وبالرغم من الانتقال الى سكن جديد وكذا تغيير أرقام الهواتف المحمولة مازال رب الأسرة يتوصل برسائل هاتفية مكتوبة تثبت أن أحاديثه مع زوجته في البيت تخضع للمراقبة بشكل دقيق. لذلك التجأ الزوجان الى أسلوب جديد في التواصل، حيث باتت الكتابة هي وسيلة الحديث والتفاهم بدل الكلام. وقد تقدم المعني بشكاية الى نيابة أمن الدولة للاستفسار حول الأمر، لكن الوضع لم يتغير بالرغم من أنه لم يخضع لأية مساءلة قانونية أو أمنية، اذ مازال كابوس التنصت يخيم على حياة الأسرة اليومية.
دفعتني هذه الواقعة الى التفكير في الكتابة عن ظاهرة التنصت التي تمارسها كثير من الأجهزة الأمنية أو الأشخاص( ربما لحسابات خاصة ) على المواطنين في هذا المجال الجغرافي الذي يسمى " عالما عربيا". وهكذا تعمد الأنظمة الى سلاح المخبرين كوسيلة للمراقبة و الترصد. وكثيرا ما وقع العديد من الناشطين السياسيين أو حتى من الأشخاص البسطاء في كمين أجهزة التنصت، ليجدوا أنفسهم محاطين بسلسلة من التهم الغليظة التي تكفي كل واحدة منها لوضع رؤوسهم تحت المقصلة. وتتردد على أسماعنا حكايات غريبة عن أشخاص " سليطي اللسان " ذهب بهم نقاش عابر - على متن قطار أو حافلة - عن الوضع الاجتماعي والسياسي في بلدهم الى المعتقلات والسجون وما يرافقها من ألوان العذاب والمهانة، وذلك بسبب تعبيرهم عن السخط وعدم الرضا. وهكذا أصبح المرء يخشى من كل شخص غريب يترصده بنظراته، فقد يكون واحدا من السادة المخبرين. وكل ما يباح للناس تداوله في الشارع العام وبصوت مرتفع هو تبادل الآراء عن مباراة في كرة القدم، أو البحث عن كلمة ضائعة في شبكة الكلمات المتقاطعة، وفي أحسن الحالات يحتج الناس بهمس من ظواهر الغلاء وارتفاع الأسعار، لكنه يظل احتجاجا مبحوحا و يقيد دوما ضد مجهول.
لقد نجحت الأجهزة الأمنية في تدجين الانسان العربي الذي بات مفتقدا للاحساس بواقع الأزمة التي يتخبط فيها.وأصبح شعار " لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم " عملة رائجة بامتياز وتعبيرا عن جنوح جماعي للسكوت والخوف مادام المخبرون يسكنون في كل جانب وزاوية، ويلتقطون أنفاس الناس في سكناتهم وحركاتهم. وبذلك أصبح الصمت واجبا وركنا من أركان المواطنة في العالم العربي. وكل من أراد أن ينطق يجد نفسه ملزما بتطبيق المثل القائل : " يجب تحريك اللسان داخل الفم سبع مرات قبل الكلام ". وقد عبر الشاعر الكبير أحمد مطر عن هذه اللازمة العربية حينما قال في احدى لافتاته الساخرة :
"...
فحيث سرت مخبر يلقي علي ظله،
يلصق بي كالنملة،
يبحث في حقيبتي،
يسبح في محبرتي،
يطلع لي في الحلم كل ليلة،
حتى اذا قبلت يوما طفلتي،
أشعر أن الدولة
قد وضعت لي مخبرا في القبلة،
يقيس حجم قبلتي،
يطبع بصمة لها عن شفتي،
...
لا تسخروا مني، فحتى القبلة
تعد في أوطاننا حادثة تمس أمن الدولة."
محمد مغوتي.19/03/2010.
التعليقات (0)