تبلور النقاش حول أصل سكان المغرب ، بداية ، في حقل التاريخ. لكنه ، سرعان ما تدحرج إلى المجال السياسي ؛ ليتخذ تأويلات إيديولوجية متباينة تشرعن وجودها بالاغتراف من تصورات تاريخية جاهزة.كيف ذلك ؟ هذا ما سنحاول الاقتراب منه من خلال هذا الموضوع .
1- - مناقشة سؤال أصل سكان المغرب في مستواه التاريخي و الفكري :
من أين أتى “البربر” ؟ هل ” البربر” أقارب الأوربيين القدامى ؟ أم أنهم تدفقوا ، عبر موجات ، من الشرق ؟ لكن ، ماذا لو لم يأت هؤلاء من أي مكان ؟
إنها أسئلة ذات انشغال علمي ترتبط بالدراسات التاريخية . لكنها ، أيضا ، مطروحة في الساحة السياسية المغربية وتتجاذبها أطراف متعددة . والواقع أن الأسئلة المطروحة أعلاه تتفسخ عنها أسئلة فرعية ذات أهمية واضحة بالنسبة لموضوعنا . لكننا سنحجم عن إثارتها بالنظر للسقف الضيق لهامش هذا الموضوع.
وعموما ، يمكن ضبط التموقعات / الاصطفافات الايديولوجية ، في شأن هذا الموضوع ، في ثلاث اتجاهات أساسية :
(أ) – الاتجاه العروبي- الشرقاني : اتجاه مغلق ومنكفئ في تعاطيه مع سؤال أصل سكان المغرب ؛ بحيث لا يرى ، هذا الاتجاه ، الهوية الإثنية للسكان المغاربة إلا في المشرق العربي : أي فرضية الأصل العربي للسكان ؛
(ب)- الاتجاه الشوفيني الأمازيغي : هذا الاتجاه يشترك مع الاتجاه الأول ، في كونه منغلق ومنكفئ ؛ لكنه لا يوجه نظره نحو الشرق في تحديده لأصل سكان المغرب ، بل يجتهد – بكل الوسائل – لدحض الفرضية الأولى ( الاتجاه العروبي.). و يرى أنه يمكن أن يكون أصل سكان المغرب من أي منطقة إلا المشرق العربي ؟ إنه تيار شوفيني ومتعصب ؛
(ج) – الاتجاه الديمقراطي التعددي : بين الاتجاهين السالفين، ينبلج اتجاه عقلاني ، تعددي و غير تصفوي مضمونه : أن معطى الهوية معطى متحرك وليس استاتيكي . وبالتالي ، فإن المغرب اكتسب هويته عبر فترات تاريخية طويلة . انصهرت ، خلالها ، ثقافات الشعوب الإفريقية والمتوسطية والعربية ….الخ. فضلا على أن هناك تحديات موضوعية ، كطاحونة العولمة ، الفقر ، إرهاب الشركات المتعددة الجنسية ، عسكرة الرأسمالية…الخ، تفترض،وجوبا،الوحدة ونبذ الصراعات الطائفية .
وانتصارا للاتجاه الثالث ، الاتجاه الديمقراطي – التعددي ، و في محاولة لتفكيك الاتجاهات التصفوية بشقيها العروبي أو الشوفيني ، نقدم هذه المساهمة . وأقترح فيها ، للإجابة على سؤالنا المركزي ، محورين رئيسيين ، هما : 1- في نقد الأطروحات الإلحاقية( العربية والأوربية ) 2 – الأصل المحلي للسكان .
1-1 في نقد الأطروحات الإلحاقية :
من أين أتى " البربر" ؟ من تسبب في نشأة وتطور حضارتهم المادية والأدبية؟ “. إنها بعض من الأسئلة التي استقطبت ، ولا تزال ، اهتمام الباحثين الذين يعترفون بـ “أن دراسة تاريخ هؤلاء الأقوام-أي الأمازيغ- وتتبع مسار تطورهم الإثني والحضاري لا تزال تواجهه صعوبات عديدة ؛ منها- أي الصعوبات - ما هو متصل بالمعطيات التاريخية… ومنها ما هو راجع لثقل النظريات والفرضيات. بحيث أنها من أنذر الشعوب التي بحث في أصلها بكثير من الخيال والمثابرة”. وفعلا ، فقد نشط خيال الباحثين العسكريين ، خلال لمرحلة الكولونيالية ، للبرهنة على الأصول الأوربية للبربر؛ هكذا نجد الجنرال” فدرب” يدعي سنة 1867: “إن البربر أقارب الأوربيين القدامى” ؛ وعلى خطه اعتبر” بريمون” أن “بلاد البربر بلاد أوربية”.
إن إلحاق "البربر" بالنسب الأوربي واجتراح تخريجات “علمية” كان بهدف شرعنة الاستعمار الأوربي والفرنسي على منطقة شمال إفريقيا. أ ليست فرنسا هي وارثة الحضارة الرومانية ؟ ! لكن ، بريق هذه الأطروحة تراجع ليفسح المجال لانتعاش فرضية الأصل الشرقي " للبربر " ؛ والتي روج لها بكثافة في سياق تنامي مد حركة التحرر الوطني بالشرق العربي . و من المهم ، هنا ، أن نسجل أن كتب التاريخ المدرسي المعتمدة في المغرب تلقفت فرضية الأصل الشرقي وبثته في شكل معطى تاريخي ثابت، كما هو الحال في النموذج التالي: إن “البربر… في شمال إفريقيا عبارة عن شعوب… من الشرق”.
والحال أن تصاعد نضال حركة التحرر الوطني فرض على “منظري الاستعمار الانقلاب على فكرتهم السابقة تحت ذريعة أن فشل “البربر” في استيعاب مقومات الحضارة الغربية راجع إلى أصلهم الشرقي؟!!
لقد نجم عن التصور الكولونيالي السالف الذكر، وكرد فعل ضد تأليفه ، الذي كان مليئا بالأحكام السلبية، والمبنية على مفاهيم مسبقة” - تصورا جديدا تبلور في شكل تأليف مغربي أخد مادته من التأليف العربي القديم وعارض التأليف الاستعماري في أحكامه ومراميه، واجتهد في إثبات الأصل الشرقي “للبربر” . . مستفيدا من النجاح الذي حققته الحركة القومية العربية في المشرق وقدرتها على الاستقطاب الإيديولوجي لقطاع واسع من المثقفين، والإنجداب والتعاطف الجماهيري مع القضايا القومية العربية. وهو ما هيأ الظروف لاحتضان أطروحة الأصل الشرقي . وهذا ما عكسته كتب التاريخ المدرسي بشكل لافت للانتباه ، وفي هذا السياق تمت صياغته عناوين تبطن العلاقات الفينيقية- القرطاجية / السورية مع منطقة شمال إفريقيا إلى مراحل عميقة تمتد إلى ما قبل مرحلة التوسع الرأسمالي على المنطقة (الاستعمار). هكذا نجذ عناوين بارزة وبخط سميك مثل : “ الحضارة القرطاجية بإفريقيا الشمالية ” و “ الممالك البربرية كانت بها حضارة تأثرت بالقارطاجين”. إن تكثيف هذه العناوين والمضامين بشكل بارز حتى تمارس تأثيرا خاصا . وبوصفها – العناوين - أكثر الإشارات الخارجية إثارة واستفزازا، حيث أن ظاهر العنوان “ نص قصير وموجز لكن الإيجاز هو قول المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة”. لكن ، الملاحظ أن هذه العناوين والمضامين انزلقت نحو تصوير معطوب لمنطقة شمال إفريقيا؛التي لم تصطدم – حسب زعمهم - بالتاريخ إلا مع رسو المراكب الفينقية( السورية) الأولى على سواحلها. فأخذ الوافدون “البربر” على درب الحضارة والتقدم”؟ والحال أن البربر لم تنعدم لديهم المبادرة ، بل انعدم إنصافهم في كتب التاريخ المدرسي. وعلق على ذلك “س غزيل” بقوله : أنه “لم ينتظر أهالي المغرب البحارة السوريين ليتعلموا تدجين المواشي والزراعة”. لكن رغبة المؤرخين المغاربة في التخلص من المخلفات الإيديولوجية للكتابة الاستعمارية حول تاريخ المغرب هو الذي يبرر انحيازهم للأطروحة الشرقانية . لكن ، ماذا لو لم يأت هؤلاء من أي مكان ؟ سؤال يستحق التأمل والنظر.
2-1 في الأصل المحلي للسكان :
لكن ، ماذا لو لم يأت هؤلاء من أي مكان ؟ إنها إشارة تفيد التطور المحلي للإنسان الأمازيغي- المغربي ، غير أن كتب التاريخ المدرسي تغافلت العمق التاريخي للإنسان المغربي وربطته بمرحلة التسرب الأجنبي للبلاد؛ مما يبلور تصورا ذهنيا عند التلميذ عن ماضي المغرب “كمجال لمبادرات الغير: فلا يراه إلا من خلال فاتحيه الأجانب على حد تعبير العروي. وهذا غير مطابق للدراسات الرصينة التي تناولت مرحلة ما قبل التاريخ بالمغرب ، وميزت فيها بين المراحل التالية:
1- الأسترالوبيتيك : وهو الإنسان القردي الجنوبي، ظهر في نهاية الزمن الجيولوجي لثالث . صحيح أنه لم يعثر على نموذج لهذا الإنسان بالمغرب ، لحد اليوم ، لكن تم اكتشاف أدوات حجرية استعملها هذا الإنسان في عدد من مناطق المغرب .
2 الأطلانطروب - الإنسان المنتصب القامة : لقبوا بالأطلانطروب تمييزا لهم عن البيتكنتروب. عثر على نموذج الأطلانطروب بالقبيبات سنة 1934 ثم مغارة سيدي عبد الرحمان سنة 1956؛
3- الإنسان الموستيري/ إنسان جبل إيغود : اشتق اسم الموستيري من مكان بفرنسا يعرف بمستي، عثر على نماذج هذا الإنسان سنتي 1962 و 1968 بجبل إيغود شرق أسفي؛
4- الإنسان العاطيري: اشتق هذا الاسم من بئر العاطر بالجزائر . ويعد الإنسان العاطيري امتدادا نوعيا لإنسان جبل إيغود، خلف بقاياه وآثاره في المغرب كما هو الحال بمغارة المهربين بتمارة سنة 1956؛
5- الحضارة الوهرانية : بعد الحضارة المغربية الأصيلة (العاطرية)، أعقبتها الحضارة الإيبيرمورسية حسب تسمية “بلاري” اعتقادا منه بأن أصلها أيبيري، لكن “شوفري” دحض أطروحة “بلاري” السابقة معتبرا إياها حضارة محلية وسمها بالحضارة الوهرانية.
إن إثبات التطور المحلي للإنسان هو تفنيد للأطروحات الإلحاقية بشقيها الغربي أو الشرقي؛ اللتان تحاولان، في نهاية الأمر، طمس هوية الشخص، مما يجعله “غير واعي بذاته فتتدنى مرتبته من الشخص إلى الشيء، أي يصبح مجرد مادة قابلة للضم والامتلاك” على حد قول هيجل.
http://profhamidh.blogspot.com
سيدي يحي الغرب .
التعليقات (0)