مواضيع اليوم

أصالة العربية في المغرب

شريف هزاع

2011-03-29 10:53:39

0

أصالة العربية في المغرب

ألدارجة لم تأت الى المغرب مع الفتح العربي من المشرق!

كتب هذه المقالة بجريدة القدس العربي الدكتور احمد العلوي عميد كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط سابقا.

يذكر البيذق مؤرخ الدولة الموحدية - وهو عن بداية الحركة الموحدية - ان المهدي بن تومرت لم يتكلم بلسان الغرب أي بالبربرية أو الامازيغية كما تدعي عند اهلها الا عند اقترابه من فاس بمناسبة معينة، ولم يعد تاريخ البيذق الى الحديث عن لسان الغرب بعد ذلك كما لم يتحدث عن الحديث به قبل مرحلة فاس.

ومن المناسب ان نشير الى ان هذا التاريخ يفصل القول عن رحلة ابن تومرت وهو عائد الى المغرب من المشرق في جماعة من اتباعه. هذا يعني ان العربية الدارجة كانت منتشرة في ربوع المغرب العربي وكانت هي واختها الكبرى العربية الفصحى وسيلة التعامل في مجالات معينة لكليهما. بلغة اخرى اشارة البيذق الصنهاجي تعني ان المناطق السهلية من مصر الى المحيط كانت لغتها الدارجة هي العربية. قد لا نتصور ان التخاطب كان في ذلك الوقت بالفصحى ولكن حضور العربية الدارجة في الشمال الافريقي لذلك العهد دليل على حضور الفصحى في مجالها الخاص بها، وهو امر يكاد يكون بدهيا. بالطبع هذا الخبر التاريخي عن الوضع اللغوي في القرن السادس لا يمتد الى المناطق الجبلية التي لا نظن ان ابن تومرت مر بها في رحلته، او ان كان مر بها، فقد كان التخاطب بينه وبين اهلها بالعربية الدارجة المعروفة لأهلها. ما الغرض من هذه الاشارة؟ اولا للرد على الذين يستخفون بحضور العربية في العهد الموحدي وما قبله من عهود. الاطروحة الشائعة الاسطورية هي ان العربية انتشرت بفعل حضور القبائل الهلالية الى المغرب في العهد الموحدي، كما وصف ذلك على الخصوص صاحب كتاب المن بالامامة الذي يصف الوفود الهلالية الى المغرب الاقصى ولا ينكر الحضور اللغوي العربي قبل ذلك بدليل استعماله هو وجيله اللغة العربية في الكتابة قبل الحضور الهلالي.
هذه القولة انما جر اليها التوهم الذي مرده اهتمام العرب بالاندلس وافريقيا منذ القرن الاول واسنادهم الامر في المغرب الى امراء البربر كما يتبين من تاريخ ابن حيان الشهير المدعو بالمقتبس عند تعرضه لاحوال الدولة الاموية بالاندلس، وكما يتبين من معظم الآثار الاندلسية وفي مقدمتها الذخيرة لابن بسام الشنتريني. لكنه توهم يتناسى ان هؤلاء الامراء كانوا يتعاملون مع رؤسائهم الامويين بالعربية في مراسلاتهم وسائر احوالهم، وان كان ذلك لا ينفي حضور البربرية في احوال ومجالات خاصة بها. وهذا كله قبل الحضور الهلالي الى المغرب والشمال الافريقي. لقد كان البربر كما هو اسمهم عند القدماء، او الامازيغ كما هو اسمهم في لغتهم، في ذلك الوقت متفرقين بين التبعية للاغالبة ثم للفاطميين في تونس او للامويين. وكان غالب امرهم في المغرب الاقصى التبعية للدولة الاموية في الاندلس. وكانت لغتهم الادارية العربية. وهذا كله قبل الحضور الهلالي. السبب بسيط هو ان العربية كانت منتشرة لسبب محلي وانها ليست لغة مستوردة مع الفتوح العربية كما سيرد وانها كانت لغة الادارة عندهم في كل عهودهم منذ ان حضر العرب، وربما كانت العربية حاضرة قبل ذلك كما يتبين من فهرس كتب ماسينيسا الذي كان مؤلفا فيها بحسب ما جاء في تاريخ سالوست وهذا يتأكد ان تابعنا افتراضات وتقارير محمد بهجت القبيسي في كتابه عن الاباطرة العرب الذين حكموا روما وغيره من كتبه. ولئن ثبت ان العربية لغة الادارة عند امراء المغرب في العهد الاموي الاندلسي فانها ظلت كذلك في العهد المرابطي والموحدي والمريني وما بعد ذلك. وما كان هؤلاء الا مخلدين لسنة هي تقديم العربية الفصحى واعتدادها لغة لهم كما هي لغة للناطقين بالدوارج العربية والامازيغية وكانوا بذلك مبقين على سنة قديمة عندهم. الغاية من هذا الكلام ايضا ان يرد على المبطلين الذين يزعمون ان العرب فرضوا لغتهم على اهل الشمال الافريقي. هذا بهتان عظيم. لم يفرضوا لغة ولا دينا ولم يكن يعنيهم من هذه البلاد الا الاندلس والقيروان. والباقي تركوه لاهله واهله اختاروا محالفة العرب مذهبا ولغة في مناح من الحياة مع الاحتفاظ بأمازيغيتهم في مناح أخرى. وانما فعلوا ذلك لما بينهم وبين العرب من تقارب عرقي وثقافي وتاريخي قبل استقرار الاسلام السني بينهم أضف الى ذلك ان العرب لم يكن من عادتهم فرض لغتهم على الشعوب الاخرى، فلم يفرضوها على الفرس والترك والصغد وغيرهم. لماذا؟ لانهم لم يكونوا كالرومان واليونان يقدمون المعيار القومي اللغوي وانما كانوا يقدمون المعيار المذهبي في تصنيف الاقوام. ولعل ما فعلوا كان سببا في ذهاب دولتهم منذ عهد المعتصم العباسي. لقد استولى الترك ثم الترك السلاجقة ثم الايوبيون في الشرق ثم المرابطون ثم... وثم.. في المغرب..... وكلها دول مذهبية سنية عجمية الاصل عصابية (من العصابة لا العصبية). وكلها حافظت على العربية كما فعل الامازيغيون في المغرب الاقصى وغير الأقصى والمصادر التاريخية بالباب.
رتب القائلون على هذه القول بارتباط انتشار العربية بالفتوح العربية قولة اخرى هي ان عدد العرب في شمال افريقيا كان قليلا قبل الحضور الهلالي بالنسبة الى السكان الاصليين، وهي انه حدثت عملية تعريب للسكان، وان التعريب استشرى في المغرب الأقصى وغير الأقصى بعد ذلك الحضور.
يقوم في وجه هذه الاساطير التي رفعت الى درجة الأيقونات انها قائمة على جواز الهيمنة اللغوية من الاقل عددا على الاكثر عددا، وانها قائمة اولا على القول بان الوجود اللغوي العربي مرتبط بالفتوح العربية للمغرب، وان العربية دارجة وفصحى لم يكن لها وجود في الشمال الافريقي قبل ذلك. وهذه اسطورة فلا دليل يدل على ان حضور العربية سببه حضور العرب الفاتحين. وانما هو ظن يتناسى بعض الحقائق التي سنأتي عليها واولها اسطورة رغبة الفاتحين في نشر لغتهم وهي اسطورة تشم من خلالها رائحة الخيال. يقوم في وجهها ايضا اننا لا نملك نصوصا يقينية عن الوضع اللغوي في الشمال الافريقي في القرن الاول وما بعده. ابن الرقيق القيرواني وابن القوطية هما اقدم ما اعلم ممن كتب عن تاريخ الشمال الافريقي وعن الاندلس. وان تقدمهما شيء لا اعلمه فلا يؤثر بحال على الصورة التي قدمناها عن الازدواجية وتعدد المجالات بين العربية الدارجة والعربية الفصحى والامازيغية باختيار من الامازيغيين انفسهم. ولنفترض ان العرب الفاتحين فرضوا العربية فلماذا لم تبطل القرار العربي الدول الامازيغية التي تتالت على المغرب الاقصى وغير الاقصى بعد العهد الاموي سنة 132 هجرية. يبدو ان الذين يشيعون نظرية انتشار العربية بسبب الفتوح العربية المروية بسحنة ملحمية في عهود متأخرة عن تاريخ وقوعها المفترض يجهلون ان العرب لم يحكموا شيئا من البلاد الاسلامية طائفيا بعد سنة 132 هجرية، وان دولتهم في الاندلس سقطت سنة 400 هجرية وان غير العرب كان في قدرتهم ان يبعدوا العربية الفصحى . لكنهم لم يبعدوها لانها كانت اختيارا اساسيا منغرسا في الشعب. ايران وشرق ايران وبلاد الترك؟ هؤلاء لا يشبه تاريخهم تاريخ الامازيغ. الامازيغ كانوا حلفاء العرب قبل الاسلام السني وبعده. وان قاوموا العرب كما يرد في الروايات الملحمية (ملحمية لانها ذات نفس افتخاري تمجيدي) للفتوح فلأسباب شخصية ومصالح زائلة زالت بعد ذلك فترك المغرب الاقصى وغير الأقصى منذ القرن الثاني للامراء الامازيغ وظل العرب في تونس او قرطبة غير طامعين في ما في ايدي البربر. اما الشعوب الشرقية من فرس وترك فكان الشعور القومي منهكا لهم وكان تاريخهم الممتزج بالخيال كما هو مفصل في الشاهنامة يحضهم على الانفصال.أساطير الشعوب لها دخل عظيم في اتجاهاتهم المستقبلية وذلك ما ميز التاريخين العربي الامازيغي من جهة والايراني مثلا من جهة اخرى.
لا يذكر المؤرخون وان تأخروا او تقدموا ان الفاتحين العرب كانوا يتعاملون لغويا مع السكان بغير العربية او ان العربية بصورتيها الفصحى والدارجة كانت مجهولة للعموم. البيذق الصنهاجي الموحدي وابن تومرت نفسه ما كانا ليؤلفا كتابيهما بالعربية ومعهما عبد المومن بن علي لو كانوا يعلمون ان العربية لا حساب لها في المغرب على عهده قبل وفود الهلاليين. غايتنا من هذا الكلام الرد على الذين اشاعوا القول بان العربية في المغرب ارتبط حضورها بوفود العرب الهلاليين او بالفتوح العربية الاولى. ما يستخرج من كتب التاريخ ان العربية بصورتيها كانت ملكا مشاعا بين اغلبية سكان الشمال الافريقي بل لا نكاد نجد احدا منهم، كابن خلدون او ابن ابي زرع او ابن شرف القيرواني او غيرهم، يتحدث عن تنافس بين العربية الدارجة او الفصحى والامازيغية أو البربرية كما كان عليه الحال عند الفرس. عبر عن ذلك التنافس في العراق والبلاد العربية باسم الشعوبية وهو الواقع الذي لم يعرف في المغرب ولم يتهم احد به الا ابن غرسية الاندلسي، وهو استثناء يؤكد القاعدة وله اتصال بظروف خاصة في الاندلس التي كانت مغربا خصوصيا. وأدى في نهاية الامر الى انتصار الفارسية في مناطقها بتأثير من الاتراك السلاجقة على الخصوص وبفعل الخيال التاريخي المسجل في الشاهنامة التي وصفها ابن الاثير صاحب كتاب المثل السائر المشهور، سخرية منه، بقرآن القوم ويعني الايرانيين. استعصم السلاجقة بأصفهان وتفرسوا ولم يتعربوا وشجعوا الفارسية حتى اشتهرت شكوى الزمخشري في مقدمة مفصلة من سطوة الفارسية واستحق بذلك لقب آخر افاضل العجم.
الغاية اذن هي الاستدلال على ان العربية كانت حلا وسطا بين الجميع في الشمال الافريقي لانها ليست لغة ام لأحد من الناطقين بالدارجة العربية او بالدارجة الامازيغية. يبدو ان هذا الحل الوسطي تأسس بالممارسة قبل الفتوح العربية واستمر قائما الى عهدنا الذي صار يشهد تحويل الحل الوسطي الى لغة اجنبية هي الفرنسية مؤقتا. قد يقال: وما معنى الارتداد بهذا الحل الوسطي الى ما قبل الفتوح العربية ؟ فالجواب ان ما نقل عن الفتوح العربية للمغرب وغيره من بلدان في الشرق والغرب يجوز ان يكون اختلط بالاساطير لانه لم يكتب من شهود. لا نجد كتابا من القرن الاول عن احداث الفتوح العربية ولا كتابا من الامم المجاورة عن ذلك. كل ما عندنا كتابات من العهد العباسي كالبلاذري واليعقوبي وغيرهم وهي متأخرة. الجواب الثاني ان الفتوح العربية ان صح ما يحكى عنها توقفت عند حدود الهند وعند حدود الترك وعند حدود المغرب الاقصى، وانها كانت تخترق تلك الحدود الى الاندلس والى بلاد الروم والى بلاد الهند احيانا مع طول مدة كالحال في الاندلس او مع قصر مدة كالحال في شمال الشام، في بلاد اليونان او الروم كما كانت تسمى. لا تفسير لذلك الا القول بان الفتوح العربية كانت في اصلها تتجه الى تحرير المناطق الآهلة بالسكان العرب او بالذين هم حلفاؤهم الطبيعيون المرحبون بهم العارفون بلغتهم وفي مقدمتهم حلفاؤهم الامازيغ ذوو العادات واللغة والسحنات القريبة منهم. لماذا لم يستول العرب على تركيا الحالية وهي بجنبهم؟ لانه لم يكن فيها من القبائل العربية ما يقرون به سلطانهم ولم يكن لهم فيها حلفاء لهم ولم يكن لهم عدد من الانفس يكفي لاستعمارها بهم. كانوا يغزون ويصلون الى انقرة والى اسطنبول او القسطنطينية ثم يعودون الى قواعدهم في الشام والعراق وكانوا يفعلون الشيء نفسه في حدودهم الشرقية مع خاقانات الترك ومع حكام الهند. اذن الفتوح العربية اتجهت الى البلدان التي كان فيها حضور عربي قبل الفتوح. ولننظر الى العرب في التشاد والبلدان الافريقية المتاخمة جنوبا للبلدان العربية، فهل يرى عاقل ان هؤلاء العرب اتوا من الجزيرة العربية مع الفتوح؟ هذا جنون من القول. والموريطانيون واهل الصحراء المغربية واهل الصحراء جنوب الجزائر وتونس وليبيا، أهؤلاء انتقلوا بعربيتهم مع الفتوح العربية؟ كل هؤلاء كانوا حيث هم الآن لدليل بسيط هو ان الانتقال يكون من القفر الى الخصب. اما هذه المناطق فكلها قفار ولا يعقل منطقا ان يكون اهلها انتقلوا اليها من الجزيرة العربية الأخصب في جهات كثيرة منها، كاليمن وجنوب شرق الطائف وواحاتها العظمى في عمان وغير عمان منها . لو انتقلوا الى الشام او العراق لكان خيرا لهم لو كانوا من الجزيرة او اضطروا الى الهجرة. اما ان يهاجرو الى صحارى افريقية فأمر بعيد ومكذوب. هم في الحقيقة سكان اصليون. العربية لغة اصلية في تلك المناطق وليست مستوردة.
لننتقل الى المغرب الاقصى، مغربنا، ولننظر الى قبائله. نعلم ان قبائل الغرب وتادلة والحوز ودكالة وعبدة والشاوية قبائل هلالية بنص المؤرخين وعلى رأسهم ابن صاحب الصلاة الذي شهد مقدمهم ونقل ما قرر في امر اقامتهم في جهات المغرب، وردد قوله مؤرخون بعده كالحسن الوزان وابن خلدون وغيرهم. لكن ما القول في عرب تافيلالت وملوية وجبالة وهوارة والبرانس والتسول وغياثة وقبائل اخرى ليست من الهلالية في شيء؟ هؤلاء ليسوا من العرب الهلاليين ولكنهم عرب بحكم اللغة التي توارثوها ابا عن جد؟ انهم اكبر دليل على محلية اللغة العربية في المغرب دارجة وفصحى. بعض الكتاب راجعوا قائمة القبائل العربية الجزرية (نسبة الى الجزيرة العربية) فلم يجدوا فيها اسماء هذه القبائل العربية بينما وجدوا اسماء القبائل الهلالية. ماذا استنبطوا من ذلك؟ استنبطوا منه ان هذه القبائل العربية التي لا ذكر لها في قائمة القبائل الجزرية هي قبائل بربرية في الاصل تعربت ولم تكن عربية قبل ذلك. وهذا غريب. لماذا؟ لانه نموذج للتفكير السحري الذي تحدث عنه بعض المفكرين الفرنسيين. عوضا عن ان يقولوا ان هذه القبائل بصفتها المعلومة دليل على محلية اللغة العربية ومحلية هذه القبائل، انطلقوا الى القول بنظرية التعرب السحرية. السحرية؟ نعم لانه لا يقبل منطقا ان يتحول شعب او قبيلة من لغة الى اخرى الا ان كون اقلية عددية خالطتها اغلبية لغوية اخرى. معنى التعرب السحري الذي يشيعه الكتاب عن التاريخ اللغوي في المغرب وشمال افريقية هو ان بعض الامازيغ الذين يمثلون 80 في المئة من الكتلة الامازيغية استيقظوا فوجدوا انهم نسوا الامازيغية وانهم تحولوا الى النطق بالعربية. أساطير انغرست في اذهان كثير من الناس دون ادنى تأمل وفطنة الى اسطوريتها. الحقيقة ان الامازيغ ما زالوا يحتفظون بلسانهم في جبالهم ولم يصابوا ابدا بعلة التعرب السحري، وان هذه القبائل العربية غير الهلالية دليل على محلية اللغة العربية، وان العربية الدارجة لهذه القبائل العربية المحلية غير الجزرية هي التي هيمنت في نهاية الأمر. كيف؟ ان القبائل الهلالية والسلمية الوافدة على المغرب في القرن السادس وعلى تونس في القرن الخامس كانت تنطق دون شك بالعربية الصعيدية، اذ الصعيد موطنها الاول ومنه خرجت غازية كما وضح ذلك ابن تغري بردي في تاريخه النجوم الزاهرة فأين اللهجة الصعيدية في كلامها الآن؟ لا شيء الا بعض الكلمات. السبب؟ ذوبانها في الاكثرية العربية المحلية ولو لم تكن في المغرب الاقصى وغيره من المغارب اكثرية عربية محلية قديمة غير جزرية لحافظت القبائل الهلالية المغربية على لكنتها الصعيدية. اضف الى ذلك اللباس والاطعمة فالعرب المحليون والامازيغ يتحدون في ذلك ولولا ذلك الاتحاد لاحتفظ العرب الهلاليون بأطعمتهم الشرقية ولباسهم الشرقي ولكنهم ذابوا في الاكثرية العربية المحلية القديمة . ان العربية الدارجة هي دليل النسب العربي لهذه القبائل التي لا تقل عروبة عن القبائل الهلالية لا الأصل الجزري (نسبة الى الجزيرة العربية). وكذلك الامر في الامازيغية فأمازيغيتها دليل على انتساب قبائلها لا شيء آخر . وليست الدارجة العربية اقل عروبية وأصالة من العربية الفصحى فيطالب الناطقون بها بدليل انتساب غير العربية الدارجة نفسها الى المجال العربي، اي بدليل انتساب الى الجزيرة العربية. ومن الحق ان يقال هنا ان الامازيغية تبدو لمن يدرسها بغير انحياز نوعا من العربية ولكنها عربية مستقلة كالحال في الحميرية التي هي عربية مستقلة وان كان استقلالها ادنى واضعف من استقلال الامازيغية. ولقد كتب لي ان اعاشر في عمان اهل الحميرية وان ابحث في ما كتبوا عنها وهي ما زالت حية بينهم وكتب لي ايضا ان ادرس الامازيغية من جهة البنيات فبدا لي ان الجميع ينتمي الى اصل واحد. حقا لو قال اصحاب النظرية التعربية السحرية بقول آخر مختصره ان هذه القبائل تلقت اكثرية عربية فتعربت لاقليتها العددية، لجاز ان يقبل قولها اذ لا مانع من اختلاط الاكثر عددا بالاقل وانتهاء ذلك بهيمنة لغة الاكثرية. اما ان يقال ان هذه القبائل العربية غير الجزرية اصلها امازيغي وتعربت بسبب الدين او غيره فليس الامازيغ اشد تدينا من الايرانيين والافغان، بل ان بعض المؤرخين المغاربة كالعروي في بعض ما كتب يتحدثون عن انتشار العربية تدريجيا من عصر الى عصر كأننا امام قنبلة كيميائية لا قبل لأحد بصدها. هذا التفسير الخرافي لحضور العربية في المغرب لا اصل له الا تجاهل الحقائق اللغوية القائمة على الارض والانطلاق من مقدمة خاطئة مغلطة هي غياب العربية في المغرب قبل الفتوح العربية ذات الملامح الملحمية والربط بين الفتوح والعربية. والحال ان الفتوح العربية شيء وحضور العربية في الصحراء الافريقية وشمال افريقيا شيء آخر. ولنتذكر هنا التاريخ القديم الفينيقي والقرطاجي في المغرب فهو دليل على حضور العربية القديم في الشمال الافريقي. ولقد كنت في اول عهدي بالنظر في هذه المسائل استعظم قول الذين يدعون عروبة الفينيقيين واستنكر ذلك عن غير تجربة، ثم حدث سنة 83 ان نظرت بنفسي في النقوش الفينيقية فوجدتها عربية دارجة اقرب الى الدوارج العربية في شمال افريقيا منها الى الدوارج الشرقية. على ان هذا ليس الا ظنا لاننا لا نعرف الطرق الصوتية التي كان عليها منطق الفينيقيين.
آخر دليل منطقي على حضور العربية الكثيف في المغرب قبل الهلاليين وعلى اصالة العربية في شمال افريقيا او المغرب العربي هو خصائص دارجته. كيف نفسر الاستقلال الفونولوجي والتركيبي الذي يميز الدوارج العربية الشرقية عن الغربية في المغرب العربي؟ بل اننا نتساءل عن الاسباب التي تميز طائفتين دارجيتين هما الطائفة الجزائرية ـ المغربية عن الطائفة التونسية ـ الليبية ؟ الجواب عن هذه الاسئلة عند القائلين بوفود العربية مع الفتوح العربية الملحمية الملامح في الخطاب التاريخي هو ان الدوارج هي بنات العربية الفصحى وانها تلونت في البلاد التي حل بها العرب بألوان وصفات مختلفة. هذا القول اصله قول آخر هو ان العرب الفاتحين وعرب بني هلال بعدهم بخمسة قرون كانوا يتكلمون بالعربية الفصحى. طيب، اذا كان الامر كذلك جدلا (وهو ليس كذلك لأسباب ليس هنا مكان بسط القول فيها) فلماذا يكون كتب على الفصحى ان تتطور الى دوارج ولا يكون كتب على الدوارج ان تتطور الى اشكال اخرى؟ بلغة اخرى ما الدليل على وقوع التطور اللغوي في غير الالفاظ ومعانيها لا في التركيب والمرفولوجيا؟ لا دليل على ذلك الا ادعاءات سوسور وانطوان مايي وغيرهم من الالمان. هؤلاء اقاموا قولهم عن التطور بالنظر الى نصوص من ازمان مختلفة متباعدة وهذا لا يسمى بالتطور اللغوي بالاضافة الى انه نوع من التفكير السحري الذي يذكر ببعض اطروحات داروين الفاسدة في التطور. تفكير سحري؟ نعم لأن القول بالتطور يستوجب قبل القول به تأسيسه منطقيا وهو من الناحية المنطقية مرفوض لأنه يسوجب كما تقدم توافر ادوات المراقبة التي شأنها ان تمتد لقرون وترك البناء على النصوص للبناء على اجيال بشرية مراقبة. هناك اشياء لا تطور فيها هي المنطق الطبيعي نفسه واللغة منه. ان التطور اللغوي الحقيقي الذي غفل عنه اللغويون ولا يمكن مراقبته هو التطور النسبي. كيف؟ هو التطور بين اجيال من البشر متحدة اللغة في الجيل الاول. بالملاحظة البسيطة نكتشف ان هذا النوع من التطور وهو الاحق بالاسم لا يتحقق ابدا. الدارجة المغربية التي اتكلمها شخصيا هي الدارجة المعروفة في المغرب في بداية القرن 19 وقبل ذلك. كيف؟ لان اجدادي ولدوا في القرن 19 وآباؤهم ولدوا في اوله او وسطه ولم يرد علينا منهم اشارة الى تغير او ما في معناه الا في بعض الامور الطفيفة الصوتية كالقاف او المقطعية الفونولوجية او بعض معاني الالفاظ. اما الشجرة والهيكل فواحد لا يتغير ولا يندثر الا باندثار الناطقين بالدارجة. ان غياب التطور الهيكلي اللغوي في ثلاثة اجيال يستغرقون قرنين دليل على انه ممتد في التاريخ. هذا لا يعني اننا ننكر التطور بين قوسين الناتج عن الجهل باللغة كالحال في لغة الاذاعات العربية مثلا والتلفزيونات.
الغرض من هذا كله الرد على القائلين بتطور الدوارج عن العربية الفصحى الوافدة من الشرق، على قولهم، مع الفتوح العربية الملحمية الظنية. ان الدوارج اخوات الفصحى ولم تتطور عن صورة سابقة في هياكلها. ولئن جاز ان نقبل جدلا ان تكون الفصحى جاءت الى المغرب العربي مع القرآن العظيم - وهو ما لا يدل عليه دليل لالتصاق الدوارج تاريخيا بالعربية الفصحى - فانه من غير المقبول منطقيا ان تكون الدوارج في المغرب العربي مستقدمة من الشرق. منطقيا؟ لماذا؟ لانه لو كانت جاءت من المشرق لبقيت في المشرق صور منها او لكانت في بنياتها النحوية التركيبية والصرفية متطابقة مع الدوارج الشرقية او لكانت نسخا منها. ان الفرنسية انتقلت الى كندا والانكليزية الى الولايات المتحدة ولم تتغير بنياتها فلماذا يجب ان تكون تغيرت بنيات الدوارج الشرقية ان كانت فعلا نقلت من الشرق الى المغرب؟. قلنا ان تاريخ الفتوح العربية للاقطار فيه الرائحة الملحمية. يؤكد ذلك اننا من الناحية اللغوية نشهد اختلافات نحوية ومعجمية بين الدوارج العربية والاسيوية الافريقية بل نجدها بين الدوارج الافريقية نفسها. اختلافات معجمية؟ من مثل دار بمعنى فعل التي حدودها مصر ومثل بس بمعنى يكفي التي حدودها ليبيا ومن مثل العظمة التي معناها خاص في الدارجة التونسية بالبيض الخ اختلافات نحوية؟ نعم. من مثل الجمع المؤنث السالم المضاف الى الفعل في مثل يركبن. هذا الجمع اصل كلامي في الدوارج الاسيوية وغائب عن الدوارج العربية الافريقية بما فيها من مصر والسودان. اعظم من هذا ان عرب شنقيط والصحراء المغربية يسمون العربية بالحسانية ولو كان آباؤهم وفدوا من الشرق لسموا لغتهم باسمها في الشرق اي العربية او المضرية او النزارية او العدنانية. وان شئنا ان نضرب مثلا آخرأشرنا الى خصائص الدارجة العراقية بالنسبة الى الشامية والى شين المخاطبة في عمان والى الجموع المختلفة في الدوارج العربية الخ. ان الفروق بين الدوارج العربية دليل على اصالتها في اماكنها المختلفة من العالم العربي وليس شيء منها بمستورد من ارض الى ارض. ومن العجيب ان القدماء لم يشيروا ابدا الى تطور الدوارج المغاربية عن دوارج شرقية وافدة ولا عن تطور الدوارج عن العربية وانما كانوا يتحدثون عن ظهور اللحن. وفرق بين الكلام عن ظهور اللحن وبين الحديث عن التطور المدعى حصوله بين صورتين لغويتين. ويبدو ان الانبهار بسوسور وغيره دفع اللغويين الى تجربة القول بالتطور في موضوعنا بغير برهان. التبعية الحداثية تركيب متناقض ويصف حالنا.
ان العربية الفصحى لسان وقع عليه الاجماع بين العرب الدارجيين منذ العهد الأول وكانت الدوارج العربية في تاريخها كله تابعة للعربية الفصحى حاضرة معها عارفة بمجالاتها الفكرية والادارية مكتفية كالامازيغية في الشارع والبيت. والفصحى ان لم تكن اما لها فهي مرجعها وموقع الأخذ والاغتناء عندها. كانت العربية الفصحى حاضرة في مواقعها حيث حضرت الدوارج العربية والامازيغية. لا يفترقان. وفي الشمال الافريقي حدث اجماع تاريخي آخر على العربية الفصحى من قبل الناطقين بالدوارج العربية ومن قبل الناطقين بالدوارج الامازيغية. هذا الاجماع الذي توارثته الأجيال منذ القرن الأول او ربما قبله بحكم حضور قبائل عربية غير جزرية سبق ان اشرنا اليها وقبل الحضور الهلالي، هذا الاجماع لا سبيل الى نقضه الا بخير منه ولا ارى في الافق خيرا منه بل هو خير ما أورثنا اياه الأسلاف. ولئن نقضناه ففي ذلك شر عظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

عن جريدة القدس العربي




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات