مواضيع اليوم

أشياء تقتلها العولمة وتحييها الهوية

ممدوح الشيخ

2009-05-24 13:10:21

0


أشياء تقتلها العولمة وتحييها الهوية!


بقلم/ ممدوح الشيخ


لم تغب الأفكار والرموز عن صنع التاريخ الإنساني أبدا، هذه حقيقة لا يجادل في صحتها من له معرفة كافية بخلفيات العلاقات الدولية منذ ظهور الدولة القومية الحديثة، لكن غياب الأيديلوجيات، أو بتعبير أدق تقلص دورها بسقوط الاتحاد السوفييتي، أوهم البعض بأن العولمة نجحت في تغليب ما يتصل بالإجراءات على ما يتصل بالمعنى، وتغليب ما هو عام، وما هو مشترك بين البشر، على ما هو خاص، أي تغليب المنفعة على القناعات.
لكن الحقيقة أن المعنى أصبح يشغل الإنسانية بشكل غير مسبوق: من الشجار حول تسمية فيروس انفلونزا الخنازير، إلى الانشغال بحجاب المسلمات الأوروبيات، إلى السجال حول ما حدث لليهود على يد النازي بل إلى خروج مظاهرات في دولة احتجاجا على صورتها في المناهج الدراسية لدولة أخرى!
لكن الجديد أن ينشغل مجتمع كالمجتمع الألماني بإحياء ذكرى معركة وقعت قبل ألفي عام باحتفالات تستمر عدة أشهر!
الخبر بثه الموقع الإلكتروني للإذاعة الألمانية (دويتش فيلة) واستوقفني طويلا، فهو يشير إلى أن ثلاثة متاحف ألمانية ستحيي ذكرى معركة وقعت قبل ألفي عام بين الجيشين الروماني والجرماني أبيدت فيها ثلاثة فيالق كاملة و6 كتائب مشاة و3 أجنحة فرسان تشكل كلها قسما كبيرا من الجيش الروماني. وبعد المعركة بدأت حرب استمرت سنوات لاسترداد شرف الجيش الروماني وفي النهاية، تخلى الرومان عن أي محاولة لاحتلال مناطق جرمانية على ضفاف نهر الراين الذي اعتبر حدوداً نهائية للإمبراطورية لأربعة قرون لاحقة.
والمتاحف الألمانية الثلاثة ستنظم عددا كبيرا من الفعاليات بينها معرض تاريخي عنوانه: "إمبراطورية – صراع – أسطورة"، يستمر أكثر من خمسة أشهر بقليل!
وإعادة تمثيل المعارك في أوروبا ظاهرة واسعة الانتشار، معظمها يكون بدوافع ثقافية أو حتى سياحية، لكنه في حالات أخرى يكون نوعا من تأكيد الهوية. ففي أسبانيا، مثلا، توجد مدينة تحتفل سنويا بذكرى معركة يطلق عليها: "عرب ومسيحيون"، والاحتفال يتم في مدينة الكوي بمنطقة بلنسية لمدة أسبوع، وفي وسط المدينة تبنى سنويا قلعة كبيرة يتم التنافس عليها بين الجيشين.
وعادة تكون القلعة بيد العرب ويحاول المسيحيون الاستيلاء عليها بحضور عشرات الآلاف من المشاهدين، والمعركة "لا بد" أن تنتهي بهزيمة العرب، وهو أمر لا يحتاج إلى تعليق! والاهتمام الألماني بذكرى معركة فاروس المشار إليها ينطوي على مفارقة رئيسية هي أن الدور الفرنسي/ الألماني في قيادة قاطرة الاتحاد الأوروبي كان يرجح أن يجعل مثل هذه الاحتفاليات مرشحة لأن تتوارى وتحتل خلفية المشهد، فقضية "الهوية الأوروبية" مشكلات حقيقية في مسيرة الوحدة الأوروبية، والطموح لبلورة مثل هذه الهوية سيتطلب من كل الشعوب الأوروبية تعزيز ما هو "توافقي" وتهميش ما هو "صراعي"، حتى لو كان مجرد رمز!
وبالتالي فإن مثل هذا الاحتفال يتوقع أن يفتح الباب لنقاش حول التاريخ الأوروبي، وكيف يمكن أن يكون حافزا، وكيف يجب منعه من أن يكون عبئا. والهوية كسبب للصراع ليس جديدا على الذاكرة الأوربية، ففي تسعينات القرن العشرين شهدت بلجراد حادثة غير مسبوقة عندما وجهت دعوات رسمية لسفراء لحضور احتفال "رسمي" بذكرى مرور 660 عاما على معركة كوسوفا التي أدى انتصار الدولة العثمانية فيها للبقاء في البلقان لعدة قرون، وقد كان الاحتفال مؤشرا على الاحتقان الذي سرعان ما انفجر صراعا دمويا في البلقان، وهو صراع استمر لسنوات وسقط فيه مئات الآلاف من المدنيين، وترك في ذاكرة البشرية ذكريات لا تنسى.
والدلالة الأكثر وضوحا لهذا الاتجاه إلى إحياء لحظة تاريخية بعينها بهذا الاحتفاء الواضح، أن العالم يتجه لحقبة ينشغل فيها العالم بالمعاني والرموز أكثر من الاهتمام بالموارد المادية، فالعالم الذي شهد خمسة قرون من الصراع العنيف على الموارد خلال فترة الاستعمار العسكري المباشر، تغير وتوجهت بوصلته – ولو جزئيا – نحو الأفكار والرموز والمعاني، وانتقل الصراع لميدان جديد.
فعندما تكاد أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم تمنع رئيس وزراء الدانمارك من تولي منصب أمين عام حلف الناتو، وعندما تصبح قضايا مثل حق مسلمات أوروبا في ارتداء الحجاب موضوعا للتقنين وضمن الأولويات الإعلامية، فإن هذا يكون مؤشرا على أن الهوية وأسئلتها تتصدر واجهة المشهد من دارفور إلى البلقان، ومن ألمانيا إلى الهند.
والهوية تكون عبئا عندما يتم التعامل معها كمفهوم مغلق لا يقبل تأكيد أشياء وتهميش أخرى، وكل جماعة بشرية مهما كانت درجة تقدمها تعود لتاريخها لتنتقي منه ما يدعم هويتها، فكلما كانت الهوية منفتحة اختارت ما يعزز التعددية والحوار قبول الآخر، وكلما كانت منغلقة اختارت ما يؤكد الاختلاف عن الآخر، وعززت قيمة لحظات الصدام وتمحورت حولها.
وثمة حوار مهم انفتح في أوروبا بعد فوز باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، وانتبه مثقفون أوروبيون إلى أن الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات ليس هذا الرجل ذا البشرة السمراء، بل الهوية الأمريكية بطبيعتها المنفتحة، بينما لا يستطيع أي "باراك أوباما أوروبي" (وهي إشارة إلى المهاجرين) أن يحقق النتيجة نفسها بسبب السمة الغالبة على الهويات الأوروبية، فهي هويات يغلب عليها غياب الانفتاح كما يغلب عليها الثبات. والتفاوت الكبير بين المعنيين المختلفين للهوية على جانبي الأطلسي ليس موضوعا نخبويا تعد مناقشته من قبيل الترف، فالفرق الكبير بين الهويتين صنع واقعين مختلفين إلى حد كبير. وفي عالم فرضت فيه العولمة مزيدا من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، أثبتت الصيغة الأمريكية للهوية مرونة أكبر في استيعاب وقبول "الآخر" مقارنة بمثيلتها الأوروبية، وهو ما انعكس إيجابيا في استقطاب أمريكا ملايين المهاجرين دون شعور بأنهم يهددون هويتها، وهؤلاء بالتالي يساهمون دائما في تجديد شباب أمريكا اجتماعيا واقتصاديا، بينما يشكل المهاجرون مشكلة كبيرة للمجتمعات الأوروبية التي أسهم التصور السائد في ثقافتها للهوية في إقامة جدران الخوف والريبة بينها وبين المهاجرين الذين يظلون غرباء حتى بعد حصولهم الجنسية.
إن الاحتفال الألماني بمعركة فاروس هو رمز، وعالم الرموز والمعاني من السمات التي ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات، ومع ظهور هيكلية جديدة للعلاقات بين الثقافات والحضارات بعد الحرب الباردة، فإن الرموز والمعاني أصبحت – أو تكاد – أكثر أهمية بكثير من الموارد والمصالح، وهي مرشحة أكثر لأن تبني الجسور أو تقيم الحواجز بين الأمم.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !