مواضيع اليوم

أسوان .. النيل والخضرة والأبواب المشرعة

محمود ابو بكر

2009-06-14 21:53:53

0

أسوان .. النيل والخضرة والأبواب المشرعة

الرحلة من القاهرة نحو أقصى الجنوب المصري حيث مدينة "أسوان" التي تمثل استثناءاً مختلفا في النسيج المصري ، سواء من حيث تركيبتها السكانية أو تضاريسها الجغرافية او حتى في الطقس المائل للحرارة .- تلك الرحلة- تحمل من المشاق والمكابدة ما يجعل السفر بالفعل "شق من النار" التي لا تصبح برداً وسلاماً عليك إلا وأنت تغسل همومك ومشاق السفر والترحال حين تلامس هدوءها الآسر ، وتعانق طيبة أهلها الموشومين بالبشاشة ، وتكتشف سحر النيل وهو يشق رحلته نحو الشمال ، حاملاً الخصوبة حيثما حل وأرتحل ، معتقاً بالتواريخ القديمة ، ومضمخاً بنجوى الأحبة ، القابعين على ضفتيه المثقلة بالأسرار والتفاصيل الكثيرة ، والتي تختزن أحلام "عشرة شعوب "ترابط على شريط هذا النبع الوفير في مسيرته الأبدية .


إذاً كانت أسوان المقصد والهدف ، لرحلة ستظل مختزنة في حارات الذاكرة ، كإحدى "الأساطير" التي لا تتكرر إلا في القصص الحالمة ، وفي روايات العشق التماهية مع ولع "الذاكرة" بالمكان المختلف حد الوله بتفاصيله الدقيقة .
كنا ندرك – أنا ورفاق الرحلة - أن التوقيت الذي اخترناه لم يكن حتماً – المفضل - لزيارة هذه المدينة (نظرا لإرتفاع درجة الحرارة ) حيث غالبا ما يكون فصل الشتاء هو الموسم الذهبي لهكذا رحلة ، أين تضحي أسوان هي " قبلة السياح " القادمين لإكتشاف أغوارها وزيارة معالمها التاريخية ، والتمتع بمشاهدة لحظات الغروب من على المراكب النيلية الصغيرة ذات الأشرعة .
المسافة بين القاهرة – نقطة الإنطلاق – وأسوان تقدر بحوالي 880 كم ، حيث أن محافظة اسوان تقع في اقصى رقعة حدودية بين مصر والسودان ، كما أن هناك تمازجاً عرقيا وثقافيا بين البلدين ، حيث تنتشر القبائل والعشائر المشتركة في كلا الجانبيين من الحدود (بحكم التقسيم الإداري) .. منهم : النوبيون والجعافرة ، والعبابدة ، والأنصار ، وبني هلال ، والقضاة ، والحجازية ، وقد شكل هذا التنوع ثروة ثقافية وحضارية باذخة ، قلما تمتعت به مدن الشمال ، مما اكسب المدينة طابعا مميزاً على مستوى انعكاس تلك الثقافات المتعددة في مختلف مناحي الحياة ، سواء في الطراز المعماري حيث تنتشر البيوت النوبية ذات الطابع الخاص والمختلف ، وأناسها الذين يقفون على الأبواب يفتحونها للغريب بمفردات الترحيب ، او على مستوى اللكنة المميزة ، و أبرزها اللغة النوبية –المحكية - فضلا عن النمط الموسيقي الذي تتعدد ايقاعاته في هذه المنطقة ، من السلم السباعي وحتى السلم الخماسي، في حوار فريد بين الرتم والنغم ، وكأن "المزاج الاسواني " هو الفضاء المجسر للمساحة المفترضة بين ايقاعات الجنوب الصاخبة وانغام الشمال المائلة للتطريب .

بلاد الدهب .. والتاريخ .. والاكتشافات أيضا !


يؤكد المؤرخون أن أسوان كانت تعرف قديما بـ "سونو" في عصور المصريين القدماء (الفراعنة )و تعني "المركز / او السوق " حيث يذكر التاريخ ، أنها كانت مركزا تجاريا للقوافل القادمة من وإلي النوبة ثم أطلق عليها في العصر البطلمي اسم "سين" وسماها النوبيون "يبا سوان". . اي "بلاد الذهب " وذلك لانها كانت عباره عن كنز كبير أو مقبره لملوك النوبة الذين عاشو فيها الاف السنين حيث كانت تمتد قديما قبل الهجرة من اسنا شرقا إلى حدود السودان جنوبا وكان سكانها من النوبين وبعد الفتح الإسلامي لبلاد النوبة سكن فيها بعض قبائل العرب القادمين من الجزيرة واختلطوا بأهلها وتصاهروا معهم .

ولأن الحضارة الفرعونية القديمة قد شيدت أمجادها في اقصى الجنوب خاصة في اسوان والأقصر حيث " قصور ومعابد " الفراعنة التي لا تزال قائمة وشاهدة على تلك الفترة ، فإن هذه المدينة ظلت في قلب اهتمامات العلماء والفلكيون القدماء ، ويؤرخ علماء الجغرافيا ، أن "أسوان" هي المدينة التي نالت شرف إجراء أول قياس لمحيط الأرض ، حيث تمكن "إراتوستينس "(276 ق.م. - 194 ق.م.) بدحض نظرية الأرض المسطحة وقام بأول حساب لمحيط الأرض متخذا "أسوان" مركزا والإسكندرية نقطة طرفية لحساب طول القوس بين النقطتين وزاوية سقوط ضوء الشمس على كل من المدينتين ومنهم حسب محيط الأرض. معتمداً على تعامد الشمس على مدار السرطان (المار بأسوان) يوم 21 جوان من كل عام .
التاريخ لا يزال يصافح الناس هناك

وعلى عكس " أهرامات الجيزة " ومعالم التاريخ القديم المنتشرة عبر العالم والقابعة خلف أبنية المتاحف ، او أسوار "الحظائر" تبدو المعالم هنا مختلفة ، ومشرعة امام الجميع ، وربما " مهملة " في بعض المناطق ، وفي لحظة ما قد يبدو لك الأمر أنك قد عدت قرون للخلف لتصافح الفراعنة و تمارس هواية العيش في زمانهم .
والأمر لا يقتصر على اسوان بل بالأخص يبدأ من الأقصر حيث " وادي الملوك" .. المتحف الأكبر في العالم المفتوح على الهواء ..
هنا يمكنك إستعادة كل "القصص والحواديت" التي قرأتها او شاهدتها في أفلام ما ، حول الفراعنة وأزمنتهم .. هنا حيث عاشوا و حكموا ، وابدعوا واستكشفوا العلوم والفنون ، أقاموا أفراحهم ، وطقوسهم ،وشيدوا المعابد والقصور ، فيما اختصوا "الجيزة" (القاهرة الحالية )، موقعا للحياة الأخرى ، .. ما بعد الممات ، فأقاموا عليها "الأهرامات " التي تضم كل واحدة منها قبرا من قبور ملوكهم ، حتى يؤسسوا لحياتهم الثانية ، ترسيخا للإعتقاد الذي درج عليه الفراعنة والمتمثل في "أن الميت انما ينتقل لحياة أخرى " .
ولعل أهم المعالم التاريخية التى بقت ونجت من تداعيات "التهجير " حيث غرق الكثير من الآثار في تلك " المأساة التاريخية " التي سنوردها لا حقا ، جزيرة فيلة الأثرية وهي جزيرة نيلية تقع قبالة اسوان كانت تعرف في النصوص المصرية القديمة باسم "أبو" ومعناها سن الفيل ويعتقد أنها كانت في وقت من الأوقات مركزا لتجارة العاج ، و تضم الجزيرة معبد خنوم و مقبرة الكبش المقدس و بوابة الملك أمنحتب الثانى و ثالوث ساتت وعنت .
كما يضم "متحف أسوان" نماذج من الآثار الفرعونية المؤرخة للحضارات التي تعاقبت على المنطقة .
واذا ما نحيت جنوبا تجد معبد أبو سمبل الأثري والذي يتكون من معبدين كبيرين نحتا في الصخر . وقد بناه الملك رمسيس الثاني عام 1250 ق.م. وواجهة المعبد تتكون من ستة تماثيل كبيرة . اربعة تمثل لرمسيس الثاني واثنتين لزوجته نفرتاري.

السد العالي .. المنجز والمأساة


لعل احد اهم منجزات مصر الحديثة يتمثل في بناء السد العالي وهو سد مائي تم انشاؤه بالقرب من أسوان في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، وذلك للتحكم في تدفق المياه والتخفيف من آثار فيضان النيل. وكذلك لإستخدامه في توليد الكهرباء ، و التوسع في المساحات الزراعية عبر توفير المياه وادخال تقنية الزراعة المروية .
وبالرغم من أن "المشروع " بدا حلما لكل المصريين إلا أن آثاره الجانبية في ذات الوقت كانت قاسية للغاية ، خاصة فيما يتعلق بالقرى النوبية حيث أن بحيرة ناصر التي اقيمت قد غمرت قرى نوبية كثيرة كانت ترابض بالقرب من موقع "المشروع" ، مما أدى الى ترحيلها لمناطق مختلفة لم تكن مهيئة لها .
وقد خلق ذلك الوضع ما أضحى يعرف اليوم بـ " التغريبة النوبية / او التهجير " ، حيث ترك أعداد كبيرة من النوبيين مناطقهم وقراهم ، وتم تهجيرهم الى المدن الكبرى والبعض الآخر الى صحراء قاحلة ، دون تقديم تعويضات مناسبة على الارض والزرع والدرع .

التغريبة النوبية .. وحقول الغناء

"في أسوان كل شيئ مرتبط بالغناء" هكذا قال " أودي" ، الشاب الأسمر الذي اصطحبنا في " مركبه الشراعي" على النيل ،والموسيقى تصدح بصوت عالي ، في حين كان المساء يسدل ستاره .. أشار بيديه قائلا : " بص الغروب ده جميل أزاي " ، شعرت بأنه لم يكن يريد أن يستكمل الحديث الأول الذي بدأته معه حول صوت الموسيقى ، فبادرته بالسؤال ، " هو أنت تسمع لمين "؟ ، اجابني دون ان يلتفت " انا بسمع كتيير عربي وغربي .. يعني ما ليش فنان محدد " .
أضفت بدوري " بس أكيد تسمع لمحمد منير ( وهو ابن أسوان ) . رد بسرعة " اكيد ده الملك .. بس اسمع احمد منيب أكثر " .

والواقع أن هذه الإجابة كانت كافية لأن تعيدني الى "حكاية الغناء والقضية " ، ولا أدري لماذا تذكرت مقولة الفنان الفرنسي شارل أزنافور ، " الأغنية بحاجة الى قصة ، والمترفين لا قصص لهم .. وحدهم البسطاء والمقهورين يمنحونا فرصة أن نظل نغني "!
أحمد منيب يمثل هذا الجيل من المغنين النوبيين المسكونين بقضيتهم ، وبمطلب "العودة لبلاد الدهب " حتى ولو على "سلم الأغنية " فقط ! ، وهو مطلب مشروع .. "ناوين اننا راجعين يا بلادى ومشتاقين .. ناذرين لما نرجع تانى لبلاد الجمال ربانى .. جوة البيت هنزرع نخلة ..تطرح خير وتعمل ضلة .. والعصافير تلقط غلا فى الحوش الكبير والرملة "
كل ذلك المشهد دار أمامي ونحن نجول على صفحة النيل الأسواني ، وكانت المجموعة المرافقة قد اندمجت في حلقة غناء راقص ، بينما الصوت قد اصبح اكثر علواً ، وفي طريق العودة، كان الجميع قد وافق ان يضمخ يده بوشم حناء اسواني .. حيث اقترح "اودي " ان نعرج على مرفأ جانبي تقف فيه فتيات الحناء لرسم الوشم مقابل مبلغ زهيد .

ثلاثة أيام من الهدوء والتطلع على الطبيعة ومشاهدة أجمل غروب على صفحة النيل ، كانت كفيلة أن تجعل منا عشاقا لهذه المدينة المختلفة تماماً ، مما ضاعف مكابدات العودة ، حيث كنا نعلم ان الرحلة شاقة إلا أن ما يجعلها اكثر شقاءا هو عودتنا الى حيث الضوضاء ، والإزدحام ، وأبواق المركبات وأدخنتها .. نحو القاهرة !




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !