اختلفت النظريات اللسانية والأسلوبية بالنسبة إلى تعريف ووصف الأسلوب ، أو الحقل الذي تتحرك فيه الأسلوبية، فنجد أن فريمان d.c.freeman حدد الحقل الذي تتحرك فيه الأسلوبية في ثلاثة أنماط:
- الأسلوب بوصفه انزياحا عن القاعدة.
- الأسلوب بوصفه تكرارا للأنماط اللسانية.
- الأسلوب بوصفه استثمارا للإمكانيات النحوية.
ويذهب ديفيد روبي إلى أنه في أيامنا، أي في الربع الثالث من القرن العشرين، أربع طرائق تنظر بها الأسلوبية إلى لغة الأدب، وأسلوبه، وهي: 1- كون الأسلوب زخرفة، أو 2- كونه دلالة ذاتية 3- كونه تمثيلاً، أو 4- كونه نمطاً.
وقدم سانديرس عدة تعاريف للأسلوبية بداية من تعريف comte de buffon:" الأسلوب هو الشخص نفسه " ، le style est l homme même،بيفون يرى " أن المعارف والوقائع والاكتشافات تتلاشى، وقد تنتقل من شخص إلى آخر، ويكتبها من هم أدنى مهارة فهذه الأشياء تقوم خارج الإنسان، أما الأسلوب فهو الإنسان نفسه، فالأسلوب إذن لا يمكن أن يزول، ولا ينتقل ولا يتغير" ، ورولان بارت يسير في هذا الاتجاه فيقول عن الأسلوب: " الأسلوب شيء الكاتب، وهو روعته وسجنه، إنه عزلته، فالأسلوب لا يبالي بالمجتمع، وهو شفاف اتجاهه، ولكنه مسعى مغلق للشخص فإنه لا يكون بتاتا نتاج خيار أو تفكير في الأدب إنه الجانب الخصوصي في الطقوس" .
وأنهى سانديرس تعاريفه للأسلوب بتعريف سوفينسكي:" الأسلوب هو شكل من أشكال استعمال بدائل لغوية مناسبة، ومحددة استعمالا متواترا لأغراض تعبيرية محددة، إنه شكل من الاستعمال الموحد نسبيا، المتميز مقارنة بالنصوص الأخرى" ، أما التعاريف التي تتوسط هذا وذاك، فإنها تدور حول ثلاث محاور هي :
- الأسلوب الذي يعبر عن الحالة النفسية والتعبيرية.
- الأسلوب الذي يشكل انزياحا.
- الأسلوب بوصفه اختيارا.
وفي الدراسات العربية للأسلوب فإن الدكتور سعد مصلوح يرى بأن الأسلوب هو إما: 1- اختيار ( انتقاء)، 2-ردود أفعال، 3- مفارقة ( انزياح- انحراف)، 4-إضافة، 5- تضمن ، والدكتور حسن ناظم يتطرق إلى الأسلوب من جهة أنه إما: 1- تضمن وإضافة، 2- انزياح، 3- إحصاء، 4- اختيار .
" تكاد جل التيارات التي تعتمد الخطاب أساسا تعريفيا للأسلوب تنصب في مقياس تنظيري هو بمثابة العامل المشترك الموحد بينهما، ويتمثل في مفهوم الانزياح lécart " ، يرى بعض النقاد الأسلوبيين أن الانحراف من أهم الظواهر التي يمتاز بها الأسلوب الشعري عن غيره، لأنه عنصر يميز اللغة الشعرية، ويمنحها خصوصيتها وتوهجها وألقها، ويجعلها لغة خاصة تختلف عن اللغة العادية، وذلك بما للانحراف من تأثير جمالي، وبعد إيحائي" .
وإن كان مفهوم الانزياح قد تتطرقت له المدرسة الشكلانية الروسية " 1920م-1930م"، فإن النظرية عند الشكلانيين تقوم على أساس التركيز على صفة الكتابة التي تجعل من الكلام أدبا، والأدب هو الخروج عن المألوف في وسائل التعبير، واستخدام الحيل الكتابية والتراكيب اللغوية، ولا يمكن التحدث عند الشكلانيين عن أي شيء آخر عدا الشكل" ، والشعرية الحديثة تعتمد على الانزياح "فمن الدارسين المعاصرين من خص الشعرية باتجاهين رئيسين: الأول فن الشعر وأصوله التي تتبع للوصول إلى شعر يدل على شاعريته ذات تميز وحضور" ، "والاتجاه الثاني يشير إلى الشعرية كونها الطاقة المتفجرة في الكلام المتميز بقدرته على الانزياح، والتفرد وخلق حالة من التوتر" ، "والأسلوب بوصفه انزياحا أو انحرافا، فثمة مقترب للأسلوب يقوم على مقارنة مجموعة معينة من السمات بمجموعة أخرى بموجب الانزياح الذي يعد المقترب الشائع خلال الستينات من هذا القرن [...] وبالأحرى فإننا نضع أي نص أو فقرة من اللغة بمواجهة المعايير اللسانية لجنسه ( النص ) أو لحقبته، وبمواجهة الجوهر المشترك للغة ككل" .
والانزياح له دور في رسم صورة فنية راقية للعبارة " فمنح الصورة الفنية لغة إيحائية خاصة هذه اللغة هي ما أسماه الناقد الأسلوبي جان كوهن اللغة بالانزياحية ، أما بيار جيرو فقد أورد تعريفا للأسلوب ( نسبة إلى بول فاليري ) فحواه أن الأسلوب هو انزياح écart بالنسبة إلى معيار norme مضيفا أن : "كل انزياح لغوي يكافئ انحرافا déviation عن المعيار على مستوى آخر، مزاج، وسط، ثقافة ..." ، أما قاموس جون ديبوا فيشير إلى أن الانزياح حدث أسلوبي، "ذو قيمة جمالية يصدر عن قرار للذات المتكلمة بفعل كلامي يبدو خارقا transarressant لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارا norme يتحدد بالاستعمال العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها .
" الانزياح يتخذ أنماطا مختلفة من ناحية تنوعاته أو تحققاته العينية في النصوص الأدبية، كما أن وجهة نظر الدراسة التي تطبق مقولة الانزياح يمكن أن تتنوع كذلك ما دام جوهر عملية تطبيق مقولة الانزياح إنما هو إجراء مقارنة فالتطبيق تطبيق مقارن يضع النص الأدبي، ويتأمله لا كشيء في ذاته، وإنما كشيء مرتبط بطريقة معينة بآخر حاضر في الذهن سواء أكان هذا الآخر متجمعا كنص آخر أم مرتبط كنمط حقبة معينة سابقة على حقبة النص" ، ورؤية أخرى للأسلوب ترى فيه مفارقة departure أو انحرافا déviation عن نموذج آخر من الفعل ينظر إليه على أنه نمط معياري norm، ومساغ المقارنة بين النص المفارق والنص النمط هو تماثل السياق في كل منهما .
مصطلح الانزياح l écart عسير الترجمة لأنه غير مستقر في متصوره لذلك لم يرض به الكثير من وراء اللسانيات والأسلوبية، فوضعوا الكثير من المصطلحات البديلة عنه ، وقد حاول جاكبسون تدقيق مفهوم الانزياح بـ: خيبة الانتظار من باب تسمية الشيء بما يتولد عنه dereived expectation ( تلهف قد خاب ) l attente déçue الانتظار الذي خاب، وكذلك lattente frustrée الانتظار المكبوت ، و تصنيف الانزياحات بالنظر إلى مبدأي الاختيار والتأليف طبقا لفرضية ياكبسون في إسقاط مبدأ التماثل من محور الاختيار على محور التأليف، فتبرز لنا انزياحات استبدالية تحطم قواعد الاختيار كوضع المفرد مكان الجمع، والصفة مكان الموصوف، واللفظ الغريب بدلا من المألوف ، ويبدو أن هذا المصطلح قد شاع وانتشر بين الباحثين المعاصرين من خلال الترجمات والاطلاع على الدراسات النقدية الغربية الحديثة، إذ أن هذا المصطلح قد عرف بالفرنسية على أنه écart، وبالانجليزية على أنه déviation، وبالألمانية abweichung، وقد اختلفت تسميات هذا المصطلح في النقد الغربي وذلك باختلاف النقاد الذين تعاملوا معه فقد عده بول فاليري تجاوزا، وبارت يسميه فضيحة، وتودوروف يدعوه شذوذا، وجان كوهن يطلق عليه تسمية انتهاك، وتيري يسميه كسرا، وأراجون يدعوه جنونا .
والانزياح يمكن أن نصطلح عليه بعبارة التجاوز أو نسميه بلفظة عربية استعملها البلاغيون في السياق محدد وهي عبارة العدول ، وفي الدراسات العربية هناك عدة مصطلحات لمفهوم الانزياح أهمها: الإزاحة ( الانزياح)– العدول- الانحراف- كسر المألوف - الانتهاك - الخرق - التغريب - الأصالة – المفارقة.
ومن الناحية العلمية يعتبر الأسلوبيون أنه كلما تصرف مستعمل اللغة في هياكل دلالتها أو أشكال تراكيبها عد انزياحا ، كما أن كلمة انحراف déviation تعد مرادفا لكلمة انزياح écart على أن الانحراف لا يخلو أيضا من دلالة أخلاقية سلبية فإنه مفروض بقوة التداول والشيوع لذلك يظل إلى جانب الانزياح يتنازعان المفهوم، وإذا كان ولابد من مفاضلة بينهما فإن الانزياح في تقديرنا هو الأمثل والأفضل ، كما أن كلمة انحراف مقرونة بالإجبار في الزمان والمكان والكيفية، عكس الانزياح المقرونة بحرية الاختيار للزمان والمكان والكيفية، وهو ما يتفق مع مبدأ الاختيار في الأسلوبية.
" وأداة التحليل الأسلوبي عند من يرون أن الأسلوب هو انزياح هي المقارنة بين الخصائص والسمات اللغوية في النص النمط مرتبطة بسياقاتها وبين ما يقابلها من خصائص وسمات في النص المفارق [...]، وربما كان من أسباب قلة عطاء هذه الموازنات للدراسة الأسلوبية احتفاؤها بالمثال والشاهد والمعنى المفرد والكلمة المفردة أكثر من احتفائها بعمل أدبي كامل" ، وتنقسم المقارنة بهذا الاعتبار إلى مقارنة صريحة explicit comparaison حين يكون النص النمط متعينا، ومقارنة ضمنية implicit comparaison عند غياب النص المتعين .
ويتجلى الانزياح في عدة مستويات أهمها:
- انزياح على مستوى الحروف ( وضع حرف مكان حرف).
- انزياح على مستوى الألفاظ ( وضع لفظ مكان لفظ ).
- انزياح بالحذف ( حذف حرف، لفظ، جملة، بيت شعري،...)
- انزياح على مستوى التعابير ( وضع تعبير آخر غير شائع مكان تعبير شائع).
- انزياح على أنماط التبليغ ووسائله ( من التصريح إلى التلميح، تورية، تبليغ بتذكير بواسطة الربط،...).
- انزياح على مستوى بناء النص ( مثلا الخروج عن معايير بناء رواية، أو بناء مسرحية،...).
- انزياح على مستوى الأفكار ( استعمال فكرة في غير موضعها، أو عرض فكرة للوصول إلى أخرى،...).
- انزياح على مستوى استعمال الشواهد والأمثلة،...
- انزياح على مستوى توظيف المصادر السابقة ( شعر، قصص، شخصيات أعلام، أخبار، التراث، القيم،...).
- انزياح على مستوى توظيف الأهداف.
- انزياح على المستوى الدلالي، التركيبي، الصرفي، الصوتي، المعجمي،...
- ...
وقد يظن البعض إن الانزياح يمس التعابير والتراكيب فقط بل إنه يتعداها حتى في الصور والأفكار والمعاني والأكثر من ذلك حتى على مستوى الحروف فما بالنا بالمستويات الأخرى، فعبد السلام مسدي يرى أن التضمين النحوي والذي هو تضمين حرف مكان حرف مثلا: ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ ، فالتقدير يشرب منها وليس بها،فهذا التضمين عده عبد السلام مسدي نوعا من الانزياح، وقال في الانزياح: "ومن باب ذلك [ أي الانزياح] تضمين الحروف أي استعمال بعضها مكان بعض مثلا: قال الله تعالى : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭼ ، الرفث منها أو بها .
والانزياح على مستوى الألفاظ، فهو من باب وضع لفظ مكان لفظ آخر، وهذا الأمر شائع، ويتجلى هذا خاصة في التضمين النحوي، وأسلوب الالتفات، التضمين في علم النحو: "هو إشراب كلمة معنى أخرى لتتعدّى تعديتها نحو الآية ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ " فالفعل شرب تعدى بالباء لتضمينه معنى ارتوى، ونحو الآية ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭱ ﭼ حيث ضمّن يعلم معنى يميّز" ، وقال الزّركشي (ت794هـ): "هو إعطاء الشّيء معنى الشّيء، وتارة في الأسماء والأفعال، وفي الحروف، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى" ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭼ" ، ضمّن حقيق معنى حريص ليفيد أنّه محقوق بقول الحقّ، وحريص عليه، وأمّا الأفعال فأنّ تضمّن فعلا معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا، وذلك بأنّ يكون الفعل يتعدّى بحرف فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التّعدي به، فيحتاج إمّا لتأويله أو تأويل الفعل ليصّح تعديه به مثل قول الله تعالى ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ " "فضمّن يشرب معنى يروي، فأريد باللفظ الشّرب والرّيّ معا فجمع بين الحقيقة، والمجاز في لفظ واحد، وقيل التّجوز في الحرف، وهو الباء فإنّها بمعنى من" ، أمّا تضمين الحرف فهو كما رأينا في الآية السّابقة في تضمين الباء معنى من، أو كما في قول الله تعالى " ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭼ " ، "وإنّما يقال هل لك في كذا ؟ لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكى" فضمّن حرف " إلى" معنى حرف " في" .
الالتفات في أبسط تعاريفه هو الانتقال من حالة إلى أخرى: من حالة المخاطبة إلى حالة الغائب، الانتقال من مخاطبة الجمع الاثنين إلى الجمع، من فعل ماض إلى مضارع،... والأمثلة هنا كثير ومنها قول الله تعالى: ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ فطائفتان يقابلها اقتتلتا، وهنا أسلوب التفات من الإخبار عن الاثنين إلى الإخبار عن الجمع، وهذا لإطلاق العموم، على كل طائفتين، مهما كان الزمان والمكان.
والانزياح على مستوى التعابير والأساليب هو أمر شائع، فمثلا الاستعارة انزياح، وكمثال على هذا : أشرقت الشمس، أو طلعت الشمس هو تعبير مألوف شائع، لكن فتح الفجر جفينه، أو هاهي الشمس تلقي بأول خصالها الذهبية على المدينة، أو هاهو الصبح يلقى بردائه على الليل،...، هو استعارات انزاح فيها عن التعبير المألوف ( المعيار)، وشيء من هذا القبيل هو كثير في القرآن الكريم، الشعر،...، ويعد التشبيه في أكثر أوجه أيضا انزياحا، فمثلا علي أسد، هو انزياح لحذف أداة التشبيه فعلي في الأخير ليس أسدا وإنما يشبه الأسد في جانب من الجوانب مثلا الشجاعة، ويضاف إلى هذا أن في اللغة الفرنسية التشبيه هو استعارة métaphore، فيقولون استعارة على الاستعارة والتشبيه معا وما الاستعارة والتشبيه إلا أمثلة فقط.
ويمكن رصد الانزياح على المستوى التركيبي، على مستوى تقديم ما وجب تأخيره، تأخير ما وجب تقديمه، عودة الضمير على ما هو غير عائد عليه، أو عودة الضمير على متأخر، التكرار،...، وهناك ما يعرف بالعدول – الانزياح – على المستوى التركيبي بالحذف، وهو لا يعني حذف ما يمكن إدراكه من سياق الكلام، وإنما حذف ما لا يمكن إدراكه من سياق الكلام، وهنا نجد حذف حرف أو كلمة أو جملة، ومثاله من عدول بالحذف على المستوى التركيبي بحذف حرف،" ورد هذا العدول في القرآن إما بحذف وحدة صرفية أو بحذف وحدة معجمية، أما الضرب الأول فمن قوله تعالى : ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ " ، فالواضح أن في الفاصلة الثانية عدولا، وبالضبط في قوله " قلى " إذ حذف منه كاف الخطاب" ، ما قلاك، لوجوب العطف على ودعك .
ويكون بحذف وحدة معجمية كاملة كما في قوله تعالى:" ﭽ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ " ، فسياق الآية قد استهل بمخاطبة فرعون لموسى وهارون، ثم عدل عن ذلك ليخص موسى عليه السلام بالنداء وحده" ، وهذا الجانب قد يجعلنا ندرجه في باب أسلوب الالتفات، وهو ما مر معنا آنفا.
وقد يكون الانزياح- العدول – بحذف جملة أو نص وهو ما سنراه في المستوى التركيبي لأسلوب التلميح الفن البلاغي، فالتلميح عرفه القزويني بقوله: "التلميح هو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره" ، وقال فيه التفتازاني (ت792هـ): "التلميح (فهو: أن يشار) في فحوى الكلام (إلى قصة أو شعر) أو مثل سائر (من غير ذكره) أي ذكر تلك القصة أو الشعر أو المثل فالضمير لواحد من القصة أو الشعر أو المثل أي ذكر تلك القصة أو الشعر أو المثل فالضمير لواحــد من القصة أو الشعر أو المثل" . وأمثلة التلميح كثيرة لكل نوع منه، ونقدم مثالا يعزز لنا فكرة الانزياح على مستوى الحذف لبيت شعري، ويمكن القياس عليه في حذف جملة،...، من هذا المثال:" خرج رجل على سبيل الفرجة فقعد على الجسر فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا، ومرا مشرقا ومغربا، فتبعت المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قلتما وإلا فضحتك، وتعلقت بها، فقالت : قال الشاب رحم الله علي بن الجهم أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدري
وأردت أنا بترحمي على المعري قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال" .
فهنا يوجد انزياح بالحذف، فالمرأة كان لها أن تقول رحم الله أبا العلاء المعري حين قال كذا وكذا، و كذلك الرجل كان بإمكانه أن يقول رحم الله علي بن الجهم في قوله كذا وكذا، ولكنهما حذفا الأقوال على جهة التلميح، وهو ما شكل انزياحا على مستوى التبليغ.
وفي باب التلميح أيضا نذكر هذا المثال لنورد مثالا على مستوى التبليغ والتذكير بالانزياح تلميحا، وهو يتجلى في هذا المثال: " قصة الهذلي مع المنصور الخليفة العباسي، فإنه حكي أن المنصور وعد الهذلي بجائزة، ونسي فحجاّ معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة، فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص:
يا بيت عاتكة التي أتغزل حذرا العدا وبه الفؤاد موكل
فأنكر عليه أمير المؤمنين لأنه تكلم من غير أن يسأل فلما رجع الخليفة نظر القصيدة إلى آخرها ليعلمم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول مالا يفعل
فعلم أنه أشار إلى هذا البيت بتلميحه الغريب فتذكر ما وعده وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان".
فالهذلي انزاح من أسلوب التصريح إلى أسلوب التلميح أولا، وانزاح من التلميح للبيت المعني إلى ذكر بيت آخر من نفس القصيدة.
وما يمكن قوله ها هنا أن الأمثلة كثيرة ومتنوعة، في كل نوع من أنواع الانزياح، وما ذكرنا من أمثلة إلا ما وجدنا أن الدراسات المهتمة بالانزياح تغفلها، ومجمل القول بأن أي خروج عن المألوف والشائع يعد انزياحا، فالانزياح لغة:" زاح الشيء يزيح زيحا وزَيوحا، زُيوحا، وزَيحانا، وانزاح: ذهب وتباعد" ، "الزَيح: ذهاب الشيء" .
فإذا سلمنا بأن الانزياح هو خروج عن معيار، فإن التضمين بهذا الشكل هو انزياح لأن استعمال حرف في مكان حرف آخر، هو خروج عن معيار استعمال الحروف في مكانها ودلالتها .
والمنظر للأسلوبية وفق الانزياح يجد نفسه محاصرا بأسئلة لابد منها وهي :
"- ما هو المعيار الذي نقيس بواسطته مدى العدول؟.
- ماذا عن النصوص الخالية من أي عدول عن قاعدة ما؟.
- هل كل عدول يحمل سمة الأسلوبية ؟، وهل كل قيمة أسلوبية ناتجة عن عدول؟.
- كيف نتعامل مع هذه النظرية بإزاء تحليل النصوص لكتاب يكتبون بشكل عادي ؟.
- التركيز على العدول يجعلنا نهمل ملامح أخرى للنص المدروس، وفي ذلك تقصير.
- إن ما يعد عدولا حينا قد يصبح قاعدة حينا آخر، فهذه الزئبقية تربك المنظر والمطبق معا .
والدكتور صلاح فضل يطرح تساؤلات حول هذه النقطة ونلخصها في :
- كيفية النظر إلى نصوص لا يكون بها أي انزياح عن قاعدة ما معينة.
- كيفية تحديد القاعدة والانزياح بدقة علمية.
- كيفية تتبع الخواص النوعية للانزياح.
- كيفية النظر إلى انزياحات لا يترتب عليها تأثير أسلوبي.
- كيفية تصنيف نظرية الانزياح على مؤلفين يكتبون بأسلوب عادي .
ميكائيل ريفاتير لا يؤمن بأن هناك معيار مثالي، فهو مفهوم يلفه الغموض، ويعوضه بالسياق ، ويعتقد الكثير بأن أي خروج عن معيار أو انزياح عنه يشكل جمالية، وبه يسمو الأسلوب، لكن ليس في كل الأحوال، يقول الدكتور فاتح علاق :" وليس كل انزياح يعد من الأسلوبية " ، فإذا ما أردنا تشبيه الخروج أو الانزياح عن معيار بمثابة انزياح عن طريق سير معين، فإذا كان هذا الانزياح أو الانحراف عن الطريق، يجعلنا نصل قبل آخرين فهو جيد، وإذا كان يجعلنا نتفادى مشكل أو عائق، فهو حسن، وإذا كان لصنع مفاجأة...، فهو جميل، لكن إذا كان هذا الانحراف عن الطريق يجعلنا نهوي في الهاوية أو يعرضنا للخطر ...، فلا فائدة منه، بل يدخل في العبثية أو التحذلق، ولا فائدة من وراء ذلك.
كما أن الانزياح هو في غالب التعاريف هو خروج عن معيار، وهذا لمعيار هو مألوف عند الغالبية، وبالتالي هو خروج من المألوف إلى عكسه، وهو ما يولد الإبهام واللبس وعدم الفهم عند الغالبية، يقول الدكتور خليل موسى في هذا الشأن: "إن الانزياح يؤدي إلى غموض الرسالة وإضعاف بنيتها، وهذا يعني أنه كلما عمد الشاعر إلى تعميق الانزياح ازداد انفصاله عن الجمهور ، ويستدرك " لكن الانزياح ليس هدفا في ذاته، وإلا تحول النص إلى عبث لغوي وفوضى في الرسالة ذاتها، وإنما هو وسيلة الشاعر إلى خلق لغة شعرية داخل لغة النثر، ووظيفته خلق الإيحاء
كما أن مشكلة رصد الأسلوب على مستوى الانزياح له عوائق أخرى إجرائية متمثلة في الناقد أصلا، والمنظر له فمن أين له، يرصد كل المعايير المختلفة من حيث المكان ومن حيث الزمان ؟، أضف إلى هذا أنه في جهة واحدة من الوطن الواحد نجد ألاف المعايير فمن هذا الذي يرصد كل المعايير خاصة إذا علمنا أنه لازم لرصد الانزياحات وفق هذه المعايير، ومع من يمتلك حق القول بأن هذا معيارا، وهذا خروجا عنه، فقد يكون هذا الانزياح أو ذاك هو المعيار، ولكن المنظر يجهله فيضعه في الانزياح،"فإن مشكلة الخروج عن المعيار déviation مرتبطة كل الارتباط بما عرفته اللسانيات الحديثة من جهود كبيرة لإجراء تحليلات دقيقة لبنى لغوية شعرية، جهود لا يجد المرء نفسه فيها بالنظر إلى الفروق المميزة مقارنة بالبنى العادية المختلفة المتعددة" .
وبعد هذه الأسطر يظهر لنا جليا أن مفهوم الانزياح يلفه الغموض، وتتعدد مصطلحاته في الفكر الغربي، أو العربي، ولا توجد معايير لضبطه، أو حصر أنواعه.
الهوامش:
ملاحظة: هذا المقال سينشربهوامشه بحول الله وقوته في مجلة دراسات أدبية العدد الخامس فيفري 2010 وهي مجلة علمية محكمة يصدرها مركز البصيرة للدراسات والبحوث
التعليقات (0)