أسلمة الحلم العربيّ(2)
لسنا نروم الخوض في جدل دينيّ ،ولا التدليل على تفوّق دين على آخر،إنّما ملامستنا للشأن الديني فرضتها محاولة رصد الأسباب التي جعلت "الحلم العربي" أو "مشروع النهضة العربيّة" يشهد هذه التحوّلات من بعد قومي عربي إلى بعد تغريبي،وصولا إلى البعد الإسلامي،أي ما يُسمّى بالصحوة الإسلامية التي اقترحت لها مُصطلح "أسلمة الحلم العربي".
2-الإسلام في مواجهة خصمين
في كلّ الحقب التي تؤرّخ للتاريخ العربي بعد انبعاث الرسالة المحمدية،كان هناك تفاعل مع الحضارات الأخرى بما يعنيه التعامل من أخذ وعطاء،وأحيانا من جفاء وصدام غالبا ما يكون البعد الديني حافزا أساسيا في فعله.ذلك أنّ الدّيانات سلطة آمرة يلتزم بها المؤمن إرضاء لربّه،وهي إذ تستهدف الفعل الإنسانيّ الدنيوي لا الغيبي،فإنّ توظيفها السياسي يُمكن أن ينحرف بها لأغراض تتناقض وجوهر دعوتها للخير:
"وأعتقد أن تجارب التاريخ-وخاصة تجارب التاريخ العربي- تعلّمنا أن الدّين لم ينفصل عن السياسة أبدا.لا في النشأة ولا في التطور.وكلّ الخلافات التي نشأت بين الديانات المختلفة أو بين مذاهبها المختلفة فيما بينها كانت تجد لها دائما أسبابا سياسية وتعبيرا سياسيا,والدخول في قضية الدين الروحي والدين الدنيوي لا يعدو أن يكون من قبيل طمس الحقيقة-الحقيقة،وهي أن كلّ دين بطبيعة التعريف نظام لترتيب أوضاع البشر في هذه الدنيا وليس لترتيب أوضاعهم في لآخرة."(1)
يجب الانتباه إلى أنّ الدين "نظام لترتيب أوضاع البشر في هذه الدنيا وليس لترتيب أوضاعهم في الآخرة."ذلك أنّ الأوامر الدّينيّة للمؤمن لا تأمره، ليكون ملتزما بعقيدته،بما عليه أن يفعله في آخرته التي يُدار شأنها وفقا لقواعد لا يتحمّل فيها الإنسان وزر أفعاله،بل بما عليه أن يفعله في دنياه التي هو فيها مسؤول عن أفعاله يحاسب عليها حسابين:في الدنيا والآخرة وتفضي به إلى النعيم الذي يقصده أو إلى الجحيم الذي لا ينشده في الدارين...وبما أنّ الدنيا قدّت بنواميس إلهية تنظّمها فالدين يتوافق مع هذه النواميس ويحدد مجالات تعاطي المؤمن معها،أي نواميس الحياة لا الآخرة (التي هي غيب يجهله وإدراك مؤجل، من أجل توفق البشر في إدارة شؤون الحياة لا الآخرة)،وهذه الأخيرة ،بمفهوم هذه الفرضية تكون مكانة البشر فيها حصادا لنواياهم وفعلهم الدنيوي.
الدين،إذن،هو أن تسوس شأن الدنيا وفقا لعقيدة دينية وأنت تعتقد جازما أنها الحق وأن"الفكرة/العقيدة" هي صادقة وخالدة لا يجوز التخلي عنها حتى إن تراءت غير منجزة لرفاهية الإنسان وسعادته المنشودة،وعليه فالثبات على العقيدة يبقى قائما والذي يُعَدّل هو الاجتهاد البشري والذين يتغيّرون هم المشتغلون به والقائمون على إدارة شأن الناس،والدّين لا يُحوّلهم إلى آلهة ولا إلى مقدّس وإن كان يُجزي الاجتهاد الخاطئ بأجر والاجتهاد الموفق بأجرين. أما السياسة ،من غير المنظور الديني، فهي أن تعتنق أو تبتدع فكرة تقدر على إقناع الناس بها وتعتمدها لتصريف شأنهم الحياتي وأنت تسعى إلى النجاعة حتى على حساب الفكرة ذاتها تعديلا لها أو تنكّرا لها...فالاجتهاد أساس العمل السياسي حتى على حساب النّظرية أو الفكرة أو العقيدة الدينية والنجاعة الحينية هي المطلوبة حتى إن كانت نتائجها الآجلة كارثية...وهذا يعني أن الفكرة/العقيدة غير ثابتة...وأنّ المشتغلين بها وعليها سلطانهم أهمّ منها وأعظم ومصالحهم الذاتية تتقدمها حتى على حسابها...
لكن-والقول لمالك بن نبي-:"عندما تظهر الفكرة في العالم تكون إما صحيحة أو باطلة وعندما تكون صحيحة تحتفظ بصدقها إلى آخر الزمان.ولكنها قد تفقد فعاليتها في مجرى حياتها رغم ما تتصف به من صدق وأصالة...(2) هذا يعني فيما يعنيه أن:"الفكرة الصادقة ليست دائما فعالة،والفكرة الفعالة ليست دائما صادقة.هذان مظهران مختلفان،يترتب على الخلط بينهما أحكام خاطئة يزداد خطرها في تاريخ في تاريخ الأمم حين يصبح هذا الخلط بين أيدي المتخصصين في الصراع الفكري أداة لتضليل العقول واغتصاب الضمائر.
إن صفة الصدق والأصالة ذاتية وعينية ومستقلة عن التاريخ..."(3)
والذي يعنينا من هذا التقديم هو ما آل إليه حال المسلمين من انحدار، وهو انحدار ناتج عن أداء رديء لرسالة خالدة تدلل عليها صيرورة التاريخ كما يدلل المتغيّر على أسباب الصعود والانحدار:"إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين."-آل عمران، الآية 140...
وعليه فالمتغير مبصوم بفعل بشري تحرّكه،غالبا،دوافع سلطوية،وسلطة الطاغوت باغية حتى إن كان خصمها رسالة سماوية.فلا عجب،إذن، أن يكون للإسلام خصوم من غير المسلمين ومن المسلمين أيضا...
1-2 الإسلام والآخر:
إنّ الإسلام رسالة حضارية متوهّجة قادت العالم وشغلته،ولا تزال، لم يكن إلا خاتم الديانات السماوية بما يفترض،ضرورة،اكتماله مشروعا دون أيّ نقصان...وهو دين حديث قياسا بتاريخ البشرية الموغل في القدم الذي عرف قبله ديانات وأوثانا وحضارات وحروبا وصراعات. أي أنّ الصراع بين الخير والشرّ والعدل والظلم والحق والباطل والكفر والإيمان لم ينشأ مع الإسلام ولم ينته بفتور همّة معتنقيه...(لو كان الأمر كذلك لما وجدنا حجة مقنعة في الدفاع عن الإسلام...)
إن الكمّ الهائل من التراكمات المشينة للفعل الإنساني والتي نتجت عن العداء للديانات السماوية أو التعصب الديني الأعمى وما اقتُرف بسببهما من جرائم واضطهاد يمثّل مشكلة حقيقية للتصالح بين الحضارات...ولئن كانت-مثلا- ديانتا موسى وعيسى،عليهما السلام،قد تعرّضتا لأشكال مقيتة من العدوان والحقد والتحريف والتزوير فإنّ الإسلام قد يكون أكثرها تعرّضا مسترسلا في استهدافه ومداومة على الكيد له من أعداء شرسين منذ فجر انبعاثه إلى اليوم ،والحال انّه لم يتجاهل أو يتنكر لجوهر الرسالات السماوية التي سبقته بل باركها ومجّد رسلها. ثم إنه لم يكن متزامنا تاريخيا مع أيّ منها بل جاء متأخرا عنها زمنيا وخاتما لها-بفعل النص القرآني الصريح وبفعل تصديق الواقع لذلك (إذ منذ انبعاث الإسلام إلى اليوم،على امتداد خمس عشرة قرن، لم ترسل رسالة سماوية أخرى-أو على الأقلّ لم تكن مثل هذه الادّعاءات جدّيّة إذ سرعان ما يثبت دجلها وبطلانها...) ومع ذلك لم تنبن رسالة الإسلام على الإكراه في الدين بل شدّد في نص دستوره القرآن على أنه"لا إكراه في الدين"...فهل لهذه الأسباب،أساسا،كان وظل ولا يزال يلقى كل هذه الضراوة في تعمد الإساءة إليه واضطهاد معتنقيه أم هو العداء للديانات السماوية جميعها بعد أن ادعى الإنسان الألوهية ونصّب نفسه مشرّعا لنواميس الكون دون مرجعية أخلاقية ثابتة تلهم بصيرته رشدا وتهوّن عليه الشعور بالقصور وتملأ نفسه اطمئنانا وتهدي جموح عقله لما يثمر ويلجم نزوات الشر الكامنة فيه ويرحم فناء جسده ...
أما ما يفيد إضمار الحقد للإسلام فإن الأدلّة والقرائن أكثر من أن تعدّ وتحصى:
- في البدء اضطُهد معتنقوه،وهم قلة مستضعفون،من أهلهم وأقاربهم...
-ثم جاء مكر اليهود قاسيا على هذه القلة المستضعفة من المسلمين(واقعة خيبر...)
-...ومن الحروب البشعة تلك التي كانت صليبية(القرن 11 و12 و13..) متوحشة ضارية حاقدة...(يبدو أن هذه الحروب لم تنته،لكن بتسميات أخرى وإخراج مغاير...)
-ومن صور الحقد الأعمى على الإسلام ما دوّنه تاريخ الأندلس من جرائم إبادة وتنكيل وإرغام على التنصير استهدفت المسلمين عامة،والموريسكيين منهم على وجه الخصوص،انتهى،بمن نجوا منهم متشبثين بدينهم،إلى الهجرة أو التهجير القصري...(القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر.)
-ولما اشتد عود الغرب وقويت شوكته وأبهرت حضارته العالم تجمّل بمظاهر المدنية الحديثة وقيم عصر التنوير لينقض على العالم الإسلامي(العربي منه بشهية خاصة) يستعمره عنوة وإذلالا ونهبا لثرواته وتراثه...
-ثم جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية ليكون فيهما المسلمون،والعرب منهم على وجه الخصوص، وقود حروب "لا ناقة لهم فيها ولا جمل"،إذ كانوا في ذروة الغيبوبة الحضارية والتهميش من الفعل التاريخي ينقادون إلى مشيئة صناع قرار العالم الجدد لمصير مجهول في حروب هي أشبه ما تكون بحلبة صراع الثيران ،المسلمون فيها إما متفرجون أو دروع خلفية للمتصارعين الهائجين المسعورين المتكالبين على اقتسام العالم...
-والغرب منذ مشروعه الاستعماري القديم (الاستعمار المباشر) ومشروعه الاستعماري الجديد (الاستقلال الصوري لشعوب إرثه الاستعماري) وهو وراء تغذية التعصب الديني والعنصري في أكثر من بلد عربي ومثال السودان ماثل للعيان:(السودان متعدد الأديان والأعراق بأغلبية عربية مسلمة تفتك به فتنة ذات خلفية دينية:إسلامية/مسيحية وأخرى عرقية:أصول عربية /أصول زنجية إفريقية...)
-وليس أقلّ إيذاء مما سبق ذكره،وإن كان مقنّعا،الهجمة الجديدة "لفرسان مالطا"(4) على الإسلام والملتحفة بالعمل الخيري الطبي والحاملة لرسالة التبشير بالتنصير في ديار المسلمين وغير البريئة من"دسّ السّمّ في الدّسم" تتكشّف أعراضه فتنا تستهدف الشعوب الإسلامية...
-ويسجّل التاريخ الحديث مأساة فلسطين (ببصمة يهودية متعصّبة) وتصفية شعبها ذي الأغلبية المسلمة ومصادرة مقدساته وطمسها وتدنيسها وفي مقدمتها القدس ثاني الحرمين وأولى القبلتين...وهناك في بقاع العالم شواهد أخرى عن اضطهاد المسلمين ليس أقلها فظاعة التصفية العرقية لمسلمي البوسنة والهرسك.وتشجيع إشاعة الفوضى وتغذية النزاعات الحدودية والنعرات الانفصالية العرقية والطائفية والثقافية والمذهبية في العالم الإسلامي (جل بلدان العالم العربي:أكراد،أقباط،أمازيغ، أرمن..سنّة ،شيعة..أفارقة زنوج،أفارقة عرب... والحال مماثل في سائر دول الأغلبية المسلمة ،أندونيسيا، كشمير،ماليزيا، إيران،باكستان...والقائمة تطول.)
كيف للمسلمين ولأعدائهم الشرسين، على حد سواء، أن يتعاملوا مع ذاكرتهم الجماعية وهي تختزن كل هذا الرصيد من الغبن والدماء والدموع والحقد والاستعلاء ؟..
وما بالعهد من قدم بدأ العد العكسي لمحاربة الإسلام تحت مظلة مقاومة الإرهاب بعد أن جعلوا من هويته إسلامية وألبسوه زيا إسلاميا...والحقيقة أن هذا الادّعاء البغيض لم ينشأ من عدم :
إن الذي يحدث في ظل هيمنة الحضارة الغربية أن ".. مراكز صنع القرار لا تمارس فعلها في المثالي المفترض،وإنما تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخية كبرى ومصالح يتعارض بعضها مع بعض... وفي ظل هذه الأحوال فإنّ القرار السياسي تحكمه بالقطع عوامل غير مثالية.
بالتوازي فإن مجالات صنع الأفكار ومنجزات العلوم وتجليات الفنون لا تطرح ما لديها في ذات الفضاء المثالي المفترض،وإنما تتأثر هذه المجالات في مجمل نشاطها بضغوط يناسبها أن تضرب علها تزيح،أو تحجب علها تحتكر،وهنا تبرز عوائق تعرقل المثال الحر للقيمة والقدوة...
إنّ هناك عالمين :شمال وجنوب والفجوة تزداد بين الاثنين واسعة وخطرة،وهي تزداد اتساعا وخطرا إذ تتلبس الحقائق وتتداخل الهواجس بين المثالي المفترض وبين الواقع العملي المعقد عند صناع القرار والأفكار..."(5)
إنّ الطرح الذي يدافع عن المستضعف هو طرح أخلاقي قيمي يُعوّل عليه المسلمون وهم يستجمعون قواهم ليحاولوا،جاهدين،درْء تهمة التعصب والإرهاب عن دينهم والتبرّؤ من جريمة العداء للغرب واضطهاد الأقليات غير المسلمة،إلا أن هذا لا يمنعهم من التشهير بالخلل الصارخ في العلاقة بين الشمال والجنوب والتنبيه لفداحة حيف المهيمن على المهيمن عليه وآثاره المدمّرة...ثم إنّ الواقع يقول أنّ زهاء المليارين نسمة من بين المحسوب جلّهم على الجنوب هم مسلمون يعتنقون العقيدة الإسلامية،وهم يتوزّعون على مستوى الثروات المادية بين أغنياء وفقراء وبين بين،لكنهم جميعا خاضعون لهيمنة إمبراطورية الغرب "المتحضر" الذي أحكم قبضته لا يلوي على شيء ولا يكترث بقيم "المستضعفين في الأرض" ولا تطلّعاتهم...وحتى الأقليات المسلمة في"الغرب المتحضر"،رغم انتمائها إليه،فهي تعاني من تردد في تمكينها من حقها الطبيعي في الاندماج في مجتمعاتها،بل إنها تُحرم،أحيانا،من الشغل والتعليم ومواقع النفوذ والقرار،لا لعيب فيها،إلا اعتناقها للإسلام دينا.ا..ودون الخوض في الوعد الإلهي،من منظور إسلامي، للمستضعفين في الأرض(ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين –بالنص القرآني الصريح –القصص،الآية 5.) فإنّ من تبقّى من مستضعفي العالم غير المسلمين،يجوز أن يكونوا حلفاء مفترضين أو متعاطفين مع المسلمين بفعل الحيف والهمّ المشترك حتى إن كان هؤلاء المستضعفون من غير المسلمين في أمريكا ذاتها أو في حديقتها الخلفية-أمريكا اللاتينية...
2-2 خصوم الإسلام مسلمون...
تخلّى المسلمون عن مصادر القوة في الإسلام وحافظوا منه في أحسن الحالات على مظاهر العبادات والشعائر والطقوس التي يختلط فيها الإيمان بالله بالوثن بشرا ومادة وفكرا يحرّض على سلوك وثني بغيض.واستُغل الإسلام من الحكام في تغطية طغيانهم وإشباع شهواتهم وإخماد قبس العقل تحت غطاء مضلل لفقه إسلامي على مقاس الخليفة والسلطان يؤوّل مقاصد الشريعة فيحرّف،مثلا،القصد من "طاعة أولي الأمر" و"ما ملكت أيمانكم" والردة والتكفير...
حلت الفرقة مكان الوحدة والجهل مكان العلم والتكفير مكان التنوير والاستكبار مكان التواضع والاحتماء بالعدو مكان الاطمئنان لذوي القربى في العقيدة.
صُودر الاجتهاد وتدنّت مكانة المعرفة وخفت صوت العقل واستُنزف جهد المسلمين في غير ما ينفع الناس واستشرى الظلم والاستبداد والفساد وتفككت أوصال البنيان الإسلامي الذي يشدّ بعضه بعضا:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا،وشبك بين يديه "(6)،وارتقى ضعاف النفوس من المحسوبين على الإسلام إلى مراتب الإفتاء والنفوذ والجاه وتسلل الحاقدون على الإسلام من المحسوبين على الإسلام ومن غيرهم إلى أرفع مراتب الاستشارة والجيش والإدارة والتجارة في البلاط السلطوي للخلافة ثم الإمبراطورية الإسلامية واستمر الحال على ما هو عليه في ديار الإسلام من توظيف للعقيدة لغير مقاصدها النبيلة أو من تنكر أو تجاهل أو تهميش لها تحت ذرائع الحداثة والقومية العربية و...
استبيحت المقدسات والحرمات والأعراض والممتلكات وشرع للنهب والسطو واللصوصية والاستهتار بكرامة البشر وآدميتهم... وتحول الدين إلى سيف في يد سلطة باغية تقطع به الرؤوس وتستعمله للترهيب والإذلال والبطش بالرأي الحر ومطية لتمرير الأحقاد وتصفية الحسابات الشخصية...
هكذا،وبكل هذا التجني حذفت "لا" من "لا إكراه في الدين"،لتكره على الإكراه في الدين الذي حُرّفت مقاصد شريعته بصياغة هي أقرب لأهواء السياسة ونزوات الحكام ..
إذا كان الله الذي خلق الكون ينهى عن الإكراه حتى في عبادته فهل يجوز الإكراه على استعباد البشر و الاستبداد السلطوي بدءا من النواة القاعدية للمجتمع(العائلة) ووصولا إلى مؤسسة الدولة...هل يجوز هذا الإكراه تحت أيّ مسمى حتى إن كانت غايته نبيلة ومخلصة؟..
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(سورة يونس-الآية 10)
"فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر" (سورة الغاشية-الآيتان 21،22)
إنّ الحرية الدينية في الإسلام لها منطلق إيماني وهي ليست مجرّد تسامح تمنّ به نزوة بشرية أو سخاء وثنيّ،بل هي حق من حقوق الإنسان الإسلامية في الحياة الدنيا يترتب عنه تبعات وواجبات،واحترام هذا الحق هو من جوهر الإيمان:"إن الاحترام الذي يمليه الإيمان تواضع وخشوع أمام الحقيقة القصوى التي لا يدركها مدرك ولا يستطيع بشر أن يزعم الاستئثار بها واستنفادها.فهو احترام إيجابي،لا يلغي الاتصال،بل يطهره ويدعمه بوضعه في مستوى علاقات متساوية تماما،تكتنفها الثقة ومتبادل الود،على أساس الاعتراف بالآخر،في كامل حقوقه وحريته،اعتراف الند للند."(7)
إنّ النزعة الاستحواذية التسلطية المتمكنة من الكائن البشري هي التي قادت إلى الإكراه في الدين لخدمة الخادم لا المخدوم،وهي ذاتها التي قادت إلى الانقلاب عليه تحت ذريعة سلطان العقل (العقل/الإله) فألغت "المقدس السماوي" أو فصلت بين علاقة الدين بالدنيا لا لغاية جعل العبادة مشغلا شخصيا بين العبد وخالقه وجعل الدنيا هما مشتركا بين الناس،كل الناس،بل لتفرض هيمنة الوثن (الوثن/الاستبداد).
والدين الإسلامي استهدفه انحراف الإكراه في الدّين...ولعلّ هذا الانحراف من الأسباب التي قادت نخبا وقادة وعامة، من المسلمين،إلى الانبهار بالنظريات الوضعية الحديثة وما أفرزته من أنظمة حكم لأنها ادّعت أن "المقدّس" إكراه وتقزيم واستعباد للذات البشرية وإرادة الإنسان الحرة،ووعدت بالتحرير من هذا الإكراه فضلا عن نعيم دنوي مؤمّن..إلا أن الواقع ما لبث أن دلل على بطلان ادّعائها لأنها لم تف بوعودها،بل أرست-باسم تحرير العقل من المقدس الغيبي-ضوابط استعباد الإنسان عقلا وروحا وجسدا بما كشف انحدارا إلى عصور عبادة الأوثان...:
"وصل التقديس لماركس وانجلز ولينين وستالين وماوتسي تونغ وكيم ايل سونغ وهوتشي منه حدا فوق تصور أي عقل...فمن ناحية نظرية،يعتبرون لا شيء غير خاضع للنقاش والنقد،أما من ناحية عملية فقد ارتفعت الماركسية إلى مستوى التقديس ثم الماركسية اللينينية بعدها وأصبحت قيادة كل حزب وأمينها العام بمنزلة مالك الحقيقة..بكلمة،كأنما المقصود من استبعاد المقدس الحقيقي التحول إلى مقدس يصنعونه بأيديهم،تماما كما لو كنا إزاء ما كان يفعله عبدة الأوثان:ينحتون الآلهة بأيديهم ثم يخرون أمامها ساجدين عابدين(8)."
تغافل المسلمون عن"المقدس" نصا قرآنيا وإرثا نبويا ودعوة صريحة لنبذ الإكراه،بل حولوا الإكراه ،تجنيا على الإسلام، أساسه، والاجتهاد عن حسن نية أو سوء نية فوق المقدس من حيث الحماسة إليه والتعصب له والتحريض على التباغض والتقاتل بسببه،والحال أنه عمل بشري يحتمل الصواب والخطأ مهما بلغ من قوة أو ضعف الحجة والإقناع...ولما قطعوا ما قطعوه من أشواط في الانحراف بعقيدتهم واستهلكوا ما لم يعد هنالك مجال للإقبال على استهلاكه من تضليل وانحراف تهافتوا على المستورد من النظريات الحديثة وفتات مائدة الحضارة المهيمنة...فإذا هم لا يغنمون إلا وهما ويُستعبدون من وثن سعوا إليه في حالة من الإنهاك والهزال والتفكك والضياع...
استمر حال المسلمين على نحو من التردي، في انحدار إلى الأسوإ،رغم ما يبدو في الثنايا من محاولات إصلاح تُجهض، طيلة زهاء الستة قرون المنقضية إلى اليوم.
أما ما كان من مشاريع نهضة مزعومة لدى العرب وغيرهم من المسلمين،فإنها أخفقت جميعها،ولئن كانت مكاسب بعضها تُعدّ أفضل من مكاسب البعض الآخر...
ومن رحم وجع هذا الإخفاق استعاد الإسلام حضوره بقوّة لدى معتنقيه وطُرح كبديل للنهضة المنشودة تحت يافطة "الصحوة الإسلامية"التي تظلّلت جميعها بها،وابتُدعت لها تسميات :معتدلة،مستنيرة،سنّيّة ،شيعية،سلفيّة،ظلامية،متشدّدة،متطرّفة...كلّ منها يدّعي أنّه على صواب وغيره على خطإ أو ظلال،لكنّ جميعها تشترك في تشكيل هذه الصورة الملتبسة عن الإسلام فيما أطلق عليه الغرب مصطلح "الإسلاموفوبيا"،وهو مصطلح غير بريء ولا محايد...
لسنا نروم الحكم لصالح هذه "الصحوة الإسلاميّة" أو عليها،بقدر ما يعنينا محاولة السعي إلى تفسيرها والتدليل عليها كحقيقة أضحت منخرطة بقوّة في تشكيل عالم الغد...وهي حقيقة ليس لأغلبية أنظمة الحكم في العالم الإسلامي دور بارز في صياغتها والتّحكّم في مسارها ،إنّما تصوغها تنظيمات شعبية غير المعترف به منها أكثر مما هو شرعي،ولها مفكّروها وحركيّوها...والعالم العربي،بدرجات متفاوتة،هو جزء هام في بلورة هذه الصحوة أو هذا المدّ الإسلامي وتغذيته بل أنه يجوز القول أنّ الحلم العربي اليوم-بعد أن خفت بريق "التعريب" و"التغريب"-انخرط في "الأسلمة"...
_________________________________________________________
(1)-كرم سمير-المستقبل العربي-26-ص102.
-2+3-:بن نبي مالك-ص135-كتاب:مشكلة الأفكار-ترجمة عبد العظيم علي محمد-دار الحكمة للنشر والتوزيع-تونس-1985
Le Problème des idées dans le monde musulman
(4)-فرسان مالطا: تنظيم ،ذو خلفية مسيحية يضمر العداء للإسلام ،ظهر سنة 1070 قرب كنيسة القيامة ببيت المقدس كهيئة خيرية الهوستبتاليين ، نسبة إلى المستشفى ، مارس عمله في ظل الخلافة الإسلامية...وفي سنة 1530 أصبح يحمل تسمية فرسان مالطا"النظام السيادي لفرسان مالطا" بعد أن منحهم الملك "شارك كونت"-في نفس السنة السيادة على جزيرة مالطا التي فقدوها على يد نابليون الذي طردهم أثناء حملته على مصر سنة 1798...منذ سنة 1834 أصبح نظام الفرسان يمارس نشاطه من روما،ويحمل المقر الرئيس لمنظمتهم ،حاليا،اسم "قصر مالطا" تحت غطاء العمل الخيري وبخلفية الروح الصليبية ، أسسوا سنة 1926 جمعية لهم بأمريكا ...ويكشف الباحثان الإيرلندي (سيمة ن بيلز) والأمريكية (ماريسا سانتيرا) اللذان تخصصا في بحث السياق الديني والاجتماعي والسياسي للكنيسة الكاتوليكية الرومانية،عن أن أبرز أعضاء جماعة "فرسان مالطا" من السياسيين الأمريكيين (رونالد ريجان) و(جورج بوش الأب)-رئيسان أسبقان لأمريكا
-(5) هيكل محمد حسنين-جسور وعقبات-الحضارة شراكة إنسانية-محيط شبكة الأخبار العربية.
(6)حديث شريف متفق عليه .
(7)الطالبي محمد-أمة الوسط،الاسلام وتحديات المعاصرة-ص 40-1996 دار سراس للنشر.
(8)شفيق منير-الدولة والثورة :رد على ماركس،انجلز،لينين ومقاربات مع الرؤية الإسلامية-ص 43،44-الطبعة الأولى 2001-المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء المغرب.
التعليقات (0)