أسلمة الحلم العربي(1)
يؤكد الواقع العربي المعاصر إخفاق المشاريع النهضوية المعتمدة في سائر الأقطار العربية ،بالنظر إلى تطلعات نخبها وشعوبها في القطع مع التخلف وشقّ طريق الرقي والتقدم...
إن هذه المشاريع،وهي تدّعي الاستجابة للحلم العربي، جاءت هجينة ومشوهة ومغشوشة ومرتبكة،فلم تثمر إلا مردودا هزيلا من المكاسب الهامشية تُفصح عنها مظاهر نهضة خادعة وواجهات تجميلية مزيفة وتقليد ساذج محكوم بانبهار بالغرب أفضى إلى سلوك أشبه ما يكون بسلوك القردة والببغاء...
أما دواعي التخلف الجوهرية فإنها ظلت على حالها بل أضيف إليها مُعطى المعالجة المغلوطة وانعكاساتها السلبية بتوهّم الحلّ في التلفيق والترقيع عن طريق استيراد "وجبات جاهزة" لتتدحرج الأوضاع العربية إلى مأزق "غياب الوعي بالذات" والضياع في متاهة التوهّم بالأخذ بأسباب النهضة والانخراط في الحداثة،في حين أنّ الذي كان يحدث لا يعدو أن يكون غير نتاج مراهقة فكرية،وهي تلك المراهقة الحالمة التي استحوذت على وجدان القادة والزعماء العرب خصوصا في خمسينات وستينات القرن العشرين،وقد أسندوها بما أوقعت أغلبهم فيه السلطة ونرجسيتهم من استعلاء وبذخ واستبداد وظلم وأطماع...وهكذا آل حال العرب إلى ما آل إليه من تشرذم وهزائم وخيبات ووهن...
أجل لا يمكن اختزال النتائج العملية لمشروع النهضة العربية بشطب إيجابياتها التي لا تزال قائمة،لكنّها ايجابيات -على ما تبدو عليه من أهمية ظاهرة-لا ترقي إلى التطلّعات العربية النهضوية في تأكيد القدرة على البناء الحضاري والتفوق أو الندّية أو حتى الاقتراب من مرتبة "أقوياء العالم"...
إذا كان لمشروع النهضة العربية من مكاسب،فقد لا نجد تفسيرا لها إلا في استمرار البقاء والتناسل للعرب وحدّ أدنى من تواصلهم مع الآخر... من حقّ المتفائلين الجزم أنه ،مهما كان الحال، فإن العرب لم ينقرضوا كالهنود الحمر وشعوب أخرى غابرة كثيرة،وهذا، في حد ذاته،ُيعدّ أشبه ما يكون بالمعجزة بالنظر إلى الفخاخ التي وقعوا في شباكها نتيجة شراسة استهدافهم هوية وثروات من الآخر المهيمن،من ناحية ،وحالة القصور والارتجال والارتباك التي هم عليها،من ناحية أخرى...إنّه المأزق الحضاري الرّهيب الذي آل إليه واقع العالم العربي فأعاق الاهتداء إلى إبداع نموذج حضاري جدير بالاحترام (المشروع/الحلم)...
لم تنفع مشاريع التقليد أو التلفيق للنموذج الغربي ولا الانكفاء على الهوية قومية عربية ولا حتى تراثا إسلاميا تُبتزّ بركته بما يشبه "الرضاعة من الأثداء الميتة" أو كوكتالا من كل هذه التوليفات...وانقاد الحلم العربي إلى تجرّع مرارة خيبة الأمل والإحباط تحت وطأة إخفاقات مشاريعه الساذجة وإمعان الآخر المهيمن في الاستهانة به وتقزيمه والتغرير به لغاية أن يتبخر هذا الحلم وتنطفئ جذوة الأمل في نهضة حقيقية بملامحها العربية الإسلامية وفضائل القيم الإنسانية الخالدة...
1-إشكالية الحكم والهوية
1/1 التداول على السلطة إشكالية لم تحسم
ارتبط الإسلام بالعرب انبعاثا... فرسوله المصطفى متجذر في بيئة الجزيرة العربية نسبا ونشأة فهو منحدر من أعرق قبائلها وترعرع،يتيما، في بيت جاه وشرف.وباشر شرف التكليف في قومه العرب بلسان عربي يفتتنون بسحر بيانه ،فجاءهم القرآن الكريم قمّة في الإبداع البياني والبلاغة ،بلسانهم،ليشكّل بذلك إحدى أبرز معجزات الرسالة المحمدية...
ولئن تحدّدت بوضوح مواصفات القيادة الإسلامية وشروطها في شخص نبيّه فكرا وسلوكا راقيين متلازمين في أثرهما على الرسالة، فإنّ التداول على الحكم بقي شأنها خاضعا للمتغيّر، يحكمه الاجتهاد والتدبّر وسنن التّطوّر...
بعد انتقال خاتم الأنبياء إلى الرفيق الأعلى،ومنذ مبايعة بوبكر الصّدّيق في سقيفة بني ساعدة( والرسول مسجى ولم يدفن)إلى يومنا هذا،ظلّ النّزاع على السلطة وكيفية تداولها القضية المركزية التي يمكن أن تُفسّر بها كل المعضلات التي عانى وما يزال يعاني منها العالم الإسلامي(والعربي منه على وجه الخصوص)...وهي قضية كانت،وما تزال تشغل الإنسانية قاطبة،حتى في عصرنا الحديث الذي يُفاخر المهيمنون عليه بالديمقراطية ويعتمدونها باعتبارها أفضل ما اهتدى إليه الفكر الإنساني في إدارة الشّأن العام والتّداول على السّلطة.
يبدو أن التاريخ الإسلامي لم يشهد إخفاقا في مسألة اجتهادية مصيرية تُحرّر الأمة من الوثن مثل إخفاقه في تحديد القواعد المرجعية التي تؤمّن تداول السلطة دون أن يكون الاستحواذ عليها أو اغتصابها وتطويعها لنزوات السلطان ونرجسيته سببا رئيسيا في تشريع الاستبداد والوقوع في انحرافات خطيرة تحلّل العنف والفتن واقتراف جرائم القتل والتنكيل بتهمة الزندقة والكفر ...والمفارقة أن الله استخلف الإنسان في الأرض بصريح النصّ القرآني ليجعله سيّد الكون فإذا هو يتخلّى عن هذه الأمانة وهذا التكليف الإلهي الذي هو جوهر العقيدة الإسلامية لينقاد،مكرها أو منصاعا،إلى تحويل حقه الإلهي في الخلافة من شأن جماعي،هو شريك فيه بتفويض صريح من "المالك" (صاحب الملك) إلى شأن فردي يحتكر هذا الحق اعتمادا على اجتهادات مشبوهة أو غير ملزمة أو قابلة للطعن فيها...
إنّ كيفية إدارة السلطة مشغل لا يؤرّق المسلمين فحسب بل هو ينسحب على سائر الأمم والشعوب الأخرى ماضيا وحاضرا،وكلما كان الاهتداء أفضل أو أقلّ سوء إلى صيغ تنظّم الشراكة في الحكم وتبعاتها وتحترم الذات البشرية وتمكّن الفرد من حقوقه المشروعة في الملك الجماعي للوطن والتصرّف في الكون اجتهادا ومنافع،كلّما كان حظ الاستمتاع بالحياة أوفر والقدرة على الإبداع أوفى والتضامن أقوى والخير أعمّ ومواجهة الشّرّ أنجع وأمضى...ويبدو أن الغرب باهتدائه النسبي إلى تطوير الشراكة في الحكم وإرساء آليات مستحدثة تنظمها استطاع أن يحقق تفوقه...فالديمقراطية،أساسا،هي اجتهاد يضبط مفهوم الحكم وأحكام مباشرته، وهو اجتهاد قابل للتقييم والتنقيح والتّعهّد بالتطوير والتحديث..فالغاية منه تأكيد سيادة الشعب وتثبيتها وكلما وقع الالتفاف عليها لإضعافها أو تهميشها استنفر الضمير الجماعي للذود عنها وحمايتها من شاهية الاستحواذ والفساد والاستبداد...إنّ حكام الغرب ليسوا أقل شهية من حكام العرب،مثلا،في الاستحواذ على الحكم مدى الحياة وتوريثه وتحويل شعوبهم إلى عبيد يسخرّونهم لشهواتهم ونزواتهم،إنما القواعد التي أرستها الديمقراطية تحُول دونهما، ويقظة الشعوب تحرمهم من إشباع الغريزة الاستبدادية المتمكّنة من البشر...والديمقراطية تكون عديمة الجدوى وعقيمة وتضليلا إذا استُدرجت لغير نبل مقاصدها وتحوّلت إلى واجهة يتستّر بها الاستبداد،وعليه فليس المصطلح هو الذي يأتي بالحل السحري لإدارة الحكم إدارة رشيدة سواء سمّيناه ديمقراطية أو شورى...إنما الأحكام الصارمة التي تتقيد بمفهوم سيادة الشعب واعتبار هذه السيادة "مقدس" لا يمكن المساومة بشأنه أو التنازل عنه هي القصد والجوهر...
1/2- عالمية الإسلام وقوميات المسلمين
لمّا تأكد احتياج البشرية إلى مدنية جديدة تحلّ محلّ الشّتات القائم من الثقافات التي استُنفذت أغراضها واصطدمت بمأزق انحرافاتها وعجزها، كان لا بدّ من تدبر الشأن بما يحول دون استفحال همجية الغرائز البشرية إلى الحد الذي يقضي على الحرث والنسل..."فالحياة الدنيا ترى بالفطرة ما تحتاج إليه، وتحدد الوجهة التي تتجه إليها في أوقات أزماتها.وهذا هو الذي نسمّيه في لغة الدينالوحي النبوي.ولهذا كان أمرا جد طبيعي أن يشرق نور الإسلام بين قوم سُذج لا يعرفون شيئا من ثقافات العالم القديم،وتقع بلادهم في رقعة من الأرض تلتقي فيها قارات ثلاث،وتجد الثقافة الجديدة في مبدإ التوحيد أساسا لوحدة العالم كله.والإسلام بوصفه دستورا سياسيا ليس إلا أداة عملية لجعل هذا المبدإ عاملا حيا في حياة البشر العقلية والوجدانية.فهو يتطلب الطاعة والإخلاص لله،لا للعروش والتيجان.وإذا كانت الذات الإلهية هي الأصل الروحي الأول لكل حياة،فإخلاص الإنسان لله إنما يكون بمثابة إخلاصه لطبيعته المثالية الخاصة.والمبدأ الروحي الأول لكل حياة كما يصوره الإسلام،هو مبدأ أبدي يرينا الآيات الدالة عليه في التنوع والتغير..."(1)
هكذا جاء الإسلام استجابة لحاجة الحياة مُقاما على التوحيد في بيئة اختيارُها مقصود ،وليس عشوائيا...ومن الآيات الدالة على الأبدي التنوع والتغير في الحياة...
كان العرب عربا قبل الإسلام بفطرتهم وبداهتهم و"سذاجتهم" وأوثانهم وطقوسهم وانعزالهم عن الحضارات الأخرى(2).
ومع انتشار الإسلام ليشمل غير العرب من الأمم والطوائف والأعراق، ورغما عما شهده تاريخ المسلمين من مد وجزر وانتصارات ونكسات وإشعاع وانحسار، ظل الوجدان العربي متلبسا بالإسلام إلى حد أن الهوية العربية يتعذر فصلها عن الإسلام،وظل العرب والمستعربون،منذ اعتناقهم للإسلام إلى اليوم لا تنفصل عقيدتهم الدينية عن أي مشروع يستهويهم فيرومون انتهاجه:
فرغم كل الجهد الذي بذل لفصل القومية العربية عن العقيدة الدينية (الهدف بالأساس الفصل عن الإسلام) ظلت هذه القومية بمثابة الجسد بلا روح وظل الإسلام روحها التي تبعث فيها الحياة ،فالإسلام هو المضمون الجوهري لقيم رسالتها يزودها بأهم مقومات هويتها...ولعل النتيجة هي نفسها التي خلصت إليها قوميات أخرى غير عربية عمدت إلى الانسلاخ أو الانفصال عن الإسلام (من ذلك،مثلا،تجربة الفرس في عهد شاه إيران ،تجربة تركيا الأتاتيركية...)
ولم يختلف الشأن في تجارب عربية تعاملت مع مشاريع، علمانية أو ملحدة أو تتعارض مع الإسلام...لقد أفضى المأزق إلى محاولات توفيقية استُدرج فيها الإسلام لدرجات متفاوتة من التلوين بالمساحيق الإيديولوجية الحديثة المهيمنة ،فجاز ،مثلا،استعمال "الاشتراكية الإسلامية" و"الليبرالية الإسلامية" و"العلمانية الإسلامية"...
هذا يعني أن الحلم العربي لم يكن في تاريخه، فكرا ونضالا، بمنأى عن العقيدة الإسلامية...كان مسكونا بها وكانت متغلغلة في وجدانه وضميره اليقظ.
___________________________
(1)إقبال محمد-تجديد التفكير الديني في الإسلام- ص 154. دار الجنوب للنشر- 2006.
ترجمه إلى العربية بهذا العنوان عباس محمود سنة:1955 العنوان الأصلي للكتاب:ست محاضرات في إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام
Six lectures on the Reconstruction on the Religious Thought in Islam.
(2)-ليس المقصود بالانعزال عن الحضارات الأخرى غياب أي مجال من مجالات التواصل معها..يوضح أحمد أمين،هذه المسألة، في كتابه فجر الإسلام (الباب الأول) ويخلص إلى القول:"ولعله بعد الذي ذكرنا-من علاقات العرب بمن حولهم من الفرس والروم تجاريا وسياسيا ودينيا،وما ذكرناه عن لقمان من أنه حبشي أو يهودي أو مصري،ومن إجماعهم على أنه ليس بعربي، وما كان من شبه بين أمثال سليمان والأمثال العربية،وما أشرنا إليه من وجوه الشبه بين بعض قصصهم وقصص الأمم الأخرى،وما كانوا يتحدثون به من أقاصيص الفرس،يتضح لك أن العرب لم يكونوا-كما يفهم كثير من الناس-مستقلين عن غيرهم من الأمم استقلالا تاما،لا في وسائلهم الاقتصادية،ولا السياسية ولا الأدبية؛فلما جاء الإسلام كان الاتصال أتم وأثر الامتزاج أكبر.." -انظر الباب الأول من كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين -
التعليقات (0)