المكان هو الحياة بالنسبة للإنسان. فالمكان الذي تعيش فيه هو حياتك، وهو حدود دنياك، فإنَّ دنياك تكون أكبر وأوسع، وكلّما كان محيط الأرض التي يعيش عليها الإنسان أكبر، كانت حياته أكبر وأشمل، وكلما وسّع أفقه، وزادت مداركه. والأسفار هي التي تحقق هذه المعادلة.
صحيح أنه ليس كل مسافر يمكنه أن يستفيد من تجارب وخبرات السفر، لكنها تبقى حالات فردية لا يمكن القياس عليها، فتغيير المكان بالنسبة للإنسان أمر غير مألوف في حياتنا المعاصرة، فكل إنسان تربطه روابط خفية بالمكان الذي ولد وعاش طفولته فيه، ولم يصل العلماء إلى تفسير هذه الحالة على وجه التحديد، إلاّ أننا يمكن أن نصنفها مجازاً تحت إحساس ما يُسمى بالحنين، ولذلك تجد أن معظم هواة الأسفار دائماً ما يحطون في أوطانهم، ويتحركّون في كل الاتجاهات من هذه النقطة، كذلك تجد أن أغلب المهاجرين يتمنون ألا تنتهي حياتهم ويلاقوا ربهم إلاّ من المكان الذي نشأوا منه، بالرغم من طول حياتهم وارتباطهم بالمكان الذي عاشوا فيه!
أما أنا فلدي حنين بكل مكان يرمز لي القدر فيه برمز، سعيداً كان أو حتى حزينا.
فالأماكن بالنسبة لي هي تاريخي، وتاريخي هو حياتي وشخصيتي، لذلك كلّما زرت مكاناً جديداً تفحّصت علاماته ومعالمه، وقبل أن أترك هذا المكان أودع هذه العلامات والمعالم، وأسأل نفسي: هل سيكتب الله لي رؤية هذه الأماكن مرةً أخرى؟ واتركها وكلّي أمل في العودة إليها مرةً ثانية، وعندما يكتب الله لي العودة إلى نفس المكان، أشعر بالسعادة البالغة وأنا أعانق أجواءه، وأمليِّ نظري منه، وتداعبني الذكريات الجميلة والحزينة، فأشكر الله على كليهما، وادعوه أن أعود إليها من جديد.
والحنين معنى من المعاني الكثيرة التي نعرفها جيداً، ولكننا قد لا نستطيع أن نفهمها، إحساس نشعر به ولكننا لا نستطيع تفسيره، وعندها فقط نقول لأنفسنا أن ذلك من طبائع الأشياء، ومن المسلمات، وإذا كان الحنين للبشر أمراً يبدو طبيعياً كون الإنسان كائناً اجتماعياً لا يستطيع العيش بمفرده.
يظل الحنين للمكان، ربما يكون أمراً عجيباً، من الصعوبة بمكان على صاحبه المقدرة على تفسيره. فما تفسير أن يحنّ إنسان لبيت قديم، أو مكان به شجرة عتيقة، أو لشاطئ معين يظهر البحر من زاوية بشكل خاص، أو حتى لوحة مرسومة لمكان خيالي لا يعرفه؟!!
البعض يقول أنَّ للأماكن شخصيات تنادي على بعض الناس، نتأثر بها وننجذب إليها، نفعل في مكان ما لا نستطيع أن نفعله في مكان آخر، نذهب لمكان ونحدّثه بصوتٍ عالٍ، نصرخُ فيه ونضحك ونقهقه.
أمر عجيب يقودني لفكرة أعجب، وهي أنَّ للأماكن حياة، وإن كانت من نوع آخر، تشدّنا إليها، وتربط مشاعرنا بها، وتجعلنا ِنحنٌّ إليها كلّما بعدنا عنها.
ومن هنا ندرك تمام الإدراك أن الالتصاق بالمكان، ليس من السهولة أن نتناساه بالأمر اليسير. ومن هنا يظل ارتباطنا بالمكان الذي ولدنا وترعرعنا فيه، وعشنا فيه أيام الطفولة والصبا، يظل من الصعوبة أن نبعده عن مخيلتنا، أو نتجاهله، بل أنه يفرض علينا... لأن تأثيره في النفس الإنسانية كبير وكبير جداً.. وما استعراضنا إلى بعض الأماكن التي سبق وأن زرناها طوال حياتنا التي عشناها، والعودة إليها من جديد بعد فترة مبعدة من الوقت، يبقى لها شأنها في دخيلة ذاتنا، ومن هنا، من المحال أن نتناساها، أو تجاوزها.
فالأسفار والحياة والأماكن، مجتمعةً، يكون إشراقها مفعماً بالحب، والراحة النفسية في حال العودة إليها، والاستظلال بفيئها، ولا نقول التباكي عليها، فإنّها بحق ترمز إلى كثير من الدوافع الذاتية التي تربطنا بالمكان، وتدفع بنا إلى أن نخلّد المكان الذي طبع في مخيلتنا ولا يمكن له أن يمحى من الذاكرة التي احتفظت به، مهما كانت المبررات، وهذا سرّ الهي، ولايمكن أن يكون هناك أي تدخل لأي جهة ما من أن تمارس أي ضغوطات عليه لتخيله، أو الاحتفاظ به.
التعليقات (0)