أسرار المَحَـبّة بين الخرطوم وواشنطون
عمر البشير لدى إستقباله غريشون في الخرطوم
في تصريحات متلاحقة للمبعوث الأمريكي الجنرال المتقاعد إسكوت غريشون ، بات واضحا أنه يميل في مجملها نحو حكومة الخرطوم. أو كأنه المبعوث الإنقاذي الخاص للقصر الجمهوري في واشنطون وليس المبعوث الأمريكي الخاص للبيت الأبيض في الخرطوم.
ومن أهم ملامح التغيير في سياسة واشنطون تجاه الخرطوم والتي تستشف من تصريحات غرايشون الآتي:
1) أهمل المبعوث الأمريكي مذكرة أوكامبو ، وبما يعني أنها باتت حبر على ورق .. أو كما كان البشير يقول موجها الحديث لأوكامبو :"مووصا وأشرب مويتا"..... بمعنى "بلها وأشرب ميتها"
2) أيد المبعوث الأمريكي بقوة إتفاق سلام العدل والمساواة في كافة مراحله.
3) حرص المبعوث الأمريكي على إرسال إشارات موجبة إلى فصائل التمرد في دارفور بضرورة التوصل إلى حل ينهي الصراع الدائر في الإقليم .. ثم تصاعدت لهجة وحدّة تصريحات الولايات المتحدة تجاه البعض من تلك الفصائل التي لا تزال تطرح شروطا تعجيزية .. كما تم توجيه تحذير مباشر لعبد الواحد محمد نور بأنه لو ظل قابعا في سراديب باريس فلن يستطيع اللحاق بقطار سلام دارفور ، وما سيترتب على مسيرته من تقاسم للثروة والسلطة ..... أو كأنهم ينصحون عبد الواحد محمد نور على نسق ما ينصح به السماسرة للسبّابة والجلاّبة في سوق تمبول بقولهم : "المال تلتو ولا كتلتو" ... و "بيع البصل بما حصل".
4) التصريح الذي أدلى به إسكوت غريشون مؤخرا بتأييد واشنطون إقامة الإنتخابات الرئاسية والولائية والنيابية في موعدها الذي حدده المؤتمر الوطني الحاكم.
5) التصريحات الإيجابية لقادة الوفود الأوروبية التي ستراقب سير العملية الإنتخابية بأنها على قناعة بقدرتها على القيام برقابة فاعلة ... وهو ما يعني وفق الأدبيات الدبلوماسية أنه لا توجد مخاوف أو شكوك سالبة تؤيد سعي الحكومة القائمة لتزوير الإنتخابات ... أو أن الحكومة لم تفعل ما يوحي بذلك أو تعد وتنصب العراقيل .. وهو ما يعني إضفاء لجان الرقابة الأوروبية على الحكومة السودانية الحالية مصداقية تحسد عليها.
نقول في الأمثال "ما من محبة إلا من بعد عداوة" ....... وهو ما بات ينطبق بحذافيره على العلاقة بين الحكومتين السودانية والأمريكية منذ مجيء الرئيس أوباما للبيت الأبيض . وبعد أن توجهت الخرطوم للإصغاء إلى واشنطون عقب الزيارة التي قام بها العام الماضي مستشار رئيس الجمهورية غازي صلاح الدين للولايات المتحدة بهدف وضع حد أدنى من التفاهمات وسقف أعلى للخلافات بين البلدين . وكللت تلك الزيارة بالنجاح وفق ما صرح به وقتها غازي صلاح الدين العتباني . وقد تجاهل الناس حين ذاك أمر تصريحاته تلك معتقدين أنها ليست سوى محاولة للملمة الكرامة وستر العورات وتغطية المؤخرات المكشوفة . وليتضح بعد ذلك صدق هذا المستشار السياحي القسمات واللون مقارنة بأمثاله ..... وحيث أدى نجاحه في واشنطون إلى تسليمه ملف دارفور وإنجامينا ، بعد أن بات على ما يبدو مألوف الوجه واليد واللسان في ردهات ودهاليز قسم الشئون الأفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية .
وبالفعل بدأت أولى الخطوات العملية بل وقطف الثمار الحلوة وعناقيد العنب بزيارة إدريس ديبي المفاجئة المثمرة للخرطوم . والتي توجت فيما بعد بتوقيع غازي صلاح الدين بالأحرف الأولى على بروتوكول إتفاق سلام العدل والمساواة في إنجامينا.
لقد كان واضحا إذن أن هناك تفاهمات جرت بين طرفي السلطة في الخرطوم والإدارة الأمريكية ، تم بمقتضاها تطمين خرطوم البشير لواشنطون أوباما الإلتزام بإحترام إنفصال الجنوب بسلام ودون عراقيل في مقابل الحرص على حل مشكلة دارفور وإبقاء هذا الإقليم ضمن إطار السودان الموحد ؛ على قناعة بأن إقليم دارفور وعلى العكس من الجنوب يضم في حناياه وأعماقه وبين جوانبه كتلة عربية مستوطنة ضاربة الجذور وفاحشة الثراء في مجال الثروة الحيوانية لا تقل نسبتها عن 40% من عدد سكانه .... أو بما يعني أنها الكتلة الأكبر وسط فسيفساء سكان الإقليم من قبائل غير عربية أخرى غير متماثلة عرقيا وثقافيا أو متحدة إستراتيجيا وحيويا فيما بينها . بالإضافة إلى أن الأغلبية الكاسحة من سكان هذا الإقليم في مجملهم مسلمين متمسكين بإسلامهم ، ولا يعارضون من حيث المبدأ توجهات الخرطوم وتمسكها بتطبيق الشريعة الإسلامية وبسط أمرها بكل قوة على الشمال بعد إنفصال الجنوب الذي ظل يشكل العقبة الجدية الكأداء في طريق إستكمال ثورة الإنقاذ لمشروعها الإسلامي الحضاري وفق الطريقة التي تخطط لها.
....................
أوباما خلال إعلانه تعيين الجنرال إسكوت غريشون مبعوثا خاصا لدى الخرطوم
إذن وبإختصار نستطيع القول أن أسرار المحبة والعلاقة الغرامية الدافئة التي تشهدها الساحة السياسية بين الخرطوم وواشنطون حاليا تكمن في الآتي:
1) تأكيد الخرطوم لواشنطون أن إنفصال الجنوب لن يشهد محاولات من جانبها لإيواء وتشجيع وتمويل وتسليح وتحريك المقاتلين المتململين وسط الأقليات المهمشة من القبائل الجنوبية للثورة ضد حكومة الدينكا في جوبا .. ومن ثم الحيلولة دون وقوع صدامات مسلحة على الأقل في بدايات فترة الإنفصال .
وبالطبع فإن واشنطون ما كانت لتعطي الخرطوم هذه الأهمية الإستراتيجية لولا تجاربها مع دول الجوار في فيتنام ولبنان والعراق وأفغانستان ... وبالتالي قناعتها بقدرة الخرطوم على إشعال النزاعات والفتن القبلية النائمة في الجنوب .... وحيث أجرت حكومة الخرطوم بالفعل "بروفات" ناجحة في عام 2009م لإستعراض عضلاتها فيما يتعلق بقدراتها هذه ، تكللت كلها بالنجاح في حالتي الإشعال والإطفاء على حد سواء.
2) وفي مقابل الجنوب إلتزمت اشنطون للخرطوم بمساندة سعيها إيجاد حل سلمي سريع أو تحقيق تقدم ملحوظ في دارفور قبيل الإنتخابات المزمعة في أبريل القادم.
3) وعلى مسار هذا الإلتزام كان موقف واشنطون الأخير بتأييدها للحكومة بعدم تأجيل الإنتخابات ... وذلك إدراكا من الطرفين أن أي تأجيل لهذه الإنتخابات معناه التبريد الفجائي لحديد سلام العدل والمساواة الساخن. وفقدان زخمه والغاية منه لجهة إكتساح حزب المؤتمر الوطني لنتائج هذه الانتخابات ..... وأن التأجيل لن يصب سوى في مصلحة أحزاب وتجمعات المعارضة ، ومثالب الإشاعات والقيل والقال ؛ مما يعني فقدان المؤتمر الوطني لجانب مقدر من أصوات الأغلبية الصامتة.
.....................
وبنحو عام وبغض النظر عما إذا كانت المعارضة شريفة أو سيئة السمعة والنوايا .... أو كان الحزب الحاكم كذلك من عدمه .... فإن الإستراتيجيات السياسية الممتدة لفترة حكم ديمقراطي كاملة لا تبنى خارجيا وفق هذه المفاهيم المثالية ، بقدر ما يجري فهمها وتقبلها ودعمها وفقا للعبة المصالح التي باتت سمة العصر ....
ووفقا لما هو قادم .... وحيث أن السودان مقبل خلال شهور قليلة قادمة على إنفصال الجنوب بشكل عملي رسمي بعد أن إنفصل نظريا منذ أكثر من سنتين ...... وأمر كهذا يتطلب وجود حكومة مستقرة معروفة التوجهات في كل من الخرطوم وجوبا . وبالتالي فإن واشنطون وكافة حكومات الدول الغربية (وأعينها على صناديق إنتخاباتها المحلية) لن تغامر بإزاحة عمر البشير ونظامه السياسي الحالي عن السلطة للإتيان بشيطان لا تعرفه إلى سدة الرئاسة والحكم في الخرطوم ؛ وحيث يحتمل أن يكون أول ما يطالب به هذا الشيطان الديمقراطي الجديد هو المناداة بتأجيل إستفتاء تقرير المصير أو محاولة التملص من إتفاقات نيفاشا والعودة بمأساة الجنوب إلى المربع الأول ، لاسيما وأن تصريحات القوى الديموقراطية التقليدية الرئيسية في الشمال تصب في هذه الخانة ، ولا تخفي رغبتها في تأجيل موعد إستفتاء تقرير المصير والسعي الجاد الإبقاء على الجنوب ضمن إطار السودان الموحد .... وهو ما لا تريد الولايات المتحدة والدول الغربية سماعه ناهيك عن العودة لمناقشته بعد أن رفعت المراسي وغادرت السفن المواني .
...................
لأجل كل هذا ولأجل غير هذا من أسباب أخرى . فإن على الجميع أن يدرك أن المؤتمر الوطني الحاكم سيكتسح إنتخابات أبريل على كافة وجوهها وأصعدتها من رئاسية ونيابية وولائية وهلم جرا على النحو الذي يريد .... وأن كل من يعتمد على ورود تقارير من اللجان الأوروبية المراقبة في غير مصلحة الشفافية والمصداقية كتمهيد لتحريك الشارع وفق ما جرى في إيران أحمدي نجاد أو على نهج الثورة البرتقالية في أوكرانيا .. عليه أن يدرك أنه ساذج وخير له أن يجلس تحت قدمي الحبوبة لتحكي له بحنان مثاليات حكاية فاطمة السمحة مع الغول والشاطر حسن قبل أن يشرب كوب الحليب ويتغطى ثم ينام ليلعب في أحلامه وسط الزهور والأشجار والينابيع مع الملائكة .... وذلك لأن السياسة ولعبتها أعقد من تدبيج الخطب الرنانة أمام بائعات الشاي والكسرة والنبيح أمام أبواب منزل علي عبد اللطيف . والسكلبة والفرار الاتحادي الديمقراطي الخديوي الأصل بعد التعرض للرجم بالحجارة في سوق تمبول ... أو مما قد يظن البعض لأسباب متعلقة بحشود حب الإستطلاع والفرجة في كسلا وبحري بكثير ...
وحتى جمعيات حقوق الإنسان ولجان مراقبة الإنتخابات الأوروبية وغيرها من آليات مدنية حقوقية ليست بمنزهة عن الهوى والغرض والحسابات السياسية والدينية والتبعية لقادتها أو مموليها الماليين وأجهزة الإعلام الداعمة لها ....
بل ومنذ الآن يمكن التنبؤ بصيغة تقارير هذه اللجان والتي ستصب في ناحية الإعتراف بأنها إستمعت إلى شهود من المعارضة بوجود تجاوزات هنا وهناك ولكنها تصنف (إن صدق قائلوها) على إعتبار أنها لا ترقى إلى درجة التجاوزات الخطيرة والجوهرية . أو بما معناه أنها تجاوزات فردية نمطية تتكرر في كل إنتخابات دون أن تسهم في تغيير واقع عند فرز الأصوات ...... وأن الانتخابات بوجه عام قد جرت في ظل ظروف مرضية ومناخات محايدة.
وهكذا ستكون حكومة الخرطوم قد ضربت عدة عصافير بحجر واحد ، وحازت لنفسها الشرعية بكل حذافيرها ووفق ما تشتهي وتتمنى . خاصة وأن حزب المؤتمر الوطني الذي ظل يعمل في صمت قد فرغ منذ زمان من تسجيل أتباعه من الناخبين وعلى نحو يضمن بهم هذا الإكتساح .... وهو ما يفسر وضعه ليده بل وكلتا يديه في الماء البارد الآن.
التعليقات (0)