أستاذي المكي مغارة
محمد أنقار
في شهر نوفمبر من سنة 2005 كنت قد نشرت مقالاً عن الفنان أحمد بن يسف افتتحته بالفقرة الآتية:
«في عنقي دين قديم تجاه رسامي تطوان، وبصفة خاصة أستاذي المكي مغارة وصديقي الفنان أحمد بن يسف. ولا أريد في هذه المناسبة أن أفتح ملف المكي مغارة الذي سبق أن أشرت إليه في العدد الثاني من مجلة مجرة، خريف 1996، وإنما سأرجئ ذلك إلى فرصة أخرى بحول الله. في حين أود الآن أن أصف الأصداء الشخصية والفنية التي أثارها في أعماقي أحمد بن يسف منذ أواخر عقد الستينات».
وهاهو الفنان مكي مغارة يودعنا من دون أن أفلح في أداء الدين القديم الذي أضحى عمره الآن يناهز نصف قرن. وإليكم فيما يأتي تفاصيل القصة.
عندما كنت تلميذاً في ثانوية القاضي عياض (المعهد الرسمي سابقاً) في مطلع ستينات القرن الماضي اكتشفتُ أن شغفي بفن الرسم يزداد يوماً بعد يوم. كانت البداية مع المجلات الإسبانية المصورة التي سحرتنا آنذاك برسومها الجميلة ومغامراتها الجذابة فاستحوذت علينا منذ طفولتنا الأولى في حارتنا الشعبية باريو مالقه. ولم نكن بالطبع نملك آنذاك الوعي الكافي من أجل أن ننتبه إلى ما في تلك المجلات من سموم وخطابات مدسوسة. كانت الرغبة والفتنة عظيمتين فوقعنا في أسر الأشرطة المرسومة والصور السينمائية. وفي المرحلة الثانوية انفجرت الموهبة وغدوت أخطّ الكروكيهات على الدفاتر وأغلفة الكتب وخشب الطاولات. وعندما كنا في القسم الثالث ثانوي من نفس المعهد سنة 1961 فوجئنا بتعيين أستاذة للرسم اسمها إسبرانثا Esperanza عوض أستاذ آخر. هي فتاة إسبانية جميلة في ريعان الشباب، مورّدة الخدين، دائمة الابتسامة، قصيرة الشعر، طيبة القلب، هادئة الصوت. عشقَها كل تلاميذ الثانوية دونما استثناء، وربما حتى أساتذتها وموظفوها. والعجيب أنها تمكنت برقتها الناعمة وابتسامتها العذبة من أن تُذرّ غبارَ سحرها حتى في عيون هؤلاء التلاميذ أصحاب القامات العالية الذين تنطق ملامحهم بالشغب والمشاكسة، وتنبئ حركاتهم عن نشاط عارم يصل إلى درجة الفوضى. وحينما كانوا يثيرون غضبها يزداد خداها حمرة فتُسكتهم فتنتها ويضطرون بقدرة قادر إلى احترامها.
كانت إسبرانثا هي التي انتبهت إلى جمال رسومي فجازتني بنقط عالية وكلمات مشجعة. وفي أيام الامتحانات والتطبيقات كانت تعرف أني أتكفل خفيةً بإنجاز رسوم التلاميذ الجالسين في المقاعد الخلفية المشهورين بالكسل وإدمان النقل. وذات يوم اقترحتْ علي الذهاب إلى مدرسة الفنون الجميلة من أجل تطوير موهبتي، وكتبتْ لي في شريط صغير من الورق الأبيض جملةً ما زلت أحفظ كلماتها القليلة إلى اليوم:
Meki haz el favor de atender a este chico.
ومنذ ذلك اليوم عرفت أن في تطوان فناناً وأستاذاً بمدرسة الفنون الجميلة اسمه المكي مغارة الذي أوصته الأستاذة بي خيراً.
وقصدت مدرسة الفنون المهيبة. وحينما وجدتُني في بهوها الرخامي ذي اللون الأسمر الفاتح منعني حيائي من السؤال عن مغارة فاستقبلتني المسؤولة الأستاذة ماريا خِسوسْ. كان جسدي ضئيلاً فلم تصدق أني تلميذ في الثالثة من الثانوي. ومن حسن حظي أني وجدت في تلك المدرسة تلميذاً من الذين أعرفهم فأكد لها ذلك. كانت امرأة في منتصف العمر أو يزيد قليلاً. قصيرة الشعر لكنه يكاد يكون أشعث. ذات قامة نحيفة وطويلة. ولم أدر لِـمَ ربطتُ بين نحافتها وجنون الفنانة التي أعطتني أول درس في أسلوب الرسم بالفحم على الورق. ففي قاعة فسيحة وجدتني أمام الحامل بينما تلاميذ كبار يرسمون في رزانة على الورق الأبيض تمثالاً نصفياً لرأس إغريقي أو روماني ملتحٍ. ولقد سُحرت برسوم هؤلاء التلاميذ ورسخ لدي البون الشاسع القائم بيني وبينهم. كل ذلك كان يعني أن صغر سني وغِرَّتي لم يسمحا لي بالاتصال المباشر بالأستاذ مغارة، وإنما ارتأت المسؤولة أن أبدأ بفن الرسم بالفحم. ومع ذلك علمت أن المكي مغارة يقدم دروساً إضافية في دار للشباب تعرف ب"دار الثقافة الشعبية" واقعة قبيل نهاية شارع المصلى المعروف ب"لونيطا"، قرب "المسرح الوطني". وقصدت تلك الدار صحبة صديق من الباريو. وهناك استقبلنا مغارة بالترحاب. كان شاباً متوسط الطول ممتلئ الجسم. يرتدي بذلة جديدة تنبئ عن أناقة عالية وذوق رفيع في اللباس. وأتذكر أن البذلة كانت ذات لون أزرق بحري مائل إلى القتامة، من الصنف الذي يلمع في ضوء المصباح. وإضافة إلى البذلة لفتني أيضاً القميص الأبيض الناصع وربطة العنق المعَدَّة بعناية فائقة. وحينما نظرت في وجهه أثارني امتلاؤه واستدارته، فضلاً عن سمات أخرى بهيجة ظلت عالقة بذهني إلى يومنا هذا: عيون متقدة ومسالمة في نفس الآن، وفم ينفرج عن ابتسامة خفيفة تظهر من بين شفتيها أسنان ذات فلجة صغيرة جداً أو ما يشبهها. ولقد أوحت إليّ كل تلك السمات بالاطمئنان إلى الرجل والانفتاح عليه خاصة عندما تكلم بصوته الوديع الشبيه بالجدول الذي يجري دونما تدفق وإنما يسري في أناة.
كان الأستاذ مغارة يدرّس في دار الثقافة الشعبية فنون التصوير بالألوان الزيتية والمائية. وكنا قلةً من التلاميذ تخلَّوا جميعاً مع مرور الأيام إلا أنا ورجل في منتصف العمر متزوج اسمه الشويخ. كان صاحب دكان لبيع التوابل في بداية زنقة المقدم قرب دكان الفقي وقبالة دكان علوش. وتأججت في الرجل موهبة الرسم الفطري فغدا يقفل دكانه في أمسيات مخصوصة من كل أسبوع ويفوت على نفسه قوت أسرته. وأتذكر أننا حينما اجتمعنا في اليوم الأول في القاعة الصغيرة في تلك الدار العتيقة المرصعة جدرانها بالزليج التقليدي وقفنا خائفين أمام حوامل اللوحات وطلب الأستاذ إلى كل واحد منا أن يرسم الزميل الذي قبالته. وكان وجه الشويخ من نصيبي وقد لفتني فيه بياضه، وجحوظ عينيه، وسمات طيبوبته، وابتسامته الدائمة التي تصل إلى حد السذاجة، إضافة إلى طاقيته وسرواله التركي. وحينما رسمت وجهه استحسن الأستاذ عملي فتطوع كي يحتفي بموهبتي التي كانت في حاجة كبيرة إلى العناية والتشذيب.
ثم بدأنا نتعلم تقنيات التصوير بالألوان الزيتية، وهو الأسلوب الذي كنت أعشقه وتمنيت ممارسته على أحر من الجمر. وحيث إن أنابيب الألوان الزيتيةTubos de óleo
كانت مرتفعة الثمن بالنسبة إلي أنا ابن الحارة الشعبية؛ فقد علمنا الأستاذ مغارة كيف نصنع بأنفسنا ألواننا. هكذا أشار علينا بشراء المغرة بمختلف ألوانها وعجنِ كل لون على حدة في علبة قصديرية مع الاستعانة بالسائل المعروف بأغْورَّاسْ وخلطها خلطاً جيداً: الأبيض والأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والبني والأسود. ومن أجل إنجاز هذا المهمة الجديدة أصبحتُ أختلي بنفسي في فجوة ضيقة جداً محشورة قرب سطح بيتنا الواقع في شارع الأخماس بالباريو. ومن أجل أن أوهم نفسي بأني رسام كبير كنت أرتدي فوق ملابسي معطفاً رقيقاً ذا لون أسمر فاتح ثم أُقفل زر عنقه على طريق الرسام العبقري المجنون فان غوخ. وأقضي هكذا الساعات الطويلة أخلط الألوان في تلك العلب القصديرية التي كان يباع فيها الحليب المركَّز ذو الاسم التجاري "البقرات الأربع Cuatro vacas " أو "بائعة الحليب La lechera"، وأصور الوجوه والحيوانات والورود. وحينما يـأزَف موعدُ حصة الأستاذ مغارة في المساء المخصوص أضطر إلى جمع "لِيطان" الألوان في كيس من ورق الإسمنت وأمضي به في حذر مخافة أن يراق الطلاء أو تختلط ألوانه. وتخيلوا صبياً يمضي بمثل تلك الحمولة ويقطع بها مسافة طويلة من الباريو إلى المصلى مشياً على الأقدام وكله حذر وحيطة. ومع ذلك كنت أنسى تعب الطريق حينما نقبل على وجه الأستاذ مغارة البشوش باستمرار، ثم يأخذ في تحفيز السيد الشويخ كي يتكلم بلثغته الجبلية المميزة فيثير ضحكنا.
أتذكر أن المكي مغارة دخل علينا ذات أمسية ببذلة جديدة صارخة وانخرطنا أنا والشويخ في مزج الألوان استعداداً للرسم. وحينما اقترب الأستاذ مني وأنا منهمك في عملي لمستْ ريشتي بذلتَه الجديدة فتملكني الخجل. واعتذرت له فلم يغضب وإنما أخذ على التو قطعة من القماش النظيف وبللها بأغْورَّاسْ وراح يفرك بقعة الطلاء باهتمام بليغ. ولم أنس ذلك الحدث الصغيرَ الكبيرَ مدى حياتي، وهو الذي أكد لي بما لا يقيل الشك أن الأستاذ مغارة كان يهتم بهندامه الأنيق اهتماماً بليغاً يوازي اهتمامه بفنه العميق الرؤى.
ومن ذكرياتي أيضاً مع الأستاذ مغارة تلك اللحظات التي كان يشرح لي خلالها بعض أسرار الألوان المائية. والمعروف أن هذه التقنية تقتضي في مرحلة من مراحل إنجاز الرسم أن يوزع الرسام الألوان المائية وهي تتدفق غايةً في الشفافية على الورقة كالسواقي، وأن يعرف كيف يجعل الألوان تسيل في مواضع مخصوصة من اللوحة كما لو كان يحفر لها أخاديد من دون أن تختلط فتفقد بذلك وظيفتها التشكيلية. ويجب على الرسام أن ينجز كل ذلك بخفة كبيرة ومهارة قبل أن ينتقل في مرحلة تالية إلى استعمال نفس الألوان وهي في وضعية مركزة تفوق شفافيتها السابقة. وحينما كان الأستاذ مغارة يشرح لي كل ذلك ذات مساء اتخذت ملامحُ وجهه صورةَ الرجل الصوفي وقد تملكته الجذبةُ واستنشق الهواء بفمه وغدا له صوت كالفحيح. ثم فرّج فيما بين يديه وكاد أن يقبض كفيه إلى بعضهما مثلما يفعل الساحر. وخلال كل ذلك برقت عيناه وانتابه توتر حاد لا يتناسب بتاتاً مع مظهره الوديع، حتى إذا ما اطمأن إلى أنه أحسن الشرح والتوضيح عاد إلى حالته المسترخية السابقة كما لو خرج من بـهْـوِ الحمَّام الساخن إلى جلسة القعدة المنعشة حيث يقرفص "الطيّاب". ولم يكن سني يسمح لي آنذاك بإدراك سر الجذبة التي انتابت أستاذي. لكن بعد أن كبرت وغدوت شيخاً واطلعت على لوحاته المفعمة بالسمات الصوفية والتوتر والتجريد تيقنتُ بأن الرجل كان يشرح وهو واقع في تأثير إحدى نوبات إبداعه الرائعة.
كذلك قضينا عاما دراسياً مع المكي مغارة. وفي اليوم الأخير من الموسم الدراسي ألح علي الأستاذ في الاهتمام بتطوير موهبتي وألا أنقطع عنها. ثم قال لي إنه يقطن في مَـرْتِـينْ وأنه مستعد لكي يستقبلني في بيته من أجل مساعدتي. وما زلت أتذكر حزن اليوم الأخير حينما ودعنا الأستاذ أنا والشويخ. كنت آنذاك فتى يفتقر إلى الوعي الكافي من أجل أن أعرف معنى الاستمرار. ليس لدي من يمعن في هدايتي وتشجيعي اليومي مع المراقبة الدائمة. وإذا أضفت إلى كل ذلك شدة الخجل وصغر السن أدركت السبب الذي جعلني أتقاعس عن البحث عن الأستاذ والسفر حتى مرْتين التي كانت تبدو لي آنذاك بعيدة. وصور لي خيالي دار الأستاذ في صورة فاخرة أنا ابن الحارة الشعبية. لذلك أحجمت عن الذهاب.
ثم انقطعت صلتي بالأستاذ مغارة بعد أن سافرت إلى فاس من أجل متابعة الدراسة ثم إلى القنيطرة من أجل التعليم. ومرت عقود صادفته خلالها مرات نادرة لكني لم أتجرأ من أجل الكلام معه مخافة ومهابة، شأني في ذلك شأن أبناء جيلي مع جل أساتذتنا القدامى. أو ربما لأني قرأت في عيونه ما جعلني أستخلص أنه نسي تلك المرحلة الموغلة في القدم في شارع المصلى. وتوكد لي هذا الاحتمال الأخير حينما صادفته ذات مرة في مدخل المعهد الوطني للفنون الجميلة وذكرته بتجربة دار الثقافة الشعبية فلم يعلق واكتفى بالترحيب بي وهو يبتسم ابتسامته الخالدة. وفي المدة الأخيرة صادفته في دار الصنائع خلال نشاط ثقافي حضرناه سوياً. حينذاك كنت قد خلعت عذار الخجل وأنا شيخ حنّكتْه مهنة التعليم. ذكّرته ثانية بتجربة الستينات واقترحت عليه أن أجري معه حواراً حول مسيرته الفنية الطويلة المتميزة فرحب بالاقتراح وأعطاني عنوانه ورقم هاتفه. وكانت فكرة هذا الحوار قد راودتني قديماً منذ أن كنت أقتني مجلة "الفنون" المصرية في الثمانينات ثم مجلة "إبداع" التي كانت هي الأخرى تخصص صفحات للنقد التشكيلي. وتصورت أن يكون الحوار دسماً يُترجم عمق لوحات مغارة ورؤاها الصوفية والفلسفية. لكن فكرة الحوار ظلت حلماً انشغلتُ عنه بالكتابة والتعليم وأمور الدنيا. وحينما علمت أخيراً نبأ وفاة المكي مغارة انتابتني عقدة الذنب إزاء الأستاذ الذي أمتعني بلحظات رائعة وعلمني من أسرار الفن قدرا طيباً كان له تأثيره الواضح في صوغ ذوقي الأدبي والفني. بيد أني لم أستسلم بصورة تامة إلى ضغط العقدة ولوعة الفراق وقلت:
- لابد أن أرد الدين الجميل قريباً لو مد الله في العمر..
رحم الله المبدع المكي مغارة الذي ستظل ذكراه تشع في أعماقي مثلما تشع بقع البياض اليتيمة في فضاء لوحاته ذات التوتر الكثيف.
التعليقات (0)