أزمة الغلاء في السودان
الغلاء الذي يجتاح السودان الآن ليس مسبوقا . والسبب ليس موسميا كما يحاول السيد وزير المالية الإيحاء به وإقناع الناس بقدر ما هو إنخفاض في سعر صرف الجنيه السوداني من جهة وتراخي بشأن الرقابة على إنسياب المشاكل من جهة دولة جنوب السودان ؛ سواء أكان ذلك بقصد وتدبير منهم أو دون قصد وسابق تدبير.
ومن قبل قال السيد وزير المالية ، أن إنخفاض الجنيه وارتفاع الدولار إنما مرده إلى محاولة الجنوبيين التخلص من فائض الجنيه السوداني لديهم . ففضلوا بيعه بأبخس الأسعار . وهو الأمر الذي أدى إلى زيادةالمعروض منه . وهاهو يعود فيقول لنا بعدها أن السبب موسمي .. أو كأن الأمر خريف وأمطار .
واقع الأمر أن الدولار هو الآخر يعاني من إنخفاض كبير في الأسواق العالمية . وكان الأجدر أن ينخفض سعره وليس العكس. ولعل القفزات الأسطورية في أسعار الذهب ما يدل على المدى الذي وصل إليه الدولار الأمريكي في تدني القيمة.
غلاء المعيشة يعتبر المهدد الرئيسي لإستقرار الأوضاع في البلاد. والتاريخ وماضي الذكريات تشهد على ذلك . فالأغلبية الصامتة من الشعب لا يهمها من هو نائب الرئيس ومن هو المساعد أو الوزير الفلتكاني لأنهم جميعا معينون تعيين وظيفي على بند وهيئة سياسي. فأصبحوا بمثابة كبار موظفي دولة ليس إلا . ومن ثم فإن إهتمام رجل الشارع يظل منصبا على ترجمة الأداء الحكومي إلى واقع يتعلق بمعيشته وهمّه اليومي الحقيقي الذي يتأثر به.
من قبل كانت مشكلة الجنوب والحريات سببا في إندلاع ثورة أكتوبر 21.... ثم كان الغلاء الفاحش سببا في إندلاع إنتفاضة ابريل 85م ..... واليوم نرى الإنقاذ في وضع لا تحسد عليه بسبب أنها تعاني الأمرين معا ... فهناك من لا يرضيه ما يطلق عليه تفريط الشمال في الجنوب .. وهناك من لا يرضيه تفريط الشمال عن كثير من الممكن في إتفاقية نيفاشا المثيرة للجدل . وأنها لم تضع حلولا نهائية للمشاكل العالقة أو كأنها كانت إتفاقية لأقرار تقرير المصير ليس إلا...... هذا ما كان من أمر الجنوب (سابقا) الذي كان السبب الرئيسي من جملة اسباب ساهمت في تفجير ثورة أكتوبر الشعبية المجيدة .
ومن جهة الأسباب التي ساهمت في تفجير إنتفاضة ابريل 85م نرى الآن ما كان يالأمس من غلاء فاحش لم يعد محتملا . ويكاد المواطن السوداني من جرائه يحتضر غيظا ويموت كمدا. ولا أمل يلوح في الأفق.
وخلال وجرّاء موجة الغلاء الذي هو حاصل تزداد الشحناء والأحقاد. ويبدأ الشعب في تقليب الدفاتر القديمة وتلوك الألسنة الإشاعات والقصص والروايات وحتى الأساطير حول الفساد وسرقة المال العام وإستغلال النفوذ وحياة البذخ والرفاهية وألف ليلة وليلة التي ينعم بها تجار الجبهة وقيادات الحزب الحاكم ... وهلم جرا من قصص وحكايات وروايات لم تعد خافية على أحد . ولم تعد تحتاج إلى منشورات الحزب الشيوعي الورقية بعد أن بات الهاتف الجوال وسيلة سهلة على اللسان والأذن معا.
المعاذير التي يسوقها أصحاب الحل والعقد هذه الأيام تبدو كل مفردة منها أسوأ من الأخرى وبمثابة العذر الأقبح من الذنب ...
إذا كان إنفصال الجنوب وتدني حصة السودان من البترول هي السبب كما أشيع في البداية . فلماذا كانت الحكومة تطمئن شعبها بأن إنفصال الجنوب لن يؤثر على الميزانية ومداخيل الدولة؟
وإذا كان انخفاض الجنيه وارتفاع الأسعار بالتالي سببه تدفق عملة الجنيه إلى داخل السودان من دولة الجنوب . فلماذا لم تعمل الحكومة على إحكام الرقابة على الحدود بين البلدين ؟ ..... أخشى أن يكون التعليل هو أن هذه الحدود لم يتم ترسيمها بعد.
وإذا كانت أسباب الغلاء موسمية كما قال وزير المالية . فلماذا لم تستعد وزارته لمثل هذه الأزمة الموسمية ؟
سائقو اللواري السفرية والرعاة والترابلة ، وتجار المحاصيل والتقاوي والبصل والدوم والنبق واللالوب يستعدون بنجاح ومهنية للهبوب والأمطار الموسمية ويعملون حسابهم أولا بأول ... فلماذا ينجح هؤلاء الأميون في تخصصاتهم ، ويفشل المتعلمون من حملة الشهادات الجامعية وفوق الجامعية في تخصصاتهم ووظائفهم الحكومية الروتينية؟
ربما علينا أن ننتظر 40 سنة قادمة بعد أن يتم تغيير المناهج الدراسية حتى نحصل على كبار موظفي دولة يحسنون الإستعداد للأزمات الموسمية ..... علما بأن مصطلح "موسمية" يفيد التكرار السنوي الرتيب المتوقع وليس المفاجأة.
بتنا نسمع ونرى في العاصمة بإضراب هنا وإعتصام هناك ومظاهرات هنا وإحتجاجات هناك .... وأهل الهامش يتحفزون يتحينون الفرص وفي أيديهم السلاح ، ويعمل مناديبهم بجد وإجتهاد في الداخل وعواصم الدول الغربية الكبرى لتهيئة الأجواء لقرارهم بالزحف نحو الخرطوم .... فهل تعي الحكومة الواقع وتدرك حقيقة الوضع فتسارع إلى حلحلة الأزمة المعيشية الخانقة ؛ أم تتلهى بإستحالة الثورة ثم تترك البلاد تنزلق إلى مهالك فوضى لا يعلم مداها هذه المرة سوى الله؟
التعليقات (0)