أزمة الوعي الأمريكي وعسكرة المعنى . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن الإشكالية الكبرى في الأداء السياسي الأمريكي هي غياب دلالات الوعي عن محيط الأداء الفكري الإمبراطوري . مما أدى إلى إدخال أمريكا في حروب متعددة الأشكال دون أن تفكر في كيفية الخروج منها. وهذا يعكس سوء التخطيط المعتمد على الارتجال والاستعجال .
والغريب أن دولة كأمريكا تملك أقوى جامعات العالَم، وأقوى مراكز البحوث والإحصاءات ، وأعظم علماء الدنيا ، لم تقدر على ضبط حساباتها على الأصعدة : الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية . وهذا يعكس حجم المأزق الوجودي .
وربما ظنَّت أمريكا أنها بغزو العراق وأفغانستان توجِّه رسالةً تحذيرية لباقي الدول أن ارتدعوا وإلا سيؤول مصيركم مثل العراق وأفغانستان . والذي حدث هو عكس هذا تماماً لأن أمريكا بعد غزوها للعراق وأفغانستان لم تعد قادرةً على أي عمل عسكري آخر ، على الأقل حتى تبنيَ قواتها العسكرية من جديد ، وتعيد حساباتها ، وهذا يستغرق وقتاً طويلاً .
فانكسارُ أمريكا في العراق وأفغانستان هو انكسار حقيقي، وليس حرباً إعلامياً يشنها أعداء أمريكا . وعدم قدرتها على الحسم العسكري صار العنوان الرئيسي في كثير من الدوائر، حتى لو لم يتم الإعلان عن ذلك من أجل الحفاظ على ماء وجهها.
فأمريكا إن بقيت على الأرض سوف تظل تنزف حتى الموتِ ، وإن انسحبت فهذه خسارة لأنها لم تحقق الأهدافَ المرجوة من الحرب، فتكون قد دفعت ثمناً باهظاً من دماء أبنائها ، وأموالاً طائلةً من دافعي الضرائب دون أي مردود . فتكون بذلك كمن يرمي ممتلكاته في البحر ، ثم يعود إلى بيته رافعاً راية النصر . ففي كلا الحالتين أمريكا في مأزق ، وتعاني من أزمة حقيقية تتعلق بأهدافها وهيبتها ومكانتها وقوتها .
وبسبب التورط الحقيقي لأمريكا وعدم قدرتها على شن حروب أخرى لأن قواتها العسكرية منهكة ، تجرأت كثير من الدول على تحدي أمريكا جهاراً نهاراً، ولستُ أعني الدول الكبرى كروسيا والصين . فهاتان الدولتان لهما ثقل عالمي يجبر الغربَ على احترامهما ، وليس مفاجئاً أن يعارضا . ولكني أقصد الدول الصغيرة نسبياً ( بالنسبة لحجم الثقل على المسرح الدولي ) كإيران ، سوريا ، فنزويلا ، كوريا الشمالية، والمنظمات مثل حماس ، و"حزب الله" وغيرها .
ونحن لا نقلِّل من قوة أمريكا العسكرية ، ولا نريد أن نصورها كدولة فقيرة لا تملك معدات عسكرية ، إلا أننا نقول إن أمريكا بعثرت قوتها في أرجاء العالَم ، وتورَّطت في حروب غير محسوبة ، كما أنها خاضت حروباً غير تقليدية ، ففي العراق كان الذين يقاومون الاحتلالَ الأمريكي ليسوا " الدولة العراقية " ، وإنما حركات تخوض حرباً غير تقليدية ، والأمر كذلك في أفغانستان، وهذا بحد ذاته صعوبة بالغة ، لأن الجيش الأمريكي جيش نظامي مدعوم بسلاح جوي مُدمِّر، ينسف المرافقَ الحيوية لأية دولة من أجل تركيعها ، والضغط عليها لتستسلم . لكن الأمر في العراق وأفغانستان كان مختلفاً تماماً . فلا توجد دولة _ بمفهوم الكيان السياسي _ تقاوِم القواتِ الأمريكية. وهذا ينقل المشهد إلى مشاهد الحروب غير التقليدية ، وحروب العصابات والشوارع والكر والفر،خصوصاً أن المعارك كانت تجري في بيئة قاسية للغاية من حيث شدة الحرارة أو وعورة التضاريس . وأمريكا غير معتادة على هذا الأنظمة الحربية. فبدت وكأنها تقاتل شبحاً يظهر هنا ويختفي هناك . كما أن هذه النوعية من الحروب تشتمل على اشتباكات مسلحة بين الطرفين وجهاً لوجه ضمن منظومة الاحتدام والاشتباك ، وهذا يُحيِّد سلاحَ الجوي تماماً فيصبح بلا فائدة ، لأنه لا يريد أن يقصف أهدافاً مخلوطة فيقتل جنوداً أمريكيين مشتبكين مع المقاوَمة . ومكمن الخطر في هذه الحرب عدم وجود أهداف ثابتة ليتم قصفها. فمثلاً لا يوجد قصر جمهوري للملا محمد عمر، ولا توجد وزارة داخلية للمقاومة العراقية . كما أن مصادر تمويل المقاومة غير معلومة ، فالأمر أشبه بالوقوف في غرفة معتمة لا ترى شيئاً ، وتتوقع ضربةً تأتيك في أي وقت دون معرفة مصدرها .
وفلسفة التشتت وتفريق القوى من الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظناً منها أن نشر القواعد العسكرية في العالَم سيضمن تواجداً أمريكياً أمنياً في كل بقعة ، وبالتالي هذا يضمن سلامة أمريكا وعدم تعرضها لسوء.
وهذه الفلسفة غير المنطقية مبنية في بعض أجزائها على أرضية الحرب الاستباقية، لكن الإشكالية الحقيقية في التعامل الجيوسياسي أن أمريكا تخوض حرباً غير تقليدية، فليست حربها ضد جيش نظامي مستند إلى نظام سياسي متواجد في كيان محدود على شكل دولة . وهذا ما لا تدركه أمريكا ، أو تدركه لكنها تُكابِر لكي تبدوَ في صورة القائد المنتصر الواثق من نفسه في كل الأوقات دون الحاجة إلى معرفة العدو، وأسلوبه ، وحجم قوته . وهذا سبَّب تراخياً في الأداء الاستخباراتي الأمريكي عبر طائفة من التقارير غير الدقيقة التي انعكست سلباً على صورة أمريكا، وقاد ذلك إلى أحداث 11/9 .
فلأول مرةً في التاريخ تتلقى أمريكا ضربةً في عقر دارها،وهي غير معتادة على ذلك. فكل الحروب التي خاضتها، وكل الضربات التي تعرضت لها ، كانت خارج حدودها . فالموقع الإستراتيجي لأمريكا جعلها محصنةً جداً ، فهي أشبه ما تكون بجزيرة في وسط المحيط . فلم تتوقع أن يتم نقل المعركة إليها في قلبها النابض ، وهذا يكشف لنا أن المأزق الأمريكي الحقيقي يأتي من داخلها عبر أزمات خانقة تنبع من ذاتها تعصف بها .
ومن هنا يتضح لنا أن أحداث 11/9 أَدخلت العالَمَ في حروب من نوع خاص بلا أهداف محددة ، بلا كيانات سياسية على شكل دول ، بلا ميزانيات مكشوفة للحرب. لذلك فإن سمة القرن الحادي والعشرين ستكون حروباً أمريكية ضد المجهول، وهذا ينهش في الجسد الأمريكي . وأعداء أمريكا يعملون في الظلام دون وجود كيان سياسي أو جيش نظامي، وهنا تكمن نقطة قوتهم، لأن العامل في الظلام أقدر على إنجاز عمله ، فالظهور يقصم الظهورَ . وهناك نظرية يستعملها أعداء أمريكا في مواطن محددة : " لا تُظهر قوتك إلا حينما تكتمل قوتك " .
يقول عالم الكيمياء الشهير الدكتور أحمد زويل في كتابه عصر العلم ( ص 225) : (( وقد جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتقود إلى المزيد من اللانظام . فقد اهتزت الولايات المتحدة لما جرى ، اهتزت الحكومة كما اهتز الفرد الأمريكي نفسه ، ولم تكن الهزة لشدة وفداحة ما حدث فقط بل كانت _ وبالأساس _ لأن الشعب الأمريكي لم يشهد حرباً حديثة داخل أرضه، فالولايات المتحدة أشبه بجزيرة تقع بين محيطين ، وقد خاضت كل حروبها خارج أراضيها ، في فيتنام والعراق والبلقان وأفغانستان ، وفي عملياتها العسكرية المحدودة كالتي جرت في ليبيا والصومال . لقد اهتز الشعب الأمريكي من جراء أحداث 11سبتمبر التي أطاحت بإحساسه بالأمن، ومن أجل ذلك أعطى الناخب الأمريكي صوته مرة ثانية للرئيس بوش تأكيداً لاستمرار إحساسه بالقلق ورغبته في الشعور بالأمن ، ولو كان على حساب أمن الآخرين )) اهـ .
ومن خلال الاتجاهات المبنية على دراسة المشروع الأمريكي نستطيع استشراف الأسس العامة لعسكرة السياسة في الأطر التطبيقية، حيث إن أهم أساس في هذه الصيغ الفكرية هو لعبة التعميم المتعمد ، حيث يتم صبغ كل المخالفين للسياسة الأمريكية بالإرهاب دون تمييز ، وذلك وفق فلسفة " خير وسيلة للدفاع الهجوم"، وهذا يؤدي إلى إحداث حالة من اللامنطق عبر تفعيل التهم دون أدلة . والمتهم بريء حتى تثبت إدانته. وقد تبدو هذه الشعارات ذات تطبيقات في الشارع العادي للمواطن البسيط ذي التعليم المتدني ، إلا أن بعض السياسات قائمة عليها تماماً ، وتطبقها بكل حرفية .
وهكذا نكتشف أن قوانين الحرب قد تغيرت بخروجها من الإطار التقليدي الرسمي المعتاد إلى الإطار غير التقليدي. ومن هنا تتكشف متواليات التعرية المستدامة في الأداء الفكري العالمي ، وتظهر صعوبة أنساق حروب القرن الحادي والعشرين . فهذه الحروب مفتوحة على جميع الأصعدة ، ولا يمكن توقع طبيعة حركتها .
وفي أطوار بناء القوالب التاريخية زمنياً ومكانياً ، والقيام بعمليات الإفراغ والإحلال ،تتكشف مصاعب جمة من أبرزها :
1) تحويل الإنسان العالمي إلى مجرد دجاجة تبيض ذهباً ، وهذا الأداء البؤري في يسلخ الفردَ من قيمته كإنسان يؤدي دوراً محورياً لخدمة كيان سياسي ينتمي إليه. وفي ظل هذا الغبش الفوضوي تزول قيم الانتماء للمجتمع الكَوْني ، لأن الرابط المادي صار عبئاً على المواطن ، والفرد بدأ يخلع وطنَه المادي المشوَّش ، لأن الأزمات الدولية صارت عبئاً على كاهل الإنسان . وهذا يفسر غياب الانتماء الحقيقي . فتتابع عمليات اختزال الفرد في إطار ما يدفعه ويقدمه للخزينة ما هو إلا إجراء صادم لطموحات الفرد الراكض في مدارات الانشقاق الظاهري والباطني ، فقيمة اللاانتماء أضحت المرادف الحقيقي للمواطنة في المجتمع العالمي الذي يأخذ ولا يعطي . وحينما تصبح السياسات الرسمية غير المحسوبة ، والمغامرات الصبيانية الطائشة ، عبئاً على كاهل الإنسان ، فالطبع سوف يؤول الانتماء إلى قيمة فردية عبثية ، خصوصاً في محيط اجتماعي مادي استقطابي يدور في حلقة مفرغة . وبغياب قيم الانتماء سوف تتصدع كيانات الدول ، لأن طموحات الفرد العالية لم يواكبها مشروع حضاري نهضوي حقيقي . وهذا مسمار حقيقي وعميق يُدَق في نعش
الحضارات المخالفة للمعنى الإنساني الكوني الشامل .
2) إن نقل الماضَوِيَّة إلى الحاضر التطبيقي مع اختلاف الظروف البيئية الحاضنة للتفكير المنطقي المحيط بدلالات وحدة الملابَسَة السياسية يتطلب بنيةً ديناميةً في القوالب المعاصرة لكي تقدر على احتضان المعنى الماضوي السابق . والإشكالية في العقلية العسكرية الدولية هي زيادة الأعداء والمخاطر ، وتقليل الموالين ، لأن الدبابة لا يمكن أن تكسب قلوبَ الناس. وقد ورد في الحكم : (( بإمكانك أن تجبر الحصان على الذهاب إلى النبع ، ولكنك لا تقدر أن تجبره على الشرب )) .
وكل خطايا السياسة ستنعكس سلباً على مصير الحضارات . وهذه هي فلسفة عسكرة الأنساق الفكرية ذات الأطر اللامنطقية في أفق ذاهب إلى عالَم متعدد الأقطاب . حيث إن حقبة القطب الأوحد الأمريكي تكرست بعد انهيار الاتحاد السوفييتي . وقد كانت هذه المدة هي الطور التاريخي لوجود القطب الأحادي المتفرِّد الذاهب إلى تعددية القطبية .
وعلى الرغم من متواليات الفلسفة العسكرية في المنظور الدبلوماسي إلا أن الأبنية المتآكلة في هاجس الحلم الإمبراطوري ما زالت ضمن صور الإطارات العبثية لسياسة غير عقلانية تولد من فوهات المدافع . وما الارتباط الصارم بين هواجس العدم الفراغي الجزئي والكلي إلا مأزق الانحسار الكوكبي ، أي ذهاب كوكب الأرض إلى الطريق المسدودة .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)