أزمة الهوية الفلسطينية كعامل مثبط للإنتاج المعرفي
مدخل فلسفي لقراءة إشكالية البحث العلمي
هذا البحث تم تقديمه لمؤتمر "البحث الأكاديمي الفلسطيني-الإنجازات والمعيقات" - جامعة بيرزيت- 7/1/2009
بلال الشوبكي
تقديم
الاستثمار في المعرفة، أو الإنتاج المعرفي، ومصطلحات كثر، باتت مألوفة –كطرح نظري- لدى شعوب العالم قاطبة، لتعبر بشكل أو بآخر عن تطور المشروع الحداثي المعرفي. في فلسطين ما زال مجتمع المعرفة بصورته المتكاملة، حلما يراود الكثيرين، كما هو الحال عربيا أيضا، وفي إطار بحث المراقبين والمهتمين، عن أسباب بقاء الطرح الخاص بالبحث والمعرفة في إطاره النظري، ظهرت الكثير من القراءات التي أحالت المشكلة إلى أسباب تقليدية محورها الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وفي فلسطين أضيف إلى القاسم المشترك العربي، اعتداءات الاحتلال وممارساته القمعية ضد الشعب الفلسطيني كعامل مثبط لمسيرة البحث العلمي والتطور المعرفي.
لكنه من النادر أن تجد معالجة غير تقليدية لمشكلة الإنتاج المعرفي. فلسطينيا مثلا، لا يتجاوز الحديث عن الاعتداءات الإسرائيلية وأثرها على البحث العلمي سياق الاعتداء على المؤسسات والأفراد، بمعنى البحث في الملموس والظاهري، وترك ما هو كامن وعميق، كمسائل الاعتداء على الهوية وإذابتها ومحاولة إزالتها كوعاء للكل الفلسطيني، وهو تفريغ لجوهر المشكلة، وتضخيم لأسباب أثبتت شعوب أخرى وقعت ضمن نفس الظروف أنها لم تحل بينها وبين مسيرة المعرفة.
إن مراجعة دقيقة لمشكلة البحث العلمي في فلسطين و المتمثلة في ضحالة الإنتاج المعرفي، تشير بشكل واضح أن أحد أهم الأسباب الكامنة وراء تلك المشكلة، مرتبط بأزمة الهوية، وهنا تأتي هذه المداخلة كمعالجة فلسفية لإشكالية البحث العلمي والإنتاج المعرفي.
فالباحث، أو طالب المعرفة، هو ذات فاعلة، وهو إنسان مستقل، بهويته المتمايزة عن غيرها، له رسالته ورؤيته للحياة، منها تنبثق غاياته، وبها تتحدد وسائله. فالباحث بناء على ذلك لا يظهر إلا من خلال هويته التي هي مزيج متكامل من أبعاد ذاتية وأسرية ووطنية وعقدية وإنسانية. تأسيسا على ما سلف، فإن إنسانا يعاني أزمة هوية بدرجاتها المتفاوتة، بين تناقض لمكونات الهوية الوطنية، أو محاولات محو الهوية، وكلتا الحالتين موجدتان في العقل الجمعي الفلسطيني، لا يمكنه أن ينسجم مع المعارف الأخرى أو أن ينفتح عليها، لأن الذات غائبة ولو جزئيا، وبما أن الذات غير متوفرة، فالهوية كذلك أيضا. وكون الهوية هي وعاء المعرفة، فإن الفلسطيني يعاني من هشاشة ذلك الوعاء المعرفي.
في هذه السطور محاولة لتقديم تصور واضح حول ارتباط أزمة الهوية بضعف البحث العلمي والإنتاج المعرفي في فلسطين، آخذين في الاعتبار أن أزمة الهوية التي يعاني منها الفلسطيني بدرجات متفاوتة، هي نتاج حقبة استعمارية إسرائيلية ما زالت قائمة، مؤثرة بشكل مباشر على مقومات تلك الهوية، أو بشكل ضمني غير مباشر من خلال خلق أجواء داخلية مأزومة، تقود نهاية إلى تفكك الرؤية والذات الفلسطينية، وتبلورها على شكل تجمعات فئوية ضيقة، تجعل من الانفتاح على معرفة أخرى ضربا من الضعف أو التآمر، بحيث تصبح أزمة الهوية ميلادا لأزمة تواصل تؤثر سلبا على الإنتاج و التبادل المعرفي.
وفي محاولة من الباحث لتوضيح شكل وطبيعة العلاقة بين الهوية والانتاج المعرفي، فإنه يسعى لفحص فرضية أساسية مفادها: أن الهوية تتمثل في ثلاثة أطر، تبدأ بإطار الفرد كذات مستقلة وتمثل هويته الشخصية المتمايزة عن غيره بشكل أو بآخر، وتنطلق نحو الهوية المجتمعية التي تصبغ مجتمعا بعينه بقيم وسلوكيات ومحددات ونمطا معرفيا، ومنظومة حياة مختلفة عن المجتمعات الأخرى، لتصل إلى الهوية الإنسانية، التي تلتقي فيها هوية الأفراد والمجتمعات عند قضايا إنسانية تغيب فيها حدود المجتمع والذات. وكلما اكتملت باحكام أحد هذه الأطر، تشكل لدينا وعاء معرفيا يمثل الأساس الذي من خلاله يمكن الوصول إلى الفرد مالك المعرفة، ومن ثم مجتمع المعرفة، وصولا إلى المعرفة الانسانية.
انطلاقا من ذلك، يمكن الافتراض، بأن أحد معوقات الانتاج المعرفي الفلسطيني، يأتي كنتيجة تلقائية لغياب الوعاء المعرفي المتين (الهوية)، وخاصة حين الحديث عن هوية الفرد والمجتمع والانسان، فاعتمادا على أدبيات سابقة عديدة، يمكن الاستنتاج بأن الفلسطيني كفرد ومجتمع يعاني أزمة هوية، بما يعنيه ذلك من تبعات على:
أ- معرفة المواطن الفلسطيني لماهية ما يعرفه، أو ما يجب أن يعرفه، وبالتالي موقعه في إطار المجتمع.
ب- معرفة المجتمع لماهية ما يعرفه، أو ما يجب أن يعرفه، وكيف يسخره في خدمة مجتمعته في المجمل، وبالتالي موقعه في إطار الانسانية.
ت- معرفة الإنسان لماهية ما يعرف أو ما يجب أن يعرف، وكيف يسخره في خدمة الإنسانية، وبالتالي موقعه في إطار الكون.
الاختلاف بين الأطر الثلاثة للهوية ممكن جدا، لكنه سيكون تمايزا لا تناقضا، حين يقوم على أساس التواصل وتبادل المعرفة، لا على أساس فرض الرؤى، خاصة في حقل العلوم الإنسانية.
تأسيس مفاهيمي
الهوية
بما أن أحد المفاهيم التي تعالج في هذا البحث ضمن فحص الفرضية هو الهوية، فمن المفيد التعريج على هذا المفهوم كتمهيد لمعرفة علاقته بالانتاج المعرفي. ولذلك لن يكون الطرح هنا في إطار التعريفات العديدة والمتمايزة لهذا المفهوم، وإنما بتجاوز هذه المرحلة التي عولجت في ثنايا أدبيات سابقة عديدة،[1] والانطلاق نحو توصيف الهوية اعتمادا على أكثر التعريفات إيضاحا لذلك المفهوم كعامل مؤثر في بناء مجتمع المعرفة.
من بين هذه التعريفات ما طرحه المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي حين اعتبر أن الهوية عبارة عن "منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي، وتتميز بوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصية الإحساس بالهوة والشعور بها. فالهوية هي وحدة المشاعر الداخلية، التي تتمثل في وحدة العناصر المادية، والتمايز، والديمومة، والجهد المركزي. وهذا يعني أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة، التي تجعل الشخص يتمايز عمن سواه، ويشعر بوحدته الذاتية." [2]
ميكشيللي، يشير بوضوح في إطار نقاشه للعديد من التعريفات التي وضعها مفكرون غربيون، إلى أنه يمكن النظر إلى الهوية كمركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي، وهنا يحذر ميكشيللي من إضفاء صفة القداسة على الهوية فتتحول إلى عقبة أمام عملية التقدم التي لا تتحقق إلا بالتفاعل المستمر مع معطيات العصر وحاجات الانسان.[3]
تبيّن في الفرضية أن الباحث يرى الهوية في ثلاثة أطر أو دوائر، هي ذات الفرد ومجتمعه وإنسانيته. عموما؛ فإن الكثير من الباحثين الاجتماعيين، اعتبروا أن الهوية تدور في دوائر ثلاث، وإن اختلفت هذه الدوائر حسب وجهة نظر راسميها ويمكن الإشارة هنا، إلى أن العديد ممن عالجوا هذه الموضوعة أشاروا الى هذه الدوائر المتداخلة:[4]
- دائرة الفرد ضمن مجموعة واحدة، باختلاف أنواع هذه المجوعات، بحيث يتمايز الفرد عن ذويه من نفس المجموعة بهوية خاصة.
- دائرة المجوعة المتمايزة ضمن الأمة.
- دائرة الأمة المتمايزة بين الأمم الأخرى.
الباحث هنا لا يختلف مع هذا التوزيع لدوائر الهوية، فهو يرى أن المجال مفتوح للحديث عن دوائر أخرى عديدة أكثر تفصيلية ودقة، بحيث تصبح كل دائرة اجتماعية تحيط بالفرد تمثل هوية خاصة، بدئا بالفرد مرورا بالأسرة والقبيلة والبلدة والمدينة الخ.. ولذلك ارتأى الباحث أن التقسيم الأساسي لا بد له أن يشير الى الفرد والمجتمع والانسانية.
وهنا يمكن القول أن الهوية في أي من الدوائر الثلاث لا تتضح إلا من خلال الاحتكاك بالمحيط والانفتاح عليه والتفاعل معه في شتى المجالات. فصفاتك المميزة كفرد (هويتك) لا يمكن أن تظهر دون معرفة الآخر. أي أنه لا معنى لـ الأنا في ظل غياب الآخر. كما أن المجتمع باختلاف حجمه وأسس تكونيه، لا يمكن أن يظهر هوية مشتركة دون أن يتفاعل مع المجتمعات الأخرى، وكذا الهوية الانسانية بمعناها المترابط، لا يمكن أن تظهر إلا في إطار الانفتاح على القضايا الإنسانية الأبعد من حدود الفرد والمجتمع والأمة، وليس المقصود هنا الاهتمام والانفتاح على القضايا التي تمثل قواسم مشتركة فقط، كالبيئة والطاقة وغيرها، وإنما بالوصول الى مرحلة التجاوب الانساني مع القضايا التي ليس لك اتصال مباشر معها، كالمشاكل الخاصة التي تعاني منها بعض المجتمعات من فقر وأمراض.
بإسقاط ما سبق على الواقع الفلسطيني، فلنا أن نتحدث عن هويات ثلاث، كلما حقق الفلسطيني دائرة منها، استطاع أن يوجد لنفسه الوعاء المعرفي الخاص، الذي يستوعب انتاجها المعرفي. علما أن تحقيق أي من الدوائر الثلاثة التي وضعها الباحث، لا يأتي بالضرورة في تطور متتابع، فهناك إمكانية لأن يمتلك فرد ما هوية إنسانية، فيما هويته الوطنية (في إطار المجتمع) غائبة أو مغيبة، وهذا ما يفسر لنا أحيانا، بعض النماذج المبدعة معرفيا رغم أزمة هويتها في حدود المجتمع.
أزمة الهوية الفلسطينية عنوان واسع عائم، يقصد منه عادة الهوية الفلسطينية للمجتمع الفلسطيني، بينما يمكن للفلسطيني أن يحقق هويته الذاتية والانسانية، حتى لو تعرضت هويته الوطنية للطمس أو التشويه بفعل عوامل عدة. فحين يحصر الفلسطيني مفهوم الهوية في إطار عناصرها المتأثرة لا محالة بوجود الاحتلال، مغيبا عناصر أخرى يمكن الحفاظ عليها رغم ظروفه الموضوعية، فإن حالة من التأزم ستشهدها هوية الفلسطيني بأبعادها الثلاثة.
البحث ينطلق من كون أزمة الهوية الفلسطينية أمر قائم، وهو بذلك إذ يسلم بأن الفلسطيني تموضع في إطار هوية مجتمعية تعرضت لصنوف الاعتداءات، يعتمد على بحوث ودراسات وتحليلات سابقة، ساقت لنا ملامح الاعتداء على الهوية الوطنية الفلسطينية. لذلك لن يجعل من أزمة الهوية موضوعا تفصيليا للنقاش في هذا البحث، بقدر استعماله كمدخل في معادلة الانتاج المعرفي والبحث العلمي.
برأي الباحث، فإن أكبر المشاكل هي كون الفلسطيني لم ير للهوية سوى بعدا واحدا، وبتجاهله للبعد الأول والثالث، وقع في شرك غياب الوعاء المعرفي الذي قد يكون معينا في استرجاع البعد الثاني للهوية.
المعرفة- الإنتاج المعرفي
ثاني المفاهيم في معادلة البحث الرئيسية هي المعرفة، وللمعرفة نطاقات متعددة، نوقشت كثيرا وثار الجدل بشأنها، إلا أن الكثير من المفكرين التقوا على جملة من العناصر التي تشكل أعمدة مفهوم المعرفة، وجملة أخرى من المقومات، التي تؤسس لبناء مجتمع معرفي.
من خلال هذا التوضيح للمعرفة، يظهر من بين السطور دلالات واضحة على ارتباط الهوية بالمعرفة ارتباطا وثيقا، فحين يشار الى أن المعرفة في واحدة من مراحلها هي تمكين الأفراد والمجتمعات، فهي تتناسب مع توزيع الهوية إلى دوائر مختلفة، بحيث تكون الهوية الفردية وعاء يستوعب معرفة تمكّن مدركها من السيطرة على الموارد المادية والمعنوية، وعلى نفس المنوال يمكن النظر إلى الهوية الجماعية، ببعديها المجتمعي والانساني.
كما أنه حين يشار إلى أن جزء أساسي من أهداف المعرفة، هو التحكم والتمكين، وتحقيق الذات، فإن المنطق يشي بأنه لا مجال لتحقيق الذات إن كانت مجهولة، والذات هنا هي الهوية، فالأصل ابتداء معرفة الذات وإدراك الهوية، ومن ثم يمكن البحث في إمكانية تحقيقها. لكن كيف يمكن أن يستقيم هذا الطرح، أليس تناقضا هو ادعاء ارتباط تحقيق الذات بمعرفتها، أوليست معرفة الذات هي نتيجة لتحققها، وليس العكس؟ الإجابة أن معرفة الذات لا تعني بالضرورة أنها ذات محققة، أو هوية مدركة، وإنما قد تعني من جملة ما تعنيه، وعي بماهية الهوية، تكون ممهدا نحو تحقيقها.
بناء على ما ورد، فإن تواضع الإنتاج المعرفي أو غيابه فلسطينيا، لا يأتي كتابع لغياب القدرة على الانتاج، أو عجز في مواكبة العصر علميا ومعرفيا فقط، بل هو أيضا نتاج عيش الفلسطيني كجزء من المحيط العربي بعيدا عن النسق الحضاري الانساني، من حيث المساهمة، كونها لا تنتسب له من حيث المشاركة فيه، بحكم فقدانها المؤشر - الهوية-.[6]
مدخل فلسفي
الهوية كوعاء للمعرفة
في مقدمة البحث، تمت الاشارة إلى أهمية الهوية كإطار للإنتاج المعرفي والبحث العلمي، كون الباحث هو ذات له سماته المتمايزة عن غيره، والتي تمثل بشكل ما وعاء يستوعب ما ينتجه من معارف أو ما قد يتلقاه من معارف أخرى، وهنا يتكشف أن للهوية وظيفتين على صعيد تأسيس مجتمع المعرفة، أو تطوير الإنتاج المعرفي والبحث العلمي:
الأول: هوية تمثل عنوانا للانتاج المعرفي الخاص، تكون في كثير من الأحيان جزء من ذلك الإنتاج المعرفي، فإذا اعتبرنا أن المعرفة رسالة، فإن إيصالها للآخر أيا كان يعني أن هناك مرسل. المرسل هو الباحث، في حال غياب هويته، فإنه سيفقد القدرة على الارسال، كونه غائب.[7]
وهنا الافتراض جدلي، بأن هناك باحثا قادرا على الإنتاج، لكنه غائب حين إيصال إنتاجه للآخر، لكن بدراسة أكثر عمقا سنجد أن فاقد الهوية لا يمكن أن ينتج بالأساس، لماذا؟ لأن الانتاج المعرفي -وفي حالتنا المرتبط بالبحث العلمي- قائم على أساس معرفة الباحث لدوره ورسالته وأهدافه. كما أن جهة بلا هوية، هي جهة فقدت القدرة على البحث، كونها فقدت البوصلة في تحديد مكانها ودورها في كل الدوائر المحيطة بها، بدئا بالأسرة وصولا للدائرة الكونية.
الثاني: هوية تمثل عنوانا لاستقبال نتاج الآخر من معارف، بمعنى الانفتاح على معارف المجتمعات الأخرى، ولا يمكن لمثل هذا الأمر أن يتم في حالة غياب الهوية، فالانفتاح هو انفتاح الذات على الآخر، أفرادا ومجتمعات، وإن كانت الهوية هي من تمثل الذات، فإن غيابها يعني غياب الذات المنفتحة على ذلك الآخر.
أحد تعريفات المعرفة يشير بوضوح الى أن السياق يمثل عنصرا مهما من عناصر تشكيل المعرفة،[8] وغالبا ما يكون للسياق دوره في تحديد ملامح تلك المعرفة وإكسابها سمات خاصة، تجعل من النظر الى المعارف عموما ضمن دائرة الصواب والخطأ أمرا غير متاح، وخاصة في مجال المعارف الإنسانية، فما هو صواب ضمن سياق معين، هو عين الخطأ إذا ما نظر له في سياق مختلف.
السياق في نهاية المطاف هو أحد التعابير الإجرائية لمفهوم المعرفة المجرد، فهو يمثل الزاوية التي ينطلق منها منتج المعرفة أو الباحث. الزاوية تعني من جملة ما تعنيه المنطلقات الفكرية والرؤى والمبادئ والثقافة والعادات والتقاليد والحاجات والزمان والمكان، وفي مجملها هي مقومات للهوية. فمن يعاني أزمة هوية، هو في حقيقة الأمر فاقد لمقوماتها التي تمثل سياق المعرفة. بوضوح أكثر؛ إن من يفتقد للهوية، يفتقد لنقطة البداية في مسيرته نحو إنتاج المعرفة، وعلى أقل تقدير سيكون فاقدا للأساس الذي سيبنى عليه مجتمع المعرفة.
الطرح السابق هو ما يفسر قدرة شخص ما على المساهمة في إنتاج المعرفة في مجتمع ما وفقدانه لتلك القدرة في مجتمع آخر، فهو في المجتمع الذي فقد فيه القدرة لم يكن ينطلق من سياق واضح المعالم، بمعنى غموض نقطة البداية لديه، وغياب الحافز. كما أن ذات الطرح يفسر لنا إنتاج شخص ما للمعرفة في مجتمع بعينه، فيما شخص آخر غير مساهم في ذات المجتمع؛ والسبب أن الأول امتلك بعض العناصر المكونة للسياق كالفكر والمبدأ، والتي تقلل من أهمية بقية العناصر كالزمان والمكان.
وهذا ما يمكن الاستفادة منه فلسطينيا حين السعي للتقليل من آثار الاحتلال على الانتاج المعرفي، عبر تكريس السياق المتحرر من ظروف الزمان والمكان. إذ كلما استطاع الفرد والمجتمع الانطلاق في مسيرة بناء المعرفة من سياقات مختلفة ضمن اطار جامع، كلما امتلكوا القدرة على انتاج معارف متنوعة تتميز بالثراء.
غياب تعدد السياقات أيضا لا يؤثر فقط على الانتاج المعرفي فقط، وإنما على التلاقح المعرفي، أو الانفتاح على المعارف الأخرى، فالباحث ضمن سياق واحد أو باني مجتمع المعرفة من زاوية نظر واحدة هو فاقد لأسس التواصل مع الآخر أيا كان، لأن المعارف المتباينة بالنسبة إليه دائرة ضمن معادلة صفرية.[9]
وارتباطا بما تمت الإشارة له حول دوائر الهوية الثلاثة من وجهة نظر الباحث، من هوية الفرد إلى المجتمع وصولا للهوية الانسانية، فإن القول بتمثيل الهوية وعاء للمعرفة يعني أنه كلما اتسع ذلك الوعاء كلما كان أقدر على استيعاب معارف أكثر، وهنا يمكن التوصل إلى أن الفرد الذي يعيش بهوية دائرتها لا تتجاوز ذاته، فإن مقدرته على الإنتاج المعرفي أو تبادل المعرفة أقل بكثير من فرد يعيش بهوية دائرتها تضم الانسانية بمجملها، فنطاق المعرفة واسع باتساع الدائرة الإنسانية.
إشكالية الإنتاج المعرفي الفلسطيني في ضوء ملامح أزمة الهوية
ما تم نقاشه سابقا كان في إطار نظري عموما، ويمكن الاستدلال عليه في التجربة الفلسطينية بكثير من المشاهد التي تبين أزمة الهوية كعامل مثبط للانتاج المعرفي. وكما تمت الإشارة في مقدمة البحث إلى سطحية النظر لاعتداءات الاحتلال الإسرائيلي كاعتداء ظاهري من سلب للأراضي وعمليات اجتياح واغتيال وأسر.. الخ، فإن البحث سيتضمن إشارات إلى اعتداءات أخرى لا يدعي أنه الطرح الأول لها، لكنه يزعم بأنه الطرح الأول لها في اطار تأثيرها على الإنتاج المعرفي الفلسطيني.
تقليديا، دار النقاش حول أثر الاحتلال في إعاقة مسيرة البحث العلمي والمعرفة بالارتكاز على على قضايا الاعتداء على المؤسسات المدنية ذات الصلة بالانتاج المعرفي، من مؤسسات بحثية وجامعات ومدارس وغيرها، وهي قضايا مهمة دون أدنى شك. لكن اقتصار النقاش ضمن هذه الرؤية وتهميش عوامل أكثر عمقا، يجعل من ايجاد الحلول أمرا صعب المنال.
فبالرغم من أهمية المشاكل المتداولة تقليديا، إلا أن البحث في ما هو غير ظاهر -لغير الباحثين في هذا المجال- ومحاولة الخروج بحلول، يمكّن بدرجة كبيرة من تجاوز كل المشاكل التقليدية التي يفرضها أي نموذج احتلالي. فالآثار التقليدية الطرح للاحتلال يمكن إيجازها في سياق المكون الموضوعي للهوية (الزمان والمكان) الذي تمت الإشارة له سابقا، فيما الآثار الأخرى التي تقع خارج دائرة الضوء تتعلق بسياق المكون الذاتي من فكر وثقافة ورؤى ومبادئ، وفي حال النجاح بتجنيب تلك العناصر اعتداءات المحتل، فإن السياق الذاتي سيتجاوز الموضوعي، محققا إنجازات معرفية، تدفع نهايةً إلى تغيير الموضوعي لينسجم مع الذاتي. بمعنى أن تصبح الذات محددة لملامح الزمان والمكان، لا أن تتحدد ملامح الذات بظروف الزمان والمكان.
وفي قراءة لأهم الانعكاسات العملية لأزمة الهوية وأثرها على البحث العلمي والإنتاج المعرفي، يمكن نقاش بعض أهم تلك الانعكاسات، والمتمثلة في الآتي:
1- الاغتراب [10]
2- هجرة العقول
3- الفئوية
الاغتراب
الاغتراب كأحد النتائج الملوحظة لغياب الهوية أو تأزمها، له من الآثار على البحث العلمي والإنتاج المعرفي ما يدفع نحو نقاش شكل العلاقة وطبيعتها، فالحديث عن أزمة الهوية كعامل مثبط للإنتاج المعرفي، لا يعني بالضرورة أن تكون العلاقة مباشرة دون متغيرات وسيطة أو متداخلة Intervening Variable إذ أن ضآلة الإنتاج المعرفي أو غيابه كعامل تابع Dependent Variable لأزمة الهوية –العامل المستقل Independent Variable - وفق لفرضية البحث، يأتي في سياق كون الحقبة الاحتلالية التي يعايشها الفلسطيني تمثل العامل الأسبق Antecedent Variable فيما عوامل ومتغيرات أخر تمثل دورا وسيطا ومتداخلا، أو عوامل تابعة ثانوية، في معادلة تضم جملة من العلاقات المركبة.
وتأسيسا على كون الاغتراب يأتي في مكان وسيط بين أزمة الهوية وضآلة الانتاج المعرفي، يمكن الآن البدء في توضيح الكيفية التي من خلالها يؤثر الاغتراب على البحث العلمي والإنتاج المعرفي. إذا كان الاغتراب كما عرفه روسو: " يعني أن تعطي أو أن تبيع، فالإنسان الذي يصبح عبدا لآخر لا يعطي ذاته وإنما يبيعها على الأقل من أجل بقاء حياته"[11]. فإنه و عبر اسقاط مفهوم العبودية على الحالة الفلسطينية لتعبر عن خضوعه للاحتلال الاسرائيلي في ظل غياب قدرة الذات على الاختيار –أحد أشكال أزمة الهوية-، بمعنى غياب قدرته جزئيا على الفعل الطوعي، وحسب روسو على العطاء، يمكن التوصل الى أن العطاء المعرفي سيكون غير متاح ضمن هذه الظروف.
كما أنه من خلال طرح هيجل لمفهوم الاغتراب والذي تمازج لديه مفهوم الاغتراب مع أزمة الهوية، حين أشار إلى أن الوعي ينقسم إلى ذات وموضوع، يتبين أن الانسان حين يجعل من الموضوعي محددا له، فإنه لم يعرف ذاته بعد، وشخص لا يعرف ذاته إلا من خلال الأشياء من حوله، هو فاقد للقدرات الذاتية المولدة للانتاج المعرفي.[12]
طرح هيجل وماركس بتوضيح أكثر، يشير الى أن الاغتراب كنتيجة، يشكل حالة من عجر الفرد أمام المؤسسة التي تؤطر نشاطه، باختلاف مستوى هذه المؤسسة من أسرة إلى مؤسسة دينية إلى دولة، وحين يكون هناك نوع من الاستبداد من قبل تلك المؤسسة تجاه فرد أو جماعة، فإن حالة التهميش والتبعية التي يعانيها الأفراد والجماعات ستتحول إلى شكل من أشكال الاغتراب التي ستترجم نفسها عمليا بالانطواء والعزلة العجز. [13]
الفلسطيني كفرد وكمجتمع، يعاني من استبداد الاحتلال الإسرائيلي وتحكمه بمصيره منذ عقود من الزمن، خلفت شعورا متناميا بالعجز عن التأثير في النظام العام المحيط، وكلما زادت حدة الاغتراب كلما ارتفعت نسبة العجز لتشمل مساحات واسعة من النشاط الإنساني، وهنا تكمن خطورة ما طرحه ماركس وهيجل بإسقاطه على الوضع الفلسطني. فاستبداد الإسرائيلي لن تقتصر آثاره على التهميش والتبعية، بل ستمتد لتؤسس حالة من العجز، وعلى أقل تقدير حالة من الشعور بالعجز، وبالتالي غياب البحث العملي ومن ثم بناء مجتمع المعرفة، فلا يتوقع من فرد أو جماعة تعاني حالة من العجز أو الشعور به، أن تخوض مسيرة بناء مجتمع المعرفة.
قد يخرج أحدهم هنا، ليتساءل ألم يعد هناك مساحة بعيدة جزئيا عن استبداد المحتل بعد أن تم إنشاء مؤسسات فلسطينية تدار بأيد فلسطينية بعد قيام السلطة؟ فكيف نفهم استمرار أزمة الهوية وحالة الاغتراب وآثارهما العكسية على الانتاج المعرفي؟ السؤال مبرر وفقا للطرح السابق، والإجابة عليه يمكن إيجازها في الآتي: بالاستفادة من طرح هيجل وماركس في هذا الموضوع أيضا؛ فحالة الاغتراب ليست نابعة بالمطلق نتاج الاستبداد، وإنما قد تكون في كثير من الأحيان، نتاج غياب القوى المتمكنة التي تحمي المجتمع من الفوضى.[14]
في الحالة الفلسطينية، خرجت إسرائيل جزئيا من بعض الأراضي الفلسطينية، وحلت مكانها سلطة فلسطينية بقيادة شخصيات وطنية معروفة، ومع ذلك لم يخرج الفلسطيني من حالته المأزومة. من بين الأسباب المفسرة لتلك الحالة، أن اسرائيل بالتوازي مع خروجها كقوة مستبدة وضعت عراقيل عدة أمام تشكيل كيان فلسطيني يتمتع بالقوة والجاهزية لحفظ المجتمع من التناثر بين ثانيا الفوضى أمنياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً الخ..
وهذا ما عايشه كل فلسطيني في مرحلة ما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية وخاصة في العقود العشرة الأخيرة، والتي باتت فيها الفوضى سمة الشارع الفلسطيني، مكرسة ومعززة لحالة من أزمة الهوية، والاغتراب متعدد الأوجه. وهنا بقي الانتاج المعرفي يراوح مكانه مع بعض التحسن الطفيف الذي جاء بقوة الدفع من بعض المؤسسات الفاعلة، والتي لم يلق إنتاجها الاهتمام المطلوب بما يساعد على تجاوز مشكلة المجتمع الفلسطيني حتى بعد مرحلة تشكيل السلطة الفلسطينية.
هجرة العقول، قراءتان متمايزتان
التعليقات (0)