مواضيع اليوم

أزمة النيل

بوشعيب دواح

2010-05-22 20:21:44

0

لنهر النيل حضور في كل ما يتعلق بمصر من أدق تفاصيل الحياة المادية إلى نصوص الأدب وكلمات الأغاني، ويعكس ذلك حقيقة ارتباط الحياة في مصر بهذا الشريان الحيوي مرورا بكل العصور والحضارات التي تعاقبت على أرض مصر وكان قيام أغلبها وازدهاره مرتبطا بالنيل متلونا بلونه. وللنيل اليوم دور محوري في الاقتصاد المصري فمياهه عماد الزراعة المصرية ومصدر جزء هام من غذاء الشعب المصري وحوله تدور حركة سياحية نشطة كما أن مياهه مصدر لتوليد الطاقة الكهربائية حيث تعتبر محطة توليد السد العالي أكبر محطة مائية لتوليد الكهرباء في افريقيا.

إلا أن النيل مصدر الحياة بدأ بفعل تداخل مطامح دول منبعه مع "دسائس" دولية وإقليمية يتحول إلى مدار صراع لاحت نذره كأوضح يكون مع إقدام دول المصب مؤخرا على توقيع اتفاقية في عنتيبي بأوغندا لتوزيع الحصص بالتساوي بين كل دول حوض النيل.
وهي اتفاقية تنقض اتفاقياتين سابقتين مستقرتين ومعترف بهما دوليا، ما جعل مراقبين يعتبرون الخطوة "أول طلقة" في حرب مياه حقيقية لما يمثله من مس بالحقوق المكتسبة والتاريخية المصرية السودانية في مياه النيل، محذرين من أن اتفاقية عنتيبي الأخيرة تجر المنطقة إلى حروب مائية بعد أن بات الحديث واضحًا عن فصل مصر والسودان عن بقية دول الحوض ولجوء دول المنابع إلى توقيع منفرد على اتفاقية لا تتضمن استجابة للمطالب المصرية والسودانية، غير مستبعدين وجود تحريض من دول خارجية كإسرائيل باتجاه تصعيد الأزمة في حوض النيل.

وإذ مثلت اتفاقيتا العام 1929 ثم العام 1959 لفترة طويلة مصدر استقرار علاقات دول حوض النيل والتفاهم حول تقاسم مياهه دون مشاكل تذكر فإن الاتفاقيتين ذاتهما أصبحتا ذريعة دول المنابع لمراجعة حجم أنصبة كل الدول والتي تعني أساسا تقليص نصيبيْ دولتي المصب السودان ومصر بشكل يلحق أبلغ الضرر بمصالحهما.

وتعود جذور محاولات تقنين تقاسم مياه النيل وتنظيم مياه روافده إلى سنة 1891 حين أبرمت بريطانيا باسم مصر والسودان اتفاقا مع إيطاليا التى كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت تعهدت بمقتضاه الحكومة الإيطالية بالامتناع عن إقامة أية أعمال أو منشآت على نهر عطبرة يكون من شأنها التأثير بدرجة محسوسة على مياه نهر النيل.

وفي 1902 أبرمت بريطانيا نيابة عن مصر والسودان اتفاقا مع أثيوبيا تعهدت الأخيرة بمقتضاه بعدم القيام بأعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو السوباط تؤدي إلى التأثير في مياه النيل إلا بعد موافقة الحكومة البريطانية والسودان.

وفي 1906 أبرمت بين بريطانيا ممثلة للسودان، والكونغو اتفاقية تلتزم بمقتضاها الكونغو بعدم إقامة أي منشآت بالقرب من -أو على- نهري السمليكى وتانجو من شأنها أن تقلل من المياه التي تصب في بحيرة البرتا بدون موافقة حكومة السودان.

وفي 1925 أبرم بين إيطاليا وبريطانيا اتفاق يتضمن اعتراف إيطاليا بالحق المسبق لمصر والسودان في مياه النيل الأزرق والأبيض وتعهدها بألا تقيم عليهما أو على فروعهما أو روافدهما أي إنشاءات من شأنها أن تؤثر تأثيرا ملحوظا في المياه التي تصل إلى النهر الرئيسي.

أما في 1929 فكانت "أم الاتفاقيات" حول النيل جميعا، حيث أبرمت بين مصر وبريطانيا نيابة عن السودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا وأقرت بريطانيا بمقتضاها بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل واعتبار المحافظة عليها مبدأً أساسيا، كما تقرر عدم إقامة أو إجراء أية أعمال بخصوص الري أو توليد الطاقة على النيل وفروعه أو البحيرات التي ينبع منها والتي قد تمس بأية صورة مصالح مصر، سواء بتقليل كمية المياه أو تعديل منسوبها أو طريق وصولها إلا باتّفاق مع الحكومة المصرية، كذلك تقرّر أن يكون لمصر الحق في مراقبة مجرى النيل ومنبعه إلى مصبه. وقد حدد هذا الاتفاق نصيب مصر بـ48 مليار متر مكعب سنويا ويعد ذلك من الحقوق المكتسبة لمصر.

كما أبرمت مصر اتفاقا مع بريطانيا نيابة عن أوغندا بخصوص إنشاء سد على شلالات "أوين" لتوليد الطاقة ولرفع مستوى المياه في بحيرة فيكتوريا كي تتمكن مصر من الاستفادة منها وقت الجفاف على أن تدفع النفقات اللازمة وتعويض الأضرار التى تصيب أوغندا من جراء ارتفاع منسوب المياه في البحيرة.

كذلك تعد سنة 1959 تاريخا فارقا في تنظيم تقاسم مياه النيل حيث شهدت هذه السنة إبرام اتفاقية أملتها الظروف المستجدة متمثلة في استقلال السودان وانفصاله عن مصر أي زيادة عدد دول الحوض وتعد هذه الاتفاقية مكملة لاتفاق 1929 وتميزت بطبيعتها التفصيلية، عاكسة هاجس سد ذرائع الخلاف الممكنة حول مياه النيل. ونصت على الاعتراف بالحقوق المكتسبة للدولتين على أساس 48 مليار متر مكعب لمصر سنويا فضلا عن الزيادة التى تحققها المشروعات الجديدة لضبط النهر وذلك مقابل 4 مليارات للسودان.

وتتولى مصر بموجب الاتفاقية الجديدة إنشاء السد العالي عند أسوان كأول حلقة من سلسلة مشروعات التخزين المستمرة لمياه النيل، على أن تتولى السودان إنشاء خزان الروصيرص على مياه النيل الأزرق، وغيره من المشروعات الضرورية لاستغلال السودان لنصيبه من مياه النهر.

كما نص الاتفاق على أن يتم توزيع الإيراد المتحصل بعد إنشاء السد بين مصر والسودان والمقدر بـ84 مليار متر مكعب على النحو التالي: تطرح بداءة الحقوق المكتسبة لمصر والسودان وفاقد التخزين المستمر في السد العالي ثم يوزع الصافي المقدر بـ22 مليار متر مكعب بنسبة 14.5 مليار لمصر و7.5 مليار للسودان، وإذا زاد الصافي عن 22 مليار يوزع صافي الزيادة مناصفة بين الدولتين. وتلتزم الحكومة المصرية بدفع مبلغ 15 مليون جنيه مصري كتعويض شامل عن الأضرار التي تلحق بالأموال السودانية بسبب إقامة السد العالي. كما أقرت الاتفاقية مبدأ التعاون بين مصر والسودان في مشروعات استغلال المياه وذلك بالاشتراك في النفقات واقتسام العائد طبقا لجملة من الأسس والضوابط منها قيام السودان بمشروعات زيادة إيراد النيل لمنع المياه الضائعة، على أن يوزع العائد بالتساوي وتتحمل الدولتان النفقات بالتساوي.

وتقوم السودان بالسماح لمصر باستخدام المياه اللازمة للقيام بالمشروعات الضرورية لزيادة عائد النهر على أن ترد مصر نصيب السودان بعد أن تفي مصر نصيبها فى تكاليف المشروع. ويتم إنشاء جهاز مشترك من الدولتين للقيام بأبحاث ودراسات متصلة بضبط النيل وزيادته. وآخر تلك الأسس توحيد وجهتي نظر البلدين عند الدخول في مباحثات أو اتفاقات مع دول حوض النيل. ولعلّ ما نشهده اليوم من تطابق في وجهتي النظر المصرية والسودانية حول المشكل الذي أثارته دول المنابع، ومن تنسيق عال ومشاورات مكثفة بين سلطات البلدين هو صدى لهذا الأساس الأخير.

لقد أعادت الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها دول منابع النيل متحدية دولتي المصب إلى الواجهة وبشكل غير مسبوق قضية الخلاف حول مياه النيل وجعلت المراقبين والدارسين يتراوحون بين الماضي بحثا عن جذور الخلاف والمستقبل بحثا في تطوراته وتداعياته الممكنة. ويغوص د‏.‏ مغاوري شحاتة دياب في مواقف الفرقاء المتراكمة إلى حد الآن في محاولة لفهم مفاعيل الصراع وحيثياته، مشيرا إلى أن اثيوبيا كانت دائمة الرفض للمشاركة في كل ما يتعلق بمفاوضات دول حوض النهر واتخذت موقف المراقب في أغلب الاحيان كما أنها رفضت التوقيع علي الاتفاق الاطاري للمجاري المائية العابرة للحدود والذي تم توقيعه عام‏1997‏ ضمن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة انذاك وحتى عندما وقع الرئيس المصري محمد حسني مبارك اتفاقا مع مليس زيناوي سنة ‏1993‏ يتضمن التعاون في ما يتعلق بمياه نهر النيل جمدت اثيوبيا هذا الاتفاق من جانبها‏.‏

‏ويشير إلى أن أديس أبابا تقوم بانشاء سدود على مقاطع من منابع نهر النيل منذ عام‏2002.‏ وغالبا تقوم بفرض الامر الواقع من منطلق أنها المساهم الأكبر في حصة مياه نهر النيل وكذلك بدافع ان لديها مناطق في غرب البلاد تحتاج الي مياه النهر كذلك لحاجتها لطاقة كهرومائية ‏.‏

‏ أما بالنسبة لدول حوض النيل في منطقة الهضبة الاستوائية وهي رواندا ـ بوروندي ـ الكونغو ـ تنزانيا ـ أوغندا ـ كينيا‏، فمواقفها عبر تاريخ النزاع متفاوتة طبقا لظروفها الديموغرافية والاقتصادية والتنموية، فقد تطورت مواقف هذه الدول على النحو التالي‏:‏ بدأت تنزانيا في مطالع الستينات من القرن الماضي رفض الاتفاقات الموقعة بخصوص مياه نهر النيل بما في ذلك الاتفاقات الموقعة بين مصر والسودان.

وأرسل الرئيس جوليوس نيريري رئيس تنزانيا آنذاك رسالة إلى الرئيس عبد الناصر تفيد رفض تنزانيا الاعتراف بهذه الاتفاقات‏. وأمهلت تنزانيا مصر عامين للرد وبالطبع لم يرد عبد الناصر على هذه الرسالة لاعتبارات متعددة من بينها عدم قدرة تنزانيا آنذاك على التأثير في حصة مصر من المياه‏.‏

واتبعت كل من كينيا وأوغندا –حسب ذات الدارس- ما يعرف بمبدإ نيريري في رفض ما سبق توقيعه من اتفاقات بخصوص مياه نهر النيل وتوالت مواقف الرفض تباعا‏، كما أعلنت بوروندي أيضا رفضها التوقيع على الاطار الاتفاقي للمجاري المائية العابرة للحدود الذي اتخذته الجمعية العامة للامم المتحدة عام‏1997‏ وفي المقابل امتنعت مصر عن التصويت على هذا الاتفاق‏.‏

ويلفت د‏.‏دياب إلى أن مواقف هذه الدول الست متفاوتة وهذا أمر واقع، فالكونغو لا يعنيها من قريب أو من بعيد مياه نهر النيل لان لديها فائضا هائلا من المياه في حوض الكونغو، كما ان رواندا وبوروندي تعلنان عن رغبتهما في بيع المياه لمن يشتري، كما أن كينيا لها ظروف أخرى لحاجتها الى مزيد من الطاقة لمشروعاتها الاستثمارية وأن مصالحها مع الدول المجاورة وهي دول حبيسة ليس لها مخرج بحري سوى مواني كينيا مقابل الكهرباء من الماء. أما أوغندا فهي أقرب الدول الى التعاون مع مصر كما شهد بذلك تاريخ البلدين وما تم تنفيذه من مشروعات التعاون الفني والزراعي والمائي‏.‏

وفي المقابل اتخذت مصر والسودان مبدأ التعاون والتفاوض والتوافق لتحقيق صالح جميع دول حوض النهر في مراحل زمنية وحتى الآن، كما أن مصر قد اضطرت سابقا لتقليص التعاون مع الدول الإفريقية إجمالا ليس عن عمد ولكن عن اضطرار تحت وطأة حرب‏1967‏ وما تلاها وحرب‏1973‏ وما تلاها وانغماسها في قضاياها الداخلية وقضايا التنمية الذاتية وكان ذلك دافعا لوجود قوى أخرى بمنطقة دول المنابع‏.‏ ويمضي د‏.‏ مغاوري شحاتة دياب معتبرا أن مصر كانت دائمة الانتباه الى أهمية مياه نهر النيل فطورت منابعه وساعدت مختلف دوله من منطلق الرغبة في التعاون وتبادل المصالح وليس من منطلق الترضية أو فرض الامر الواقع‏.‏ والآن بدأت مرحلة جديدة لا تسير الأمور فيها على نهج منطقي خاصة اذا ما تبدلت المصالح ووجد على الساحة لاعبون دوليون لا يهمهم بث روح التعاون خاصة اذا كان الامر يتعلق بالمصالح العليا للدول وليس هناك أهم من موضوع المياه.

ويذكر الباحث بأن الولايات المتحدة الأمريكية عرضت أكثر من أربعة وعشرين مشروعا ضخما في إثيوبيا منها مشروعات أراض وسدود وكهرباء في بداية الستينات ردا على قيام الاتحاد السوفييتي ببناء السد العالي وها هي مشروعات السدود يتم تنفيذها في أثيوبيا الآن بأياد صينية وشركات اسرائيلية وايطالية.

وينتهي د.مغاوري إلى اعتبار الخلاف حول النيل يرجع الى عوامل تاريخية لا ترتبط بالموضوعية حيث أن التعاون هو الضامن لمصلحة الجميع، وأن الاختلاف هو خسارة للجميع وإن كانت مصر هي الاكثر خسارة وضررا يليها السودان يرجع الخلاف لتفسير غير منطقي لدى دول المنابع بأن مصر والسودان قد وقعتا اتفاقا فيما بينهما لتقسيم مياه حوض النهر عند أسوان عند بناء السد العالي دون الرجوع الى هذه الدول وأنه قد حان الوقت لكي ترد دول المنابع الصاع صاعين لدول المصب!..

إن مختلف التواريخ والمحطات المذكورة آنفا تبين وجود هاجس مستمر بشأن إمكانية اندلاع الخلافات حول مياه النيل ومن ثم كان إغراق الاتفاقيات المبرمة بشأنها في التفاصيل الإجرائية والتحديدات الرقمية للأنصبة، وخصوصا اتفاقيتي 1929 و1959. ومع ذلك وقع المحظور وأطل الخلاف برأسه وبحدة وصلت هذه المرة حد الحديث عن إمكانية اندلاع "حرب مائية". وعلى عكس ما تراه دولتا المصب السودان ومصر ترى دول المنابع أن الاتفاقيتين السابقتين هما سبب الخلاف بما حملتاه من "إجحاف" في تقسيم الأنصبة حسب رأي دول المنابع التي تعتبر اتفاقية 1929 تحديدا اتفاقية بريطانية أساسا راعت مصالح بريطانيا التي كانت منتدبة على مصر والسودان وتطمع في تأبيد استعمارها ولم تراع غير مصالحها لاسيما حاجة الصناعة التي كانت آنذاك تعمل على تركيزها بالبلدين إلى كم كبير من المياه ولا سيما زراعة القطن ومشاريع تحويله.

وتقول دول المنابع اليوم إن ظروفا كثيرة استجدت لجهة عدد السكان وتنامي الطموحات التنموية وازدياد قيمة المياه في ظل الظروف المناخية المتغيرة الأمر الذي يحتم في نظرها مراجعة حصص توزيع مياه النيل. وبغض النظر عن رفض السودان ومصر لهذا الطرح، توجد مشكلة واقعية تتمثل في أن دولتي المصب عدّلتا الكثير من واقعهما ومن برامجهما التنموية ومشاريعهما الاقتصادية وفق الحصتين اللتين تأتت لهما بموجب الاتفاقيات السابقة ومن ثم يغدو من الخطورة بمكان إلغاء كل ذلك وإعادة ضبطه على حصتين أقل بكثير مما كان متوفرا، وهو الأمر الذي يفسر قول مسؤولين سودانيين ومصريين عن الأزمة الجديدة حول مياه النيل إنها: "مسألة حياة أو موت".

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !