أركان التصوف
يقوم التصوف على ركنين أساسيين: أولهما الذكر ، وثانيهما الشيخ المرشد .
حقيقة الذكر : قال الكلاباذي - رحمه الله تعالى - : "حقيقة الذكر أن تنسى ماسوى المذكور، لقوله سبحانه وتعالى : (واذكر ربــك إذا نسيت) [الآية 24/الكهف]) يعني إذا نسيت مادون الله فقد ذكرت الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "سبق المفردون ، قيل : ومن المفردون يارسول الله ؟ فقال : الذاكرون كثيرا والذاكرات" ، والمفرد : الذي ليس له معه غيره . وقال بعضهم : الذكر طرد الغفلة . فإذا ارتفعت الغفلة فأنت ذاكر وإن سكت" .
في الذكر من الفوائد والخصوصيات ما لا يحصى ، وقد عد ابن القيم في (الوابل الصيب) للذكر أكثر من مائة فائدة ذكر منها في الفائدة العاشرة : (أنه يورث الذاكر المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان ، فيعبد الله تعالى كأنه يراه ، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان ، كما لاسبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت .. أ.هـ .
كما ذكر في الفائدة الثانية عشرة والثالثة عشرة : أنه يورث القرب منه ، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه ، ويفتح له بابا عظيما من أبواب المعرفة ، وكلما أكثر من الذكر ازداد معرفة.
وذكر في الفائدة الثانية والأربعين : أن الذاكر قريب من مذكوره ، ومذكوره معه معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق كقوله تعالى : (إن الله مع الذين اتقوا) ، (والله مع الصابرين) ، (وإن الله مع المؤمنين) ، (لا تحزن إن الله معنا) .
وللذاكر مع هذه المعية نصيب وافر ، كما في الحديث الإلهي : "أنا مع عبدي ماذكرني وتحركت بي شفتاه" وفي أثر آخر : "أهلي أهل ذكري وأهل مجالستي .." إلخ .
قال : والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء ، وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي ، وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة ، وإنما تعلم بالذوق ، وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييز بين القديم والمحدث ، بين الرب والعبد ، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود .. إهـ .
وقال الشيخ ابن القيم في : ((الوابل الصيب)) ص 108 وهو يتحدث عن فوائد الذكر لله تعالى ويُعددها : ((الحاديُة والستون من فوائد الذكر : أنه يعطي الذاكر قُوة ، حتى إنه ليفعلُ مع الذكر ما لم يُظن فعلُه بدونه
وقد شاهدتُ من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية ، في سننه ، وكلامه ، وإقدامه ، وكتابته : أمراً عجيباً ، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخُ في جُمُعة أو أكثر ، وقد شاهد العسكرُ من قوته في الحرب أمراً عظيماً)) .
وقال فيه أيضاً في ص 58-59 ((وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى رُوحه يقول: الذكرُ للقلب مثلُ الماء للسمك ، فكيف يكون حالُ السمك إذا فارق الماء ؟ ( انظر الى كلمة قدس الله تعالى روحه التي يصف بها ابن القيم شيخه ابن تيمية ).
وحضرته مرةً : صلًى الفجر ، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ، ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي – أى فطوري – ولم أتغد ، ولو لم أتغد هذا الغداء سقطت قُوتي ، أو كلاماً قريباً من هذا وقال لى مرة : لا أترك الذكر إلاً بنية إجمام نفسي وإراحتها ، لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ، أو كلاماً هذا معناه)) .
فالذكر هو الركن المكين الذي يأوون اليه في سلوكهم ، وهو أساس المقامات كلها والأحوال والأذواق والمواجيد ، والزهد والإخلاص والمراقبة والمشاهدة والمعرفة والولاية والكرامة والخصوصية ، وهو الذي يشعل جمرة الحب في القلوب ويوقد نار المحبة ، ويولد حرارة الاتباع ، والصحبة أساس فيه ، وبالصحبة يتعلم استثمار الذكر وكيفية السير به إلى المذكور سبحانه وتعالى .
قال عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات .. " .
وقال تعالى : {"واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم}"(1) [الآية 28/الكهف]).
قال الحافظ ابن حجر): "لايتعين للذكر شيء مخصوص لايجزىء غيره ، بل كل ماصدق عليه ذكر أجزأ ، ويدخل في ذكر الله تعالى : تلاوة القرآن ، وقراءة الحديث النبوي الشريف ، والاشتغال بالعلم الشرعي" . "فتح الباري" 13 : 23
أنواع الذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال الشيخ ابن القيم في كتابه ((زاد المعاد)) في ( فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر)
وكان النبى صلًى الله عليه وسلًم أكمل الخلق ذكراً لله عزً وجل ، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه ، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة : ذكراً منه لله تعالى . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده : ذكراً منه لله تعالى . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيدُه وحمدُه وتسبيحه : ذكراً منه لله تعالى . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته : ذكراً منه لله تعالى . وكان سكوته وصمته : ذكراً منه لله تعالى بقلبه .
فكان ذاكراً لله تعالى في كل أحيانه ، وعلى جميع أحواله ، فكان ذكره لله تعالى يجري مع أنفاسه : قائماً وقاعداً، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه، ومسيره ونزوله، وظعنه وإقامته )).
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في ((شرح حديث العلم)): ((وفي الحديث المعروف عن النبى صلًى الله عليه وسلًم : ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر)) .
وكان ابن مسعود رضى الله عنه إذا ذكر هذا الحديث قال : أما إني لا أعني القصاص ، ولكن حلق الفقه .
ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال : مرحباً بالموت ، مرحباً بزائر جاء على فاقه ، لا أفلح من ندم ، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالرُكب في حلق الذكر .
ويعني بحلق الذكر هنا : حلق العلم . ومنه قوله تعالى:{(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)}الأنبياء 7.
وقال عطاء الخراساني : في مجالس الذكر مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحجُ، وأشباُه هذا .
وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون فيها العلم، ومعهم فتى شابً فقال لهم : سبحان الله والحمد لله، فغضب أبو السوار وقال : ويحك في أي شئ كنا إذاً؟! كما رواه الإمام أحمد في كتاب ((الزهد))(
وروى الدارمي( ): عن وهب بن منبه قال : مجلس يتنازع فيه العلم أحب إلي من قدره صلاة ، لعل أحدهم يسمع الكلمة فينتفع بها سنة أو مابقي من عمره .
ومن مجالس الذكر أيضا : مجالس العلم التي يذكر فيها تفسير القرآن وتروى فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعلم فيها الفقه في الدين .
ومجالسه أفضل من مجالس ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير ، لأنها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية ، والذكر المجرد تطوع محض( ) .
================================
(2) "فتح الباري" 13 : 23
(1) 37:2
(2) ص17-21
3) ص 316-317 .
(4) في سننه في (باب فضل العلم والعالم) 1 : 95
(5) من تعليقات العلامة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة - رحمه الله - على "رسالة المسترشدين" ص 109 – 111.
التعليقات (0)