إذاً فالهدف من لباس التقوى هو إنقاذ الجسد من الفناء الصوفي وذلك باحتوائه داخل بوتقة الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية؛ مع الإبقاء عليه معزولاً في قبو تلك الكينونة كمجرد شيء من متعلقاتها الشخصية غير الأصيلة، أي كتلك المتعلقات الكمالية المضافة والتي لا تزول الشخصية بزوالها. ولكن عزلاً كهذا لن يتأتى إلا في حضور ذلك الشعور الفطري لدى الإنسان بامتداده الوجودي فيما وراء حدود جسده المادي، إمتداداً إلهياً مقدساً يغرس في لاوعيه إحساسين متوازيين: إحساساً بالعظمة والفوقية على العالم المادي وبالمسئولية الأخلاقية تجاهه في نفس الوقت. إنه ذلك الشعور الذي عبرنا عنه بمصطلح "الربوبية"، وهو الشعور الذي لا يمكن العثور عليه في صيغته النقية "الخام" إلا لدى إنسان النفود (صحراء إبراهيم) ذلك الإنسان الذي لم تنل من أرومته نجاسة الحضارة حتى اليوم.
ربما من خلال هذا التصور يصبح بمقدورنا أن نتفهم بعضاً من تلك الومضات السلوكية البدوية التي ظلت طي الغموض طيلة حقبات التاريخ، والتي طالما دفعت بنا لإساءة فهم هذا الإنسان وقذفه بأبشع التهم كالتوحش والبهيمية والتخلف والرجعية والبدائية والتحجر الفكري والثقافي بل والغرور والعنصرية إلى آخره، ولكن أياً من تلك الاتهامات لم تكن تمثل له استفزازاً حقيقياً يدفعه لتغيير موقفه، لم تكن لتنال من ثقته بنفسه واعتزازه بثقافته وتمسكه المستميت بها. كان ينظر إلينا من عليين بعين الاحتقار والازدراء ونحن نضحك ونقهقه عليه؛ على جوعه وعطشه؛ على صحرائه وخيمته؛ على بعيره وناقته؛ على هجولته وحياته القاسية؛ على أيامه الضائعة بين كثبان الرمال، كان يرمقنا بنظرته الفوقية المتعالية لأنه هو وحده الذي كان يعلم أننا إنما كنا نضحك على أنفسنا؛ على غبائنا وقصر نظرنا، كان وحده يعلم كم هي جوفاء حضارتنا ومهترئة مدنيتنا، كان يدرك حجم الخدعة التي أوقعنا بها أنفسنا فانحدرت بنا إلى هوة لا خروج منها؛ إلى طريق لا رجعة فيه.
نستطيع اليوم أن نتلمس بوضوح ذلك الحنق بل الحقد العميق الذي يثقل قلوب أهل المدينة تجاه ابن الصحراء عندما يظهر ترفعه وتعففه عما بأيديهم، عندما يعتز بفقره على ثرائهم؛ وبخيمته على قصورهم؛ وبناقته على سياراتهم؛ وبرمال صحرائه على جميع أزهار حدائقهم. تنتابهم الغيرة الشديدة من عزته وأنفته وكبريائه وثقته بنفسه مع تجرده شبه الكامل من مظاهر الترف والرخاء، بينما لا يجدون في أنفسهم شيئاً من تلك العزة وذلك الكبرياء رغم البهرجة التي تحيط بهم. يحقدون عليه عندما يركل نعمتهم بقدمه ويبصق فوقها بينما يتقاتلون هم عليها حتى الموت ولا يتردد أحدهم في انتزاعها من فم أخيه. يحقدون عند رؤيتهم لمنظر ذلك الأشعث الأغبر حافي القدمين الذي قد غارت بطنه من شدة الجوع وهو يتعالى على جوعه وعطشه وعذاب جسده دون أن يطأطيء رأسه ويحني هامته ليعمل أجيراً خادماً عند سيد رأسمالي يقدم له اللقمة على طبق المذلة والإهانة والتحقير؛ بينما لا يتردد ابن المدينة أن يستخدم جسد زوجته للحصول على ترقية وظيفية أو علاوة استثنائية.
أما أبرز مظاهر الحقد المدني تجاه ابن الصحراء فتكمن في إصرارهم الشديد على توطينه في القرى والهِجر، هم يعلمون أن الصحراء هي المصدر الوحيد لقوته وعزته وأنفته واستعلائه، هي المصدر الوحيد لكرامته وشرفه وعلو هامته، وأنهم متى استطاعوا إخراجه منها فلن يكون من الصعب بعد ذلك استعباده. ولكن ترى هل سجل التاريخ لهم أي نجاح في ذلك؟
عندما ادعى بن خلدون أن الغاية التي يسعى إليها البدوي هي التحضر والتمدن فإنه كان يطرح مغالطة خطيرة لم يكذبها التاريخ فقط بل إن الواقع المعاش أشد تكذيباً لها، فأفضل طريقة لفهم التاريخ هي من خلال دراسة تداعياته ومخرجاته الحاضرة، من خلال دراسة نماذجه السلالية المتجسدة أمامنا اليوم على أرض الواقع المعاش. إن تلك الخدعة الخبيثة التي سميت بـ "توطين البدو" لم تنطلِ كثيراً على ابن النفود؛ ولم تجتذب إليها من رعاة الإبل الأصلاء عدداً يستحق الذكر؛ خصوصاً من بني عدنان، أما الذين ما لبثوا أن هرعوا نحو تلك الهِجر يستوطنونها ويلهثون خلف فضلات محسنيها فهم الشاوية ورعاة التيوس من الدخلاء والموالي والمعاتيق واللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا يعيشون على أطراف صحراء إبراهيم ويزعمون أنهم قد نزحوا إليها بعد انهيار سد مأرب، ولكنها لفظتهم كما لفظت كل دخيل ولقيط حرب، ولم تحتضن غير أهلها الأصلاء الذين كانوا ومازالوا يفضلون كل حبة من رمالها على الدنيا وما فيها.
لقد ظل نفور البدوي من التحضر والتمدن أحد أكثر سلوكياته إثارة للدهشة والاستغراب من جهة وللحقد عليه من جهة أخرى؛ خصوصاً عندما يصحبه نوع من التعالي؛ وهو تعالٍ غير مبرر من وجهة نظر الكثيرين الذين لم يتمكنوا من فهمه على حقيقته، وغير مقبول من قبل الذين لم يستطيعوا التعايش مع هذه الحقيقة بالرغم من فهمهم لها. إنه ليس تعالٍ على المدينة لذاتها بل على ثقافة الجسد التي تمثلها تلك المدينة، أو بمعنى آخر: إنه لباس التقوى الفطري الذي لا يفتأ يزكي في لاوعيه شعوراً مستمراً بامتداده الوجودي اللامادي، ليس مجرد امتداد وجودي والسلام؛ بل امتداداً فوقياً متسامياً ومقدساً تتجلى آثاره النفسية من خلال طروحاته السلوكية لمفهوم "الكرامة"، المفهوم الذي تنبثق منه وتعود إليه كافة مفرداته الثقافية.
والكرامة -كما حاولت توصيفها سابقاً- هي الجذر اللاشعوري لظاهرة اللباس كأبرز علامة ظاهرية فارقة لدى فصيلة الإنسان (إن جاز التعبير)، فهو المخلوق البيولوجي الوحيد الذي يصر على تغطية جسده ويحاول جاهداً إخفاءه بأنواع الملابس والأقمشة ليس فقط عن أنظار الآخرين بل وعن نظره هو نفسه، وقد حاولت أنطلجة هذه الظاهرة بتشريحي لذلك الشعور اللاواعي الذي يسيطر على نفسية هذا الكائن بأنه يملك شخصيتين متناقضتين: إحداهما بيولوجية تتمثل في جسده الحيواني، والأخرى روحية فوقية متسامية عن هذا الجسد ومترفعة عن عالم المادة بشكل عام والحيوان بشكل خاص، ولكن هذه الشخصية الأخرى (الروحية) هي التي تنزع دائماً إلى التسيد والهيمنة على كينونته الوجودية، وهو ما يظهر في محاولاته الدءوبة للتملص من انتمائه الحيواني (الجسدي)، وما اللباس سوى التعبير الظاهري (الرمزي) عن هذا التملص.
ولكنني توقفت محتاراً عند ذلك التناقض السلوكي الظاهر تجاه هذا الرمز الوجودي (اللباس) من قبل الكائن البشري، فبينما وجدت رعاة الإبل يتشددون في تمسكهم بهذا الرمز؛ وجدت في المقابل ذلك التراخي الواضح من قبل سكان الحواضر في تمسكهم به، بل وأكثر تلك الحواضر تمدناً هي أكثرها تعرياً. أدركت حينها أنني أقف أمام كائنين بشريين مختلفين وليس كائناً واحداً، وأن سر هذا الاختلاف يكمن في تلك القطيعة الوجودية التي لم أعثر على أفضل من مفهوم "الكرامة" للتعبير عنها.
دعوني أعيد صياغة هذا الكلام كالتالي: إن الكرامة هي ذلك الشعور الداخلي بالقطيعة الوجودية بين أقنومي الشخصية الإنسانية (الروح والجسد)، قطيعة نشأت بفضل قناعته اللاشعورية القوية بانتمائه الفوقي المقدس، وبفضل سيطرة هذه القناعة على كينونته الشخصية الوجودية، مما أدى لنزوعه النفسي الشديد نحو التملص من انتمائه الحيواني (الجسدي)، أما اللباس فهو التعبير الظاهري عن هذه القطيعة و –بطبيعة الحال- ذاك التملص. وبالتالي لم يصبح اللباس مجرد علامة فارقة للتمييز بين الإنسان كفصيلة بيولوجية فريدة وبين بقية المخلوقات البيولوجية؛ بل إن بإمكاننا الاعتماد عليه كأداة فرز تصنيفي داخل الفصيلة الإنسانية ذاتها، بإمكاننا من خلاله قياس منسوب الإنسانية لدى المجموعات البشرية المختلفة التي تنتمي جميعها بيولوجياً إلى فصيلة الإنسان.
إن فرزاً كهذا من شأنه أن يضعنا أمام كائنين بشريين مختلفين: كائن يدل تمسكه الشديد باللباس على تملصه الشديد من انتمائه الحيواني، وقناعته الشديدة بامتداده الماورائي المقدس، وأفضل من يمثل هذا النوع من البشر هم رعاة الإبل. أما الكائن الآخر الذي يقف على طرف النقيض فهو المخلوق الحضاري أو المدني، ذلك المخلوق الذي يميل للتعري كلما استغرق في المدنية، والذي فقد من كرامته على قدر ما تخفف من لباسه.
فلنحاول –إذاً- استكشاف أسرار الثقافة العدنانية من خلال دراستنا لمفهوم الكرامة لدى ابن النفود، ولنبدأ من أبرز الانعكاسات السلوكية لهذا المفهوم وهي نفوره الشديد من الحضارة والتمدن، كيف يمكن للمدنية أن تنال من كرامة ابن الصحراء وتنتهك من شرفه؟
إن ثوبه الفضفاض المسدل من كتفه حتى أخمص قدمه، وأكمامه الطويلة التي تغطي ذراعيه حتى الرسغ، وغترته التي تستر كامل رأسه ورقبته لتتدلى حتى أسفل ظهره وبطنه، وإصراره على ألاّ يتخفف من هذه الملابس حتى عندما يبلغ القيظ أشده، لتدل على مدى نفور هذا الإنسان من منظر جسده، ما سبب كل هذا النفور؟ لماذا كل هذه المبالغة في ستر الجسد؟
ذلك هو سر عزته وأنفته وكبريائه، إنه النزوع اللاشعوري للتملص من انتمائه الحيواني لدرجة تجعله لا يطيق مجرد الاعتراف بأن له جسداً بيولوجياً يشبه أجساد الحيوانات. إنه لا يتنكر لجسده بل لتبعات هذا الجسد؛ للحقيقة التي تذكره بأن لشخصيته الوجودية امتداداً بيولوجياً ما يفرض عليه نوعاً من الخضوع –ولو جزئياً- لقانون الحيوان؛ شكلاً من أشكال الانتماء لعالم الحقارة والوضاعة والنجاسة والدونية؛ عالم الحيوان.
إن استماتته في التنكر لهذه الحقيقة تدل على مدى قوة وشدة قناعته النفسية اللاشعورية بامتداده الفوقي المقدس، تدل على مدى إيمانه اللاواعي بعظمة شخصيته الحقيقية ورفعتها وسموها وعلو قدرها أن تنتمي بأي شكل من الأشكال لعالم المادة؛ بل ولأدنى وأحقر أجزاء هذا العالم: الحيوان.
إن جميع تصرفات الحيوان تدور فقط حول إشباع غرائزه البيولوجية، حتى أذكى الحيوانات لا تستخدم ذكاءها إلا في هذا الإطار، بل وأكثر الحيوانات شجاعة وقوة وشراسة كالأسود والسباع يمكن بسهولة ترويضها وتسخيرها واستخدامها كبهلوانات في السيرك فقط من خلال إذلالها بنقطة ضعفها البيولوجي؛ من خلال إغرائها بإشباع شهوة بطنها وفرجها، وذلك أمر طبيعي فالحيوان ليس لديه أي شخصية وجودية أخرى خارج إطار الجسد، إنه جسد محض؛ جسد فقط. أما الإنسان الفطري (العدناني) فالجسد هو أكثر الأجزاء ضآلة في شخصيته الوجودية، بل وأكثرها إثارة للقرف والاشمئزاز ومدعاة للخجل.
لنا أن نتخيل كيف لشخص يخجل من جسده إلى هذا الحد، ويستره بكافة أنواع الأقمشة والأصواف، ويحاول التملص من انتمائه الوجودي له بشتى الوسائل المتاحة، وينفر حتى من مجرد الشعور بخضوعه –ولو جزئياً- لنداء غرائزه البيولوجية، كيف له بعد ذلك أن يتنازل عن شيء من وقته أو فكره أو عواطفه أو إرادته الحرة أو أي من عناصر كينونته الوجودية الأخرى في سبيل خدمة الجسد وغرائزه البيولوجية. كيف يمكن لشخصية تهيمن على كينونتها الوجودية مشاعر الربوبية والعظمة والتعالي والترفع عن عالم الحيوان أن تسلك بعد ذلك مسلك الحيوان في خضوعه الكامل لغرائزه البيولوجية.
إذا أردت أن تهين البدوي وتذله فاخلع عنه جزءً من لباسه واجعله يرى بعض جسده –الذي يشبه أجساد الحيوانات- عارياً أمامه فيشعر بنوع من القرابة الوجودية بينه وبين الحيوانات، أما إذا أردت أن تعرضه لأقسى وأبشع أنواع المذلة والمهانة فاحمله على أن يعمل عملاً يخالف إرادته الحرة مهما كان مردود هذا العمل على غرائزه البيولوجية، وذلك مثلما يفعل الأسد في حلبة السيرك (على سبيل المثال)، أو كما يفعل كلب الحراسة أو حمار الأسفار إلى آخره. تلك هي المذلة التي يمكن أن تقع عليه عند هجرته إلى المدينة، والتي يمكن اختزالها في مصطلح "السخرة".
عندما تمحورت شخصية الحيوان حول ذاته البيولوجية بات من الممكن استلابه إرادته الحرة وتسخيره لخدمة كائن من كان وترويضه للقيام بأي عمل مهما كانت بشاعته في حال التمكن من احتواء تلك الذات بيولوجياً فقط وفقط بيولوجياً، بمعنى أن الحيوان لا يتحرك إلا بوازع من غرائزه البيولوجية: الجوع والجنس والبقاء والتكاثر، فالأسد –مثلاً- لا تجده يتحرك بحثاً عن الفريسة إلا إذا كان جائعاً، أي أنه لا يتحمس كثيراً لاختراع تقنية تمكنه من تخزين الطعام لأوقات الحاجة، ولا يضيع وقته كثيراً في التفكير بكيفية حصوله على وجبة اليوم التالي، هو لا يتحرك إلا عندما تخبره معدته بأنه يجب أن يملأها الآن. والحيوان بصفة عامة لا يتحرك نحو ممارسة الجنس إلا في موسم التكاثر عندما تحرقه الشهوة وتسيطر عليه لدرجة لا يستطيع مقاومتها، هو لا يمارس الجنس بغرض المتعة فقط؛ بل بدافع الضغط الغرائزي الذي لا يقبل المدافعة. والحيوان لا يقاتل –عادة- إلا عندما يتعرض للاعتداء، ولا يهرب إلا عندما يواجه خطراً حاضراً، فإذا ما أشعرته بالأمان تجاهك يصبح بإمكانك أن تأمنه أنت أيضاً. لذلك فإنه في سبيل ترويض الحيوان يلزمك الاستجابة لنداء غرائزه الآنية في أوقاتها، فالأسد –على سبيل المثال- إذا جاع جوعاً شديداً فإنه يأكل مدربه في الحال إذا لم يستجب مدربه لنداء غريزة الجوع لديه في وقتها، وإذا ما ضربه مدربه ضرباً مبرحاً جعله يفقد الأمان تجاهه فإنه لن يتردد في مهاجمة المدرب والفتك به دفاعاً عن النفس. ولكن هنالك مخلوق هو أكثر حيوانية من الحيوان ذاته فيما يتعلق بانكفائه على ذاته البيولوجية، إنه الكائن الحضري؛ أو مخلوق المدينة.
يتميز مخلوق المدينة عن الحيوان بميزة فريدة جعلته أكثر قابلية للترويض والاستعباد والاستخدام من قبل الغير، إنها قلقه تجاه فناء ذاته المادية، وهو قلق خصه الله به دون بقية المخلوقات، وجعله أساساً لبناء مدنيته وتشييد صروح حضارته، ولولا هذا القلق لما كان باستطاعة أرباب المدينة تسخير هذا الكائن للعمل في خدمتهم تحت أقسى الظروف التي لا يستطيع حتى الحيوان تحملها، وذلك بعد أن تمكنوا من استلابه إرادته الحرة استلاباً كاملاً لدرجة لم يتمكنوا من بلوغها مع الحيوان.
إن سلوكيات المدني لا تتمحور حول إشباع غرائزه البيولوجية الآنية بل حول قلقه من عدم ديمومة هذا الإشباع، فهو لا يتحرك نحو العمل على تحصيل الطعام بدافع الجوع –كما هو الحال بالنسبة للحيوان- بل بدافع خوفه المستقبلي من الجوع، وهو الخوف الذي لا يفتأ يحفزه على ابتكار المزيد من وسائل تخزين الطعام وجمع الأموال وتكديس الثروات، ومهما تكدست لديه من ثروات فإنه لا يتوقف عن العمل لجمع المزيد منها حتى آخر يوم في عمره، إنه يفعل ذلك لا إرادياً؛ فقلقه العصابي تجاه فناء ذاته المادية أكبر وأعظم من قدرته على مقاومته ومدافعته.
وعلى العكس من إنسان الصحراء الذي تكشفت لنا من خلال مبالغته الشديدة في اللباس حقيقة تلك القطيعة العميقة بينه وبين جسده؛ لم نعثر في المقابل على هذا النوع من القطيعة لدى مخلوق المدينة، وهو أمر لم يظهر فقط من خلال ميل هذا الأخير نحو التعري والتخفف من لباسه، بل ومن خلال جميع عناصر ثقافته: سلوكياته وأخلاقياته العامة، قناعاته، توجهاته الفكرية، عقائده اللاهوتية، أساطيره، وحتى أمثاله الشعبية، والتي تظهر جميعها مدى تعلقه بكينونته البيولوجية وانكفائه على ذاته المادية وقلقه العصابي من فنائها، فهو لا يرى لنفسه وجوداً خارج إطار تلك الذات، ولا تستطيع مخيلته أن تصور له أي شكل من أشكال الوجود خارج قالب المادة.
في أرض كنعان القديمة يستوقفنا ذلك الهوس العصابي لدى المدنيين الأوائل بحفظ جثث موتاهم، فالأهرامات لم يتم تشييدها كقصور بل كمقابر، ولم يبرع المصريون في مهارة كبراعتهم في تحنيط الموتى، وعند زيارتنا لآثار العلا ومدائن صالح والبتراء تصيبنا الدهشة عندما نشهد مدى تراخيهم في بناء مساكنهم التي لم تصمد أمام عوامل التعرية كثيراً؛ في مقابل مبالغتهم الشديدة في تشييد تلك القبور التي نحتوها في الصخر نحتاً والتي لا تزال شاهدة أمامنا حتى اليوم على شدة تعلقهم بأجسادهم الحيوانية لدرجة عجزت معها مخيلتهم أن تصور لهم شكلاً من أشكال الحياة بعد الموت خارج إطار الجسد.
إن خوفه من الموت ينبع من قلقه على فناء جسده المادي، وهو وتر يجيد الكهنة العزف عليه بمهارة، ومن خلاله يستطيعون استعباد هذا الكائن بطريقة هي أكثر سهولة من استعباد الحيوان. إن كل ما يلوح له كوسيلة لخدمة بقاء الجسد وديمومة بقائه حتى فيما بعد الموت ليشكل في نفس الوقت وسيلة طيعة لاستعباده، من هنا ينبع تعلقه الشديد بالأرض كوسيلة لتوفير الأمن الغذائي المستدام، ومن خلال هذا التعلق تمكنت الأرض من استعباد هذا الكائن وتسخيره لخدمتها حتى بات مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل الأرض، وهو استعداد لم يتوفر لدى الحيوان نفسه، فالحيوان يعطي الأرض على قدر ما يحصل منها على ما يشبع حاجاته البيولوجية الآنية، أما الكائن الحضاري فيعطيها حتى من حاجاته الآنية ويضحي من أجلها بشهواته الحاضرة لأنه يرى فيها المصدر المستقبلي بعيد المدى لتوفير الأمن الغذائي المستدام، هو لا يفكر في تلبية نداء غرائزه الآنية وإشباع حاجاته البيولوجية الحاضرة فقط بل ما يقلقه هو ديمومة هذا الإشباع، إنه يرى في فناء جسده فناءً لشخصيته الوجودية ككل، لذلك فهو يعمل جاهداً على إبعاد شبح هذا الفناء عن مخيلته وذلك بانكبابه على توفير أكبر قدر ممكن من مقومات بقاء هذا الجسد لأطول مدة زمنية ممكنة، بل وديمومة هذا البقاء حتى فيما بعد الموت.
من أشهر الأمثال الشعبية الدارجة لدى ذلك الشعب الذي ارتبط اسمه بالحضارة منذ الأزل (الحضارم) هو قولهم: "قع نملة وكل عسل". والنملة في هذا المثل ترمز إلى الضآلة، ليس ضآلة الحجم فحسب بل جميع أشكال الضآلة التي من الممكن تصورها: ضآلة القيمة والمقدار، ضآلة الطبع والسلوك، ضآلة الفكر، ضآلة المبادئ والقيم والأخلاق إلى آخره. فالغاية عندهم هي الاستمرار في أكل العسل دون انقطاع، هي الحرص على ديمومة بقاء هذا الجسد والحيلولة دون قيام أية احتمالية لانقطاع الغذاء عنه مستقبلاً، وهي غاية تبرر عندهم كل وسيلة مهما كانت ضئيلة ووضيعة وحقيرة.
قع نملة وكل عسل، ففي سبيل العسل يصبح مقدساً كل عمل تقوم به، يصبح مقدساً أن تعمل صبياً أجيراً عبداً مسخراً يستخدمك كائن من كان في خدمته كما يستخدم حماره ودابته، يصبح مقدساً أن تبيع عرضك وشرفك وكرامتك فضلاً عن مجهوداتك العضلية والعقلية والنفسية في سبيل تكديس المزيد من العسل الأبيض لليوم الأسود، يصبح مقدساً أن تبيع وجبة عشائك للجائع المحتاج إذا استطعت أن تساومه على جوعه لتبتز آخر ما تبقى لديه من أموال، أو ربما لتبتز ما لديه من بركة إلهية كما فعل يعقوب مع عيسو.
إن مفهوم الكرامة لدى المدني يختلف جذرياً عنه لدى ابن الصحراء، ويكمن هذا الاختلاف في نظرة كل منهما نحو كينونته الوجودية بشكل عام، ونحو جسده بشكل خاص، هل الجسد جزء هامشي ملحق بالأنا؛ أم هو الأنا ذاتها؟ هل الجسد مطية لي يعمل في خدمتي أم العكس هو الصحيح؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تمر من خلال أسئلة أكبر؛ وهي: لماذا أنا موجود؟ هل أتيت إلى هذه الدنيا حاملاً معي رسالة وجودية مسئولة؛ أم أنا مجرد موجود بيولوجي فحسب، ويجب أن أتعامل مع هذا الواقع كما هو؛ أي بصفتي البيولوجية المحضة؟
إن مشاعر الإنسان وعواطفه تجاه الآخرين؛ تجاه كل ما هو خارج عن ذاته المادية لتدل على أنه ليس بيولوجياً بقدر ما هو أثيري هيولي متعدد الأبعاد فوقي الأصل رباني الرسالة، تدل على امتلاكه لذات ماورائية مسئولة هي أكثر ضخامة وعظمة من ذاته المحسوسة، وأن بيولوجيته هي أكثر الأجزاء ضآلة في كينونته الوجودية لدرجة تجعله مستعداً للتضحية بمتطلبات بقائه المادي بدافع من مسئوليته الوجودية الربانية تجاه الغير، أو على الأقل هكذا يجب أن يكون في هيئته الفطرية الخام، وبناء عليه فإنه على قدر ما يمتلكه وما لا يمتلكه من تلك المشاعر والعواطف يتحدد مدى إنسانيته ومدى بيولوجيته، ولكنه عندما يفقد تماماً شعوره بالآخرين وتعاطفه مع ما هو خارج عن ذاته المادية، وعندما تتمحور جميع مشاعره وعواطفه حول بقائه البيولوجي فقط؛ عندها تصبح كثير من الحيوانات أكثر إنسانية منه، أليست هذه بالتحديد هي حال أصحاب "قع نملة وكل عسل" "اليد التي لا تستطيع أن تدوسها فعليك أن تبوسها" "الرجل لا يعيبه سوى جيبه" "التجارة شطارة" "القانون لا يحمي المغفلين" وما إلى ذلك من هذا القبيل.
إن الكرامة أو الشرف في مفهوم الإنسان الفطري (إنسان الصحراء) هي أن لا تكون حيواناً، أن لا تعيش كحيوان، أن تتنصل من انتمائك لعالم الحيوان وتعلن تبرؤك من شخصيتك البيولوجية. أو بمعنى آخر: الشرف هو كل عمل يُظهر من خلاله الإنسان فوقيته على عالم المادة بما في ذلك جسده كجزء من هذا العالم، يعلن قدرته على احتواء هذا العالم دون الانغماس فيه، يعلن ربوبيته لعالم الحيوان لا مواطنته فيه، يعلن انعتاقه من سلطة الجسد، وتحديه لقوى غرائزه، ورفضه الخضوع لندائه البيولوجي، وعدم خوفه من فنائه وتلاشيه، يعلن أن شخصيته الحقيقية أعظم سمواً وعلواًُ ورفعةً من أن يحويها ويحدها ويمثلها جسد حيواني.
إن من تدفع به غريزة الجوع لأن يطأطئ رأسه لكل من يقذف إليه بلقمة تسد جوعه، فيدعه في مقابل ذلك يمتطي ظهره ويمسك بزمامه ويقوده في الاتجاه الذي يريد ويسخره لعمل ما يريد ويجبره على النوم متى يريد والاستيقاظ متى يريد ويجبره على ارتداء لبس معين والتحدث بلغة معينة وبأسلوب معين والتصرف بطريقة معينة بل واعتناق فكر معين والدفاع عن مبدأ معين والإيمان بعقيدة معينة وترديد شعارات معينة مهما كانت تلك المعينات مخالفة لإرادته الشخصية وغير نابعة من قناعته الذاتية، إن من يفعل ذلك بدافع من غريزة الجوع فإنه في نظر البدوي حيوان كامل يحمل كل معاني الضآلة والوضاعة والحقارة والخسة. أما من يفعل ذلك ليس بدافع الجوع بل لمجرد خوفه من الجوع في المستقبل فإنه أكثر حقارة ودناءة ووضاعة وخسة من جميع أنواع الحشرات.
إن الحيوان وحده هو الذي يقبل على نفسه أن يتعرض للضرب أو الإهانة أو الشتم أو التوبيخ من قبل كائن من كان، مهما كان هذا الكائن حقيراً ووضيعاً ودنيئاً وسفيهاً، كل ذلك لا يهم ما دام هذا الكائن يملك أن يقدم له الطعام أو يمنعه عنه، فكرامة الحيوان تكمن في جسده؛ في غرائزه البيولوجية، وليس للشرف في نظره أي معنى سوى إشباع تلك الغرائز. أما كائن المدينة فالشرف عنده يكمن في مدى مقدرته على تحقيق ديمومة هذا الإشباع، وبالتالي تأمين بقاء جسده أطول فترة ممكنة، وإبعاد شبح الفناء المادي عن مخيلته قدر المستطاع.
الشرف في المدينة لا يقاس إلا بالثراء المادي، وأي عمل يؤدي إلى هذا الثراء هو عمل شريف، مهما كانت طبيعة هذا العمل. فإذا صادفت في المدينة شخصاً يقوم بأكثر الأعمال وضاعة وخسة وساءلته عن سبب قيامه بذلك تجد المبرر على طرف لسانه: "أنا أسعى وراء لقمة عيشي"، وهو مبرر –في نظره- كافٍ لتشريع أي شيء.
إن العمل الشريف لديهم هو العمل القانوني، فالسرقة -على سبيل المثال لا الحصر- لا يعتبرها المدني جريمة لكونها تمثل اعتداءً على أموال الآخرين وممتلكاتهم ومقدراتهم الاقتصادية، بل لأن حاكم المدينة قد سن قانوناً يجرم فاعلها، فإذا ما غاب مثل هذا القانون أو انتابه نوع من التراخي في بعض الجوانب تحولت السرقة إلى عمل شريف، وهو واقع نشاهده أمامنا كل يوم، فالذي يكسر حرزاً ويسرق شاتين أو ثلاثة بطريقة مباشرة يعتبر مجرماً يجب إقامة الحد عليه، أما الذي يسرق المليارات بطريقة لا ينص القانون على تجريمها، كالتلاعب بتفسير نصوص العقود والمبالغة في تسعير فواتير السلع والخدمات وأسعار الأسهم والسندات والالتفاف حول ثغرات الأنظمة وصفقات المشاريع فإن أعماله هذه تعتبر مشروعة بل وشريفة حتى لو أدت في النهاية إلى مقتل المئات من البشر. بل وحتى الدعارة قد تصبح عملاً شريفاً بمجرد تحولها إلى عمل قانوني، وتصبح الراقصة والفنانة رمزاً للعصامية والكفاح والشرف والكرامة والعزة الوطنية عندما تحصل على تصريح قانوني بممارسة المهنة.
"قع نملة وكل عسل"؛ فاليوم أصبح أولئك النمل أكثر الناس شرفاً ورفعة في أرض كنعان بعد أن باتوا يستحكمون على أضخم خزائن العسل ليس على مستوى الحجاز فحسب بل والعالم بأسره، ولكنهم سيظلون كما كانوا في أعين أبناء الصحراء نملاً حتى ولو باتت تجري من تحتهم الأنهار من هذا العسل، فالشرف عند العدناني لا يمكن شراؤه بعسل الدنيا.
التعليقات (0)