مواضيع اليوم

أذناب البقر(8)

محمد سرتي

2010-06-07 20:45:53

0

لخص لنا سبحانه وتعالى نظرية الأخلاق في عبارة واحدة: "لباس التقوى". وهو لباس اعتباري رمزي، لا محسوس ولا ملموس، لا يقبل التحديد ولا التشبيه ولا التمثيل ولا التجسيد، ولا يمكن تحجيمه داخل إطار فلسفي أو صياغته ضمن سياق ميتافيزيقي أو إدخاله في معادلة منطقية. هو لباس نفسي لاشعوري أكثر منه حسي عقلاني؛ حيث لا يمكن استحضاره في الذهن إلا كصورة تخيلية وجودية (لامادية) ترمز إلى نوع من العزل الافتراضي الصارم بين أقنومي الشخصية الوجودية للإنسان: الروح والجسد. ولكن ما هي طبيعة هذا العزل؟ وما هي انعكاساته على قضية الأخلاق؟
فلنرجع هنا إلى حديثنا عن كل من قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) وقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وقوله: (فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون. يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون). ولنحاول تلمس العلاقة بين كل من قضية الخلافة والروح واللباس من خلال قول الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولا).
روى العوفي عن ابن عباس أن الأمانة هي الطاعة، وروى عنه بن أبي طلحة أنها الفرائض، وقال آخرون هي الدين والحدود وغير ذلك، وجميع هذه الأشياء يقوم مقامها لفظ "خليفة" الذي لا يشملها فقط بل ويزيد عليها كثيراً، فما هو المعنى الاصطلاحي لكلمة "خليفة" في اللسان العدناني (العربي المبين) الذي نزل به القرآن؟ ولماذا خص الله آدم بهذه الصفة حتى قبل أن يخلقه (إني جاعل في الأرض خليفة)؟
إن كلمة "خليفة" بصيغتها المفردة هي في الغالب ذات دلالة سياسية عند العدنانيين، الأمر الذي حدا بجمهور الفقهاء للاستدلال بقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) وقوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) وقوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) على وجوب الإمامة السياسية في الأمة قطعاً. بينما لا تحمل صيغ الجمع (خلائف وخلفاء) نفس الدلالة السياسية للصيغة المفردة (خليفة) حيث وردت في القرآن للإشارة إلى التخالف والخلفة أي التتابع كقوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) وقوله: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) وقوله: (وجعلكم خلفاء من بعد قوم نوح).
فالخليفة –إذاً- هو الإمام، هو الحاكم السياسي الأول الذي يؤول إليه الحكم بعد وفاة الحاكم، فهو –إذاً- يملك تفويضاً مطلقاً بكافة الصلاحيات السياسية والإدارية فلا يحتاج للرجوع إلى أحد في شيء، ولا يتدخل أحد في تفاصيل عمله أو يحاسبه عليها، وهو يختلف عن الوالي في كون صلاحيات الوالي محدودة ومقيدة وبالإمكان تجاوزه إلى الخليفة في كثير من الأمور. أما الخليفة فلا يمكن تجاوزه إلى أحد، فهو إما أن يقوم بواجبه فيحمد، أو يفشل فشلاً ذريعاً ظاهراً جلياً تجمع عليه الأمة بأسرها، عندها فقط يتم خلعه واستبداله بخليفة آخر.
إذاً ما معنى أن يجعل الله آدم خليفة في الأرض؟ خليفة لمن؟ من الذي كان يحكم الأرض قبله أليس الله؟ ولكن الله حي لا يموت فكيف يتخذ لنفسه خليفة في عين حياته؟
ببساطة شديدة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى الله جهرة، لأن الله سبحانه وتعالى خلق جسم الإنسان بتركيبة حيوانية بيولوجية لا تستطيع أن تنظر إلى ذات الله أو تسمع صوته أو ترى وجهه أو تتلقى عنه الأوامر والنواهي والشرائع والتعليمات مباشرة دون وسيط مادي محسوس وملموس، لأن حواس الإنسان وعقله المادي لا يستطيع أن يفهم إرادة الله ويستوعب مقاصد كلماته دون أن يراها متجسدة أمامه في صورة مادية محسوسة وملموسة، في صورة تفاعلية متحركة تنطق حركاتها بكلمات الله وتفسر سلوكياتها مقاصده، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يكشف لنا سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين عن الوسيلتين الوحيدتين التي يتم من خلالها الاتصال بينه وبين البشر: وسيلة غير مباشرة ووسيلة مباشرة.
أما الآية الأولى فتتحدث عن وسيلة الاتصال غير المباشر بين الله وخلقه وهي الوحي، وهي وسيلة ظرفية مؤقتة تحدث في وقت معين ومكان معين ولأشخاص معينين، وغرضها الوحيد هو توجيه الناس نحو الوسيلة الثانية، الوسيلة الثابتة والدائمة دواماً أبدياً، وسيلة الاتصال المباشر بين الله وبين البشر والتي أوضحها تعالى في الآية الثانية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ومعنى الاصطفاء هو انتخاب الله تعالى لعائلة واحدة من خلقه (ذرية بعضها من بعض) دون العالمين كي تمثل مشيئته وإرادته على الأرض، وهو ما يعبر عنه مصطلح "خليفة" (إني جاعل في الأرض خليفة). فخليفة الله هو الحاكم بأمره والقائم مقامه والممثل الشرعي له والمتحدث باسمه والمعبر عن إرادته ومشيئته لدى بقية البشر (الرعية).
(ذرية بعضها من بعض) جعلهم الله وسيلة مباشرة للاتصال بينه وبين بقية البشر، فمن خلال سلوكياتهم تتجلى إرادة الله، ومن خلال ثقافتهم نستوضح مقاصد شرائعه، تتجسد فيهم روح العدالة الإلهية الكامنة في كلمات الله وقوانينه المكتوبة والمنطوقة، فهي تبطش بأيديهم وتمشي بأرجلهم وتنطق بأفواههم وتتجسد في جميع عناصر ثقافتهم.
استخلفهم الله تعالى على رعيته، واصطفاهم ليمثلوه لدى خلقه، وغرس في أرومتهم روح فطرته الحنيفية الطاهرة النقية، التي لا يمسها فساد أو تغير أو انحراف مهما اختلفت عليها آسال الأزمنة والخطوب، فعاداتهم وتقاليدهم وطبائعهم وسجاياهم وأفكارهم وقناعاتهم وأخلاقهم وشيمهم ثابتة على ما كانت عليه منذ خلق الله آدم حتى يومنا هذا، محجة بيضاء ليلها كنهارها، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، من هذا الذي سيفسد فيها ويسفك الدماء؟ آدم؟! كيف يفسد من اصطفاه الله تعالى على العالمين؟! كيف يفسد من جعله الله خليفة له، يمثله أمام بقية الخلق، ويقوم مقامه في قيادة البشرية؟! كيف يفسد من تسري في عروقه نفخة مباشرة من روح الله؟! وكيف يمكن للملائكة أن يتوقعوا الفساد من ذلك الذي أمرهم الله بالسجود له، والسجود هو شكل من أشكال العبادة، أو دعنا نقول: التقديس؟!
ألا يبدو أن الملائكة كانت تتحدث من واقع تجربة سابقة، وأن ذاكرتهم كانت لا تزال غضة بتفاصيل تلك التجربة التي تشبه تجربة خلق آدم إلى حد بعيد؟ ربما لا تكون تلك التجربة قد حدثت على الأرض، بل ربما حدثت في كوكب آخر أو حتى مجرة أخرى، ولكنها كانت تتمحور حول قصة كائن حيواني ذو خصائص عقلية ونفسية وجسدية فريدة، يشبه في تركيبته البيولوجية تركيبة آدم عليه الصلاة والسلام، وأن خصائصه الفريدة تلك قد جعلت منه كائناً فاسداً سفاحاً بالفطرة، عديم الأخلاق منحط السجايا، شديد الخطورة على بيئته الطبيعية، وعظيم التدمير لذلك الكوكب التعيس الذي استضافه، بلغت دناءة طباعه حداً لم تبلغه بقية الحيوانات، وبلغ من فساد أرومته أن بات مستحيلاً عليه التفريق بين الخير والشر والحق والباطل والصواب والخطأ، لذلك لم يكن الله سبحانه وتعالى ليترك هذا المخلوق المسكين سائباً هكذا هائماً على وجهه دون أن يجعل له آلية تحكمه وتقوده وتضبط سلوكه وتدله وترشده وتبين له الخير من الشر والصواب من الخطأ والحق من الباطل، وأن هذه الآلية كانت تتمثل في الخلافة، أن يجعل الله لنفسه خليفة يقوم مقامه وينوب عنه في قيادة هذا الكائن.
ولكن بالرغم من كون هذا الخليفة سينزل على هيئة جسد بشري يشبه تماماً جسد ذلك المخلوق الفاسد السفاح؛ إلا أنه يحمل داخل هذا الجسد روحاً مختلفة، ليست روحاً حيوانية مخلوقة كروح ذلك الكائن، بل روحاً إلهية مقدسة غير مخلوقة، نفخة من روح الله، روحاً تجعله ذو طبيعة مختلفة تماماً عن طبيعة ذلك الكائن الفاسد السفاح، فالراعي لا يجب أن ينتمي إلى نفس فصيلة القطيع، والأعمى لا يقود العميان إلا نحو التيه والضياع.
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وآل عمران هنا ليسوا موسى وهارون كما توهم بعض المفسرين، بل هم عيسى وأمه كما هو واضح جداً من سياق الآية. ما معنى هذا الكلام؟ ما معنى أن يبدأ الله ذكر ذريته المختارة بآدم وينهيه بعيسى؟ ما هي الصفة الرمزية المشتركة بين هاتين الشخصيتين؟
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). ما هو وجه المثلية بين عيسى وآدم في ما يتعلق بآلية الخلق؟ لو قلنا أن كليهما لم يولدا لأب من البشر فهل هذا يجعلهما مثلين متطابقين في الآلية التي خلقهما الله بها؟ إذا كان عيسى ليس له أب من البشر فإن له أماً، أما آدم فلم يولد من أم بشرية، إذاً فهما يتشابهان في عدم وجود الأب، ولكنهما لا يتماثلان؛ لا يتطابقان تماماً في آلية الخلق بحيث يمكن أن يضرب الله بأحدهما مثلاً إلى الآخر، فعندما ضرب الله تعالى مثلاً لحملة التوراة بالحمير كان سبحانه يشير إلى شدة التطابق بين الطرفين في جهلهم بمضمون حقائق الكتب التي يحملونها (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وعندما ضرب مثلاً بالكلب في لهثه بالمتعصب لهواه كان يشير سبحانه إلى أن المتعصب الذي لا يزال يتمسك بهواه ويتعصب لرأيه مهما بذلنا قصارى جهودنا في إقناعه بفساد رأيه واستخدمنا في ذلك جميع الأساليب ومختلف الوسائل الحسنة والسيئة، مثله كمثل الكلب الذي لا ينفك يلهث ولا يفارقه اللهاث في جميع أحواله وأوضاعه سواء حملنا عليه أو تركناه، فاللهاث طبيعة متأصلة فيه تماماً كالتعصب واتباع الهوى هي صفات أصيلة في صاحبها لا تنفك عنه ولا ينفك عنها (واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث). ولكن عندما يضرب الله تعالى بآدم مثلاً لعيسى في قضية الخلقة، هل هو يشير إلى الخلقة البيولوجية (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)؟ هل خلق الله عيسى من تراب أيضاً (أعني بنفس الطريقة التي خلق بها آدم)؟
إن الله لا يتحدث هنا عن تطابق بيولوجي، إنه تطابق من نوع آخر. إن التطابق الوحيد والحقيقي بين خلق عيسى وخلق آدم هو النفخة المباشرة في الجسد (وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لّلْعَالَمِينَ) (وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).
بهذه الآية يرد سبحانه وتعالى على أولئك الذين يزعمون بأن تلك النفخة الطاهرة المقدسة التي نفخها الله تعالى من روحه في جسد كل من آدم وعيسى بن مريم هي ذاتها التي يحملها في عروقه كل كائن بشري آخر، فالآية صريحة الدلالة على أنه لم يحظ بهذا الشرف العظيم سوى سلالة عائلية واحدة فقط دون سائر العالمين، تلك العائلة المقدسة المختارة التي اصطفاها سبحانه لخلافته في الأرض (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
إن الله لم يصطفِ آدم بصفته الشخصية؛ بل بصفته جزءً من تلك المنظومة العائلية المختارة التي اصطفاها الله لتمثله على الأرض إلى يوم القيامة، وتكفل بحمايتهم وحماية دوام بقائهم واستمرارية تناسل سلالتهم دون انقطاع إلى يوم القيامة، ليجعل منهم وسيلة الاتصال الدائمة بينه وبين بقية البشر، ليجعل منهم رمزاً ثقافياً تتجسد فيه جميع مكارم الأخلاق التي هي غاية جميع الأديان ومنتهى جميع الشرائع والرسالات، ليجعل من سلوكياتهم معياراً أخلاقياً ثابتاً لا يعتريه خلل أو فساد مهما تكالبت عليه الخطوب وتعاقبت عليه الدهور والأزمان.
إن أي انقطاع أو تغيب في تواجد هذه السلالة على سطح الأرض –مهما كان مؤقتاً- فإنه سيؤدي بالضرورة إلى توقف الاتصال المباشر بين الله وبين البشر وذلك بفقدان المرجعية الأخلاقية المقدسة التي من خلالها فقط يستطيع بنو البشر أن يفهموا إرادة الله وروح عدالته وجوهر شريعته فيضبطوا على أساسها إنسانيتهم، لذلك لم يكن الله ليسمح بانقطاع هذه السلالة أو غيابها عن الأرض في أي زمن من الأزمان (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).

 

ولكن الله ليس وحده من لديه أجندة لهذا الكون؛ فهنالك قوة أخرى حملت على عاتقها مهمة معارضة الله ومعاندته والخروج عليه والانقلاب على خلافته وتحدي سلطته على أرضه، برغم ذلك سمح الله لهذه القوة أن تعيش، بل ومنحها من القدرة والسلطة والجبروت شيئاً عظيماً حتى تمكنت بالفعل من بسط سيطرتها على هذه الأرض وثرواتها الطبيعية بما في ذلك سكانها من البشر (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا). ولكن لماذا منح الله الشيطان كل هذه القدرات وسمح له باستخدامها دون قيد أو شرط؟ لماذا سمح الله للشر أن يكون؟
هذا هو السؤال الذي لم ولن يستطيع أحد الإجابة عليه، كل ما هنالك أننا نعيش داخل حلبة صراع بين قوتين متضادتين تحاول كل منهما السيطرة الكاملة على هذا العالم بما ومن فيه، وإذا كان الله قد اصطفى لنفسه شعباً مختاراً يمثل خلافته في الأرض؛ فإن الشيطان أيضاً قد فعل ذلك، وإذا كنا قد عرفنا شعب الله المختار من خلال ثقافتهم ومكارم أخلاقهم فإننا لن نخطيء في التعرف على شعب إبليس المختار من خلال ثقافتهم المعاكسة، وإذا كانت خلافة الله تمثلها عائلة واحدة (ذرية إبراهيم)، فإن الشيطان أيضاً قد نفخ من روحه في سلالة واحدة من البشر، إنها تلك العائلة الرأسمالية التي انطلقت قبل أكثر من ستة آلاف عام لتحتل العالم كله باسم إبليس عن طريق سيطرتها على جميع طرق التجارة الدولية في هذا الكوكب.

عندما انطلقت تلك العائلة التجارية لاستعمار العالم وشرعت في بناء مراكزها الاستيطانية على امتداد الطرق التجارية بين الشرق والغرب؛ لم يكن بمقدورهم أن يسيطروا على تلك المراكز سيطرة مطلقة تضمن لهم الهيمنة الكاملة على جميع الطرق التجارية العالمية بحيث لا تتعرض تجارتهم عبرها لأي شكل من أشكال الإزعاج؛ لم يكن بمقدورهم أن يفعلوا ذلك ما لم يطبقوا على سكان تلك المستعمرات نظام الاستعباد المطلق الذي يحولهم إلى مجرد آلات روبوتية لا تعمل إلا وفق إرادة ملاكها، نظاماً يستطيع من خلاله ملاك المستعمرة وحكامها أن يسيطروا سيطرة مطلقة ليس فقط على أجساد السكان وإمكاناتهم البدنية؛ بل وحتى على عقولهم وقلوبهم وأفكارهم وقناعاتهم ومشاعرهم وجميع إراداتهم وتوجهاتهم الشخصية. ولم ولن يوجد في الأرض نظام بإمكانه أن يحقق معجزة كتلك أفضل من النظام الديني الكهنوتي.
في جميع تلك المراكز التجارية (المدن) الواقعة على امتداد شبكة الطرق البحرية بين الهند وأوروبا؛ سجل لنا التاريخ تطابقاً شبه تام في نظام الحياة الدينية لدى سكانها، فقد كان يحكم المدينة ملك كاهن يدعي أن له اتصال روحي مباشر بالآلهة ومعرفة خاصة بأسرار العالم الآخر وقدرة على الاستفادة من تلك الأسرار بطريقة إعجازية خارقة للعادة تمكنه من إنزال اللعنات على أعدائه ومبغضيه ومنح البركات لأتباعه ومؤيديه. وكان جميع السكان (العبيد) يحرصون على إرضاء الكاهن الأعظم (الملك) وآلهته حتى لا تفوتهم البركات وتصيبهم اللعنات، كانوا يحرصون على التجمع الدوري (الصلاة) في معبده وأداء جميع الطقوس تحت قيادته (إمامته) وإشرافه وتقديم القرابين لآلهته، ولكن الآلهة لا تتعامل مع العبيد مباشرة بسبب فساد طبيعتهم ونجاسة طينتهم ودنو منزلتهم الروحية، لذلك كان على الناس أن يقدموا قرابينهم للكاهن الأعظم الذي كان يقدمها بدوره عنهم إلى الآلهة.
في ما قبل التاريخ وحتى بداية العصور التاريخية (عصور فجر التاريخ) كان الكاهن الملك يدعي انحداره المباشر من سلالة الآلهة، فهو نصف إله ونصف إنسان، وكانت عائلة الملك (العائلة التجارية الحاكمة) عائلة إلهية مقدسة تسري روح الله في عروقهم، أما أرواح العامة فهي أرواح حيوانية؛ ليست جزءً من روح الله، لذلك فإن العامة كائنات نجسة بالفطرة؛ بالولادة، أما حكام المدينة فهم أطهار مقدسون بالولادة أيضاً، وبالتالي كانت الكهانة والملك حكراً حصرياً عليهم.
لم تكن الكهانة مجرد طقوس جوفاء؛ بل كانت أعمالاً سحرية حقيقية تتمخض عنها آثار عملية خارقة للطبيعة، وكانت نتائجها الملموسة على أرض الواقع كفيلة بإقناع الناس بمصداقية ذلك النظام الكهنوتي الملكي (فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). أما أبرز التقنيات السحرية التي ارتبطت بالكهانة فهي التنبؤ بالغيب؛ حتى بات لفظ "التكهن" رديفاً لهذا المفهوم، وهو ما عبر عنه القرآن بـ "استراق السمع" (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاٌّنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً) (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ).
هنا نعود إلى عقيدة التصوف الهندي التي استندت عليها جميع أنظمة الكهنوت عبر التاريخ، الأمر الذي يقدم دليلاً آخر على الأصول الهندية لتلك العائلة التجارية التي استعمرت العالم. فقد اتخذ كهنة الهنود من العزلة والانقطاع والتأمل والتركيز وسيلة لتحرير الروح من أسر الجسد وعودتها إلى منشئها الإلهي واتحادها مع روح الله التي في السماء، ومن خلال طول تأملهم في حركة الكواكب والنجوم وتأثيراتها على تفاصيل الحياة فوق سطح الأرض وعلاقتها الظاهرة بمجرى الأحداث وتكرر حدوثها مع تكرر تراصف تلك الأجرام السماوية بنفس الطريقة في كل مرة؛ توصلوا إلى قناعة عميقة بأن تلك الأجرام هي أرواح وسيطة بينهم وبين الله، أو دعنا نقول: هي آلهة من الدرجة الثانية، تستحق العبادة، ولديها قدرات إلهية خارقة على منح البركات وإنزال اللعنات والتحكم في الأحداث الكونية وتحديد مصائر البشر، وأن تلك الآلهة (الكواكب والأبراج) تستطيع إخبارنا بالغيب من خلال تحركاتها وتراصفها، وأن ذلك التراصف المحدد ليس سوى نوع من الرموز والشفرات اللغوية المقدسة.
إذاً كان على الكاهن في سبيل سعيه للاتحاد الروحي الكامل مع روح الله أن يتبع تقنية التدرج التصاعدي التي سميت فيما بعد بـ "اليوجا"، والتي تبدأ مرحلتها الأولى بتخليص الروح من سجن الجسد، ثم تخليصها من أجواء الكرة الأرضية إلى الجرم الأقرب وهو القمر حيث تتحد بروح القمر مدة من الزمن، ثم تتتابع بعد ذلك مراحل صعود الروح إلى أعلى، وفي كل مرة تتحد بجرم سماوي أكثر سمواً ورفعة حتى تنتهي إلى الروح الكلية؛ روح الله، تعالى عما يصفون. وكل مرحلة من تلك المراحل كانت تتطلب مجهوداً ذهنياً عظيماً يبذله الكاهن في التأمل والتركيز، أو ما يسميه فلاسفة المسلمين بالرياضة الذهنية.
كانت تعاليم اليوغا في غاية السرية، ينقلها الكهنة إلى تلاميذهم شفهياً دون أن يسمحوا لهم بكتابتها، وظلت كذلك حتى ظهرت البوذية في القرن الخامس قبل الميلاد وانتشرت انتشاراً واسعاً وبدأت في سحب البساط من تحت أقدام الهندوسية القديمة، عندها باتت تلك التعاليم في متناول الجميع، وأصبح بمقدور المؤرخين أن يسجلوا لنا مراحل تطور هذه التقنية ومدى ما لحق بها من تحوير وإضافات على أيدي الشعوب التي اعتنقتها ومارستها في جميع بقاع الأرض، وأصبح بمقدورنا تتبع الأصول العقائدية لجميع الأديان الكهنوتية التي تحيط بنا في الوقت الحاضر كالصوفية والتشيع والمسيحية واليهودية.
ترتبط هذه التقنية ارتباطاً وثيقاً بالسحر واستخدام الجن واستحضار الأرواح الشريرة من العالم الآخر والتي يمكن وصفها علمياً –إلى حد ما- بـ "الطاقة الكونية"، وذلك عن طريق إخراج الإنسان من حالته الحسية وإقحامه بشكل متعمد –عن طريق التركيز والتأمل الشديد- داخل حالة نفسية معينة تشبه كثيراً –إن لم تتطابق مع- حالة الشيزوفرانيا العصابية، حيث يصل المتأمل إلى حالة ذهنية يتوهم معها أنه يسمع أصواتاً ويشم روائح ويرى صوراً وشخوصاً يخاطبهم ويخاطبونه، بل ويشعر بملمسهم على جلده وهم يمسكون بيديه ويصافحونه.
ومع طول المران والرياضة الذهنية (التأمل) يحصل التحرير الروحي من أسر الجسد فيتمكن الشخص من الاستقلال بروحه استقلالاً تاماً فلا يشعر بحواسه الخمسة ولا تؤثر فيه المؤثرات الحسية أو الغريزية فلا ينتابه جوع أو عطش أو أي رغبة أو شهوة حيوانية، عندها تنطلق الروح في رحلتها نحو الاتحاد الكامل مع الله، وهي الحالة التي يسمونها "صامادها". وعندما يصل الكاهن إلى هذه الحالة يستطيع أن يسافر بروحه إلى أي مكان في الكون، ويطلع على الأحداث التي تدور في ذلك المكان مهما كان بعيداً عن مكان تواجده الجسدي، ويستطيع أن يصف تلك الأحداث بالتفصيل لتلاميذه وللمحيطين به، بل ويستطيع أن يطلع على علم الغيب ويتنبأ بالمستقبل، فروحه –الآن- لا تخضع لقانون الزمان والمكان. وهذه الحالة هي التي تسميها الصوفية بالعلم النوراني (Illuminati) أو اللدني الذي لا يحصل إلا لأقطابهم (الأولياء) من آل البيت النبوي كالسيد البدوي والنقشبندي والجيلاني والشاذلي إلى آخره.
ومن المدهش حقاً أن تلك النورانية المقدسة لم تأت بخير إلى العالم برغم كل تلك الهالة من القداسة والتبجيل التي أحيطت بها، بل إن قوى الكهنوت الخارقة كانت أكثر ما تظهر في مواقف الشر والإضرار بالناس، وأكثر ما ترتبط بطقوس السحر والشعوذة والتدليس على الناس بالرغم من ادعاء أصحابها ارتباطهم الروحي مع الله، إلا أن نتائج أعمالهم من شأنها أن تفضح حقيقة هذا الارتباط ونوعيته.
إن ارتباطهم الحقيقي هو مع الشيطان، مع قوى الشر الخارقة التي خلقها الله لتسكن معنا في هذا العالم لحكمة لا يعلمها إلا هو، والتي نرى آثارها العملية الملموسة أمامنا واضحة في جميع تفاصيل حياتنا اليومية، ليس فقط في صور السحر الطلسمي الذي تمتهنه فئة متخصصة من الكهنة، بل وحتى لدى أولئك الأشخاص الاعتياديين (غير المتخصصين) الذين يمتلكون نوعاً من المواهب الروحية التدميرية التي نختصرها أحياناً في لفظ "الحسد" أو "العين"، والتي قد تفوق قوة تدميرها قوة السحر نفسه، خصوصاً إذا صدرت من شخص بغيض النفس دنيء السريرة شديد الأنانية سريع الغيرة والحقد على الآخرين لأتفه الأسباب.
عندما يدخل الكاهن في حالة الشيزوفرانيا فإنه يسلم نفسه تماماً لتلك القوى الكونية الشيطانية التي تتمثل له في هيئة شخوص وصور ورسل روحية من العالم الآخر، يخبرونه بالأحداث التي تدور في الأماكن البعيدة، ويسترقون له السمع وينبئونه بالمستقبل، يتلبسونه ويتلبسهم فيسمع أصواتهم ويشم روائحهم ويشعر بآثار لمساتهم على جسده، يوحون إليه بطقوس عبادتهم واستجلابهم، ويستخدمون جسده للسيطرة على هذه الأرض بمن فيها، ويقومون من أجله ببعض الأفعال الخارقة التي قد تكسبه مزيداً من التبجيل والمصداقية أمام الناس (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ).
لقد سمى الشهرستاني هذه القوى بقوى الوهم، في إشارة إلى أنها قوة خفية أثيرية لا تتأتى إلا بطريق التركيز والتخيل (التوهم) والتأمل الشديد، ولا يمكن إدراك وجودها ألا من خلال آثارها العملية التدميرية، يقول الشهرستاني في الملل والنحل: "أصحاب الفكرة والوهم: وهؤلاء أعلم منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم، وللهند طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم، ذلك أنهم يحكمون أكثر الأحكام باتصالات الثوابت دون السيارات، وينشئون الأحكام عن خصائص الكواكب دون طبائعها، ويعدون زحل السعد الأكبر وذلك لرفعة مكانه وعظم جرمه، وهو الذي يعطي العطايا الكلية من السعادة، والجزئية من النحوسة. وكذلك سائر الكواكب لها طبائع وخواص، فالروم يحكمون من الطبائع والهند يحكمون من الخواص، وكذلك طبهم؛ فهم يعتبرون خواص الأدوية دون طبائعها، والروم تخالفهم في ذلك. وهؤلاء أصحاب الفكرة يعظمون الفكر ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول، فالصور من المحسوسات ترد عليه، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضاً، فهو مورد العلمين من العالمين. فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة والاجتهادات المجهدة، حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن مغيبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال، ولا يستبعد ذلك، فإن للوهم أثراً عجيباً في تصريف الأجسام والتصرف في النفوس، أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم؟ أليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص؟ أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع فيسقط في الحال ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية؟. والوهم إذا تجرد عمل أعمالاً عجيبة، ولهذا كانت الهند تغمض عينها أياماً لألاّ يشتغل الفكر والوهم بالمحسوسات، ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل، خصوصاً إذا كانا متفقين غاية الاتفاق، ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلاً من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة، فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكادهم ثقله".

وفي معرض حديثه عن أديان الهند بصفة عامة؛ يصور لنا الشهرستاني كيف كانت تلك الشياطين تتجسد للمتأملين في هيئات أنبياء ورسل، فيقول: "ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية يأتونهم بالرسالة من عند الله في صورة البشر، من غير كتاب، فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويسن لهم الشرائع ويبين لهم الحدود، وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن الأكل والشرب والبعال. الباسنوية زعموا أن رسولهم ملك روحاني نزل من السماء على صورة بشر فأمرهم بتعظيم النار وأن يتقربوا إليها بالعطر والطيب والادهان والذبائح، ونهاهم عن القتل والذبح إلا ما كان للنار، وسن لهم أن يتوشحوا بخيط يعقدونه في مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم، ونهاهم أيضاً عن الكذب وشرب الخمر، وأن لا يأكلوا من أطعمة غير ملتهم ولا من ذبائحهم، وأباح لهم الزنا لئلا ينقطع النسل، وأمرهم أن يتخذوا المعازف والتبخير والغناء والرقص، وأمرهم بتعظيم البقرة والسجود لها حيث رأوها، وأن يفزعوا في التوبة إلى التمسح بها، وأمرهم أن لا يجوزوا نهر كنك. والباهودية زعموا أن رسولهم ملك روحاني على صورة بشر اسمه باهود، أتاهم وهو راكب على ثور، على رأسه إكليل مكلل بعظام الموتى من عظام الرؤوس، ومتقلد من ذلك بقلادة، وبإحدى يديه قحف إنسان، وبالأخرى مزراق ذو ثلاث شعب. يأمرهم بعبادة الخالق عز وجل وبعبادته معه، وأن يتخذوا على مثاله صنماً يعبدونه، وأن لا يعافوا شيئاً، وأن تكون الأشياء كلها في طريقة واحدة، لأنها جميعاً صنع الخالق عز وجل. وأن يتخذوا من عظام الناس قلائد يتقلدونها وأكاليل يضعونها على رؤوسهم، وأن يمسحوا أجسادهم ورؤوسهم بالرماد، وحرم عليهم الذبائح والنكاح وجمع الأموال، وأمرهم برفض الدنيا، ولا معاش لهم فيها إلا من الصدقة. والكابلية زعموا أن رسولهم ملك روحاني يقال له شب، أتاهم في صورة بشر متمسح بالرماد، على رأسه قلنسوة من لبود أحمر طولها ثلاثة أشبار، مخيط عليها صفائح من قحف الناس، متقلد قلادة من أعظم ما يكون، متمنطق من ذلك بمنطقة، متسور منها بأسوار، متخلخل منها بخلخال، وهو عريان، فأمرهم أن يتزينوا بزينته ويتزيوا بزيه، وسن لهم شرائع وحدوداً. والبهادونة قالوا...............وزعموا أن البددة أتوهم على عدد الهياكل من نهر الكنك وأعطوهم العلوم (البدّ عندهم شخص في هذا العالم لا يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت) وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتى، ولم يكونوا يظهرون إلا في بيوت الملوك لشرف جواهرهم. قالوا: ولم يكن بينهم اختلاف فيما ذكر عنهم من أزلية العالم،.......وإنما اختص بأرض الهند لكثرة ما فيها من خصائص التربة والإقليم، ومن فيها من أهل الرياضة والاجتهاد، وليس يشبه البد على ما وصفوه -إن صدقوا في ذلك- إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام".

لم يأت نظام الكهنوت هذا بأي مشروع أخلاقي إلى الإنسانية، ولم يكن لديه أي رؤية اجتماعية أو أي شكل من أشكال الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو السلوكي، فقد بني على أساس واحد هو عبادة البشر الآلهة أو أنصاف الآلهة الذين يملكون قدرات روحية خارقة للطبيعة، قدرات سحرية من شأنها التأثير بشكل مباشر على حياة الناس سلباً وإيجاباً.
ولم يكن أهالي المستعمرات الأولى ليأبهوا بمصدر تلك القدرات طالما كان باستطاعتهم الاستفادة منها سواء كانت إلهية مقدسة أم شيطانية شريرة، فالمدني انتهازي بطبعه مادي في تفكيره لا تحكمه سوى الرغبة في إشباع غرائزه الحيوانية بأي وسيلة، وقد ذكرت في مبحث "حضارة العبيد" أن الطبيعة النفسية للمخلوق الزراعي تتمحور حول صفتي الجبن والكسل، وهي الصفتان اللتان دفعتا به نحو اتخاذ الزراعة وسيلة للعيش كونها تشبع في نفسه هاتين الصفتين، فعندما تمحورت شخصية ذلك الكائن حول جسده وأصبح لا يرى لنفسه وجوداً خارج حدود الجسد؛ أصبح مربع الغرائز البيولوجية –الجوع والجنس والبقاء والتكاثر- مسيطراً على شخصيته الوجودية بشكل مطلق، مما أدخله في حالة من القلق الدائم على سلامة جسده وبقائه، وعندما تتفاعل الغرائز البيولوجية مع هذا القلق الوجودي سيتحول القلق بالضرورة إلى حالة جبن مرضي خالع يسيطر على جميع جوانب حياته الفكرية والسلوكية، فلا تجد همه ينصب على إشباع غريزة الجوع الآنية بقدر ما يسعى لاجتثاثها من مخيلته إلى الأبد عن طريق تكديس الثروات وتخزين كميات من الطعام تكفيه مدى الحياة، ولا تجده فقط يهرب بجسده من مواقف الخطر الحاضرة بل يبذل المستحيل كي يبقي جسده في مأمن أبدي عن جميع مظان الخطر المستقبلية وذلك ببناء الأسوار حول موقع سكنه واتخاذ القلاع والحصون وتدعيم جدران بيته وتضمين الأبواب بالأقفال والتحامي بأصحاب النفوذ والحرس ورجال الأمن وغير ذلك.
لذلك كانت الزراعة أفضل وسيلة للعيش بالنسبة لكائن كهذا باعتبارها الوسيلة الأكثر أماناً، فمعها لا يضطر لخوض المغامرات بحثاً عن رزقه، لا يضطر للترحال والتنقل عبر البراري القاحلة وسبر أغوار الغابات الموحشة بحثاً عن فريسة يصطادها أو ثمرة يقطفها أو حشائش تتغذى عليها مواشيه، فالزراعة تضمن له الاستقرار والتحامي بالمكان واتخاذ القلاع والحصون والاختباء خلف الأسوار المنيعة والأبواب المتينة.
إذاً لم يكن باستطاعة ذلك الكائن التغلب على قلقه الوجودي تجاه فناء جسده إلا بحمايته من الأخطار، ولم يكن أمامه وسيلة لتحقيق ذلك سوى الاستقرار الجغرافي والتحامي بالمكان، وبالتالي كان عليه ابتكار وسيلة لتحصيل قوته من بقعة جغرافية ثابتة حتى لا يحتاج للتنقل والترحال، وكانت تلك الوسيلة هي الزراعة.
وبذلك يمكننا تفهّم سبب تعلق المخلوق الزراعي بنظام الكهنوت الديني برغم خلو هذا النظام من أي معنى أخلاقي وافتقاده لأي مشروع اجتماعي إصلاحي، إنه الرهاب العصابي تجاه فقدان الجسد، فهذا المخلوق المسكين لا يرى نفسه سوى جسداً محضاً، ولا يرى في فناء الجسد سوى فناءً تاماً لذاته، لذلك نجده يتعلق تعلقاً مرضِيّاً بأي مصدر يحقق له نوعاً من الأمان المادي والحماية الحسية، إن تعلقه الشديد بالمكان يندرج تحت هذا المعنى، وكذلك هو الحال بالنسبة للكاهن الذي يملك قدرة على منح البركات وإنزال اللعنات التي تظهر آثارها الحسية مباشرة على حياة جسده بشكل مادي ملموس.
إن هذا القلق الوجودي هو أهم ما يميز الكائن الحضاري عن بقية المخلوقات، فالحيوانات لا تعاني هذا النوع من القلق بنفس القدر، حتى تلك الشبيهة بالإنسان في قدراتها العقلية والبدنية كالقردة، والتي تملك القدرة على بناء حضارة شبيهة بحضارته، إلا أن فقدانها لهذا النوع من القلق جعلها لا تبالغ كثيراً في خوفها على أجسادها من الفناء، الأمر الذي منحها قدراً من الشجاعة الوجودية التي نلمس آثارها في تلك الروح الإيثارية والتعاونية داخل مجتمعات القردة، بينما نجد روح الأنانية والفردية والانتهازية وحب التملك هي السائدة لدى المخلوق الزراعي، وهذه الروح القلقة هي التي أنتجت حضارة الإنسان وشيدت مدنياته، فافتقاده للأمان الجسدي لم يدفعه فقط للتشبث بالأرض والتمترس بالمكان بل وللعمل المستمر على ابتكار الوسائل المختلفة التي تجعل من ذلك المكان أكثر أماناً ورفاهية.
في مقابل ذلك يهبط هذا القلق الوجودي بالإنسان الحضاري خلقياً إلى مرتبة أدنى من الحيوان عندما يجعله على أهبة الاستعداد لفعل أي شيء في سبيل صيانة وجوده المادي، إن النتيجة لا تنحصر فقط في سلوكيات الأنانية والنفعية والانتهازية والاستغلال، بل تأخذه إلى أبعاد أكثر عمقاً عندما تتمحور جميع عناصر ثقافته حول التأمين المستقبلي لأقصى قدر ممكن من وسائل إشباع غرائزه البيولوجية من جانب؛ ومن جانب آخر حول السعي نحو الحصول على أكبر قدر ممكن من الضمانات بعدم تعرضه لأي خطر مستقبلي من شأنه أن يشكل تهديداً ما لسلامة جسده وبقائه المادي. في هذه الحالة لا نجده يكتفي بالاختباء حول الأسوار المنيعة للمدينة، بل ولا يفتأ يبحث عن أسوار أكثر منعة وديمومة، وأكثر قدرة على منحه ضمانات مستقبلية بالحماية من المجهول، كتلك التي يوفرها له السحرة والكهنة. هنا ينتهي به المطاف لأن يصبح أكثر المخلوقات البيولوجية قابلية للاستعباد، خصوصاً من قبل الكهنة والسحرة الذين لا يحتاجون في سبيل استعبادهم المطلق والكامل له إلى بذل أي مجهود سوى العزف على وتر قلقه الوجودي.

وعلى العكس من الكائن الحضاري؛ لا نجد هذا النوع من القلق الوجودي مسيطراً على إنسان الصحراء، وذلك لا يتضح فقط من خلال خصلة الكرم البدوي التي أسهبنا في الحديث عنها سابقاً ولا يزال لدينا المزيد حولها ليقال، بل وفي جميع سلوكيات هذا الإنسان الفريد ومفرداته الثقافية: المروءة، النخوة، الشهامة، الوفاء، الأمانة، الشجاعة، التراحم والتعاطف، التواسي والتكافل، الاحترام والتقدير، العزة والإباء والترفع والتعفف، الصدق والإخلاص والوضوح والشفافية، وغيرها من المفردات التي تظهر نوعاً من التعالي على الوجود المادي؛ والشعور بالمسئولية تجاه هذا الوجود في ذات الوقت، إنها تحمل رسالة وجودية فريدة من نوعها، تتداخل فيها المتضادات وتتمازج المتناقضات بطريقة لا تقبل الخضوع للتنظير المنطقي.
عندما نحاول أن نفهم فينومينولوجية الكرم البدوي من خلال تصرف إنسان الصحراء تجاه غريزتي الجوع والبقاء؛ يستوقفنا ذلك التداخل المدهش بين اتجاهين سلوكيين متناقضين ينزع أحدهما لإنكار الذات المادية والآخر للانغماس فيها، ولكن البدوي استطاع أن يصهرهما بأعجوبة داخل بوتقة واحدة. عندما يتنازل البدوي عن آخر وجبة لديه في بيئة لا توفر لسكانها من الغذاء قدراً يفوق كثيراً ما تأخذه منهم؛ فإنه في هذه الحالة يمارس نوعاً من إنكار الذات المادية والعمل على تجويعها وإفنائها بطريقة قد تبدو شبيهة بأسلوب التصوف الهندي، إلا إنه في ذات الوقت لا ينقطع عن العمل البدني الدءوب والمضني في سبيل تحصيل رزقه وتوفير متطلبات وجوده المادي. إنها معادلة مستحيلة الحل، فعلى قدر انكبابه الشديد وانشغاله الدائم بإثبات ذاته المادية نجده لا يلبث أن يتخلى عن تلك الذات وينكرها عند أول موقف يواجه فيه خياراً بين ذاته والآخر، أي عندما يوضع في موقف مسئولية تجاه الآخرين فإنه يذهب في تحمله لتلك المسئولية إلى حد إنكار الذات التي ما كان لينكرها في غياب هكذا موقف. إنه شكل فريد من أشكال التعامل مع القلق الوجودي يبرز في سلوكيات ابن الصحراء من خلال شجاعته الفائقة في مواجهة مواقف الموت والفناء الجسدي أثناء القتال والقنص واقتحام الأخطار والأهوال بأنواعها كجزء من حياته اليومية؛ ومن خلال ترفعه وتعاليه على غرائزه البيولوجية الأساسية والذي يظهر أكثر ما يظهر في سلوكيات الكرم والتكافل والإيثار، ومن خلال تلك الروح التضحوية الأسطورية التي تنبع من جميع مفرداته الثقافية كالمروءة والشهامة والنخوة وغيرها.
هنا ليس باستطاعتنا أن نصف هذه الحالة بأنها مجرد حالة تحرر من القلق الوجودي تجاه الذات المادية على غرار التصوف الهندي ومذاهبه الغربية كالأبيقورية والرواقية والأفلوطينية وغيرها، إنها حالة من الشعور المفرط بالمسئولية تجاه الطبيعة والحياة لدرجة لا يسعنا التعبير عنها إلا بمصطلح "الربوبية".
كلما استرسلنا في تنقيبنا الأحفوري عن الجذور الأنطولوجية لمفردات الثقافة العدنانية داخل موطنها الأصلي في صحراء النفود تتكشف لنا المزيد من أسرار تلك النفخة الإلهية المباشرة من روح الله داخل رحم هذه الصحراء، نفخة الاصطفاء الثقافي الرباني والتكليف الإلهي لتلك السلالة المقدسة بالقيام مقام الله في إدارة أملاكه.
تتكشف لنا المزيد من الحقائق حول مدى التفرد الوجودي والتميز الثقافي لسكان تلك الصحراء عن بقية سكان الكوكب، حيث لا يسعنا أمام هذا التميز سوى الاعتراف بأنهم سلالة مختلفة من البشر، وأنهم لم يأتوا إلى هذا المكان ليستفيدوا منه قدر ما يفيدوه، لم يهبطوا إلى الأرض كمواطنين بيولوجيين بل كقادة وخلفاء ومشرفين إلهيين على إدارة الحياة نيابة عن واهبها، لم يأتوا ليأخذوا قدر ما جاءوا ليهبوا، لم يأتوا ليتنازعوا على موارده الطبيعة قدر ما يفضوا ذلك النوع من النزاع بين الفرقاء البيولوجيين، لم يأتوا ليخضعوا للمكان بل ليخضعوه ويروضوه ويحافظوا على توازنه الطبيعي وانضباطه الفطري الثقافي والأخلاقي والبيئي على حد سواء.
إنه الشعور بالربوبية تجاه الكون والحياة، بالمسئولية تجاه الغير، إنه الشعور بولاية أمر هذا الكوكب، ذلك هو معنى الربوبية الذي نطلقه على حماتنا ورعاتنا وحفظتنا وأولياء نعمتنا من البشر (رب الأسرة، رب الإبل، رب المال)، وذلك هو الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى الذي افتتح به كتابه وأمرنا بترديده على رأس كل ركعة نركعها بين يديه (رب العالمين).
إذا كان ثمة صفة إلهية تسربت إلى تلك السلالة من خلال نفخة الله المباشرة فهي صفة الربوبية، فعندما يضحي البدوي بآخر وجبة يملكها لإطعام عابر السبيل، وعندما يفزع لصوت المستغيث به كائناً من كان، وينفر بتلك القوة والاندفاع لنجدة المستجير و "الداخل في وجهه"، ويضحي بكرائم أمواله لجبر عثرة قريبه وجاره وحليفه ومولاه بل وحتى الغريب الطالب للأمان، بل ويضحي بحياته الدنيوية مقاتلاً في سبيل تخليص الأسرى والسبايا من براثن المعتدين، فإنه يمارس هذه الربوبية بكامل معناها الإلهي المقدس.
إن البدوي لا يحتاج إلى دين يعلمه مكارم الأخلاق؛ لأنه هو منبع الأخلاق في هذا الكون، جميع الأنبياء والرسل والكتب والأديان السماوية لم تأت إلا لتعلم الناس مكارم الأخلاق العدنانية، لم تأت إلا لتستقي شرائعها من تلك الأخلاق الحنيفية الفطرية التي ولد ابن صحراء إبراهيم ليجدها مغروسة في جيناته ومزروعة في سجاياه دون تكلف (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)، إن ثقافته الفطرية هي وسيلة الاتصال الدائم بين الله وبقية البشر، وليس الوحي والرسالات سوى وسائل مؤقتة جاءت لتلفت أنظار الناس نحو تلك الوسيلة الأبدية الدائمة التي لا يعتريها انقطاع أو غيبة أو فساد أو تغير؛ وذلك كلما ذهبت أضواء الحضارة والمدنية بتلك الأنظار بعيداً عنها (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ).
إن حادثة سجود الملائكة لآدم يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام، إنها تحوى من المعاني العميقة قدراً يبعث على الذهول، إن الملائكة لم تسجد لكائن حيواني؛ لجسد بيولوجي؛ بل لتلك الروح الإلهية التي اتخذت ذلك الجسد مطية تمارس من على صهوته قيادة البشرية (ربوبيتها). فعندما نرى الملك قادماً إلينا على ظهر دابته فإننا لا نملك سوى أن نجثو على كراعيننا ونطأطئ رؤوسنا ليس احتراماً وتقديساً للدابة بل لممتطيها.
ربما من خلال هذه الحادثة نستطيع أن نتخيل آلية عمل لباس التقوى، أن يبقى الملك (الروح) على ظهر الدابة (الجسد)، وأن تبقى الدابة مطية للملك ينظر إليها باحتقار وازدراء ولكنه لا يقتلها أو يفنيها لأنه يحتاج إليها في رحلته، وفي نفس الوقت لا يسمح لها أن تمتطيه وتصبح ملكة عليه وتحوله إلى دابة لها، هو يعلفها ويرعاها ويدللها ويلبي احتياجاتها ولكنه يبقى دائماً فوقها يقودها ويوجهها ويتحكم بها تحكماً مطلقاً ولا يترك من يده زمامها أبداً، هو صاحب رسالة؛ صاحب مسئولية؛ صاحب خلافة، أما هي فمجرد وسيلة يستخدمها لخدمة رسالته الربانية، حتى إذا عجزت عن تأدية مهمتها وأصبحت عائقاً يحول بين الملك وأدائه لرسالته فإنه لن يتردد في التخلص منها حتى لو اضطر أن يكمل مشواره على قدميه.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات