إن أية محاولة ميتافيزيقية لتفسير السلوكيات البدوية من شأنها أن تبوء بالفشل، فثقافة الصحراء لا تخضع لقوانين المادة ولا تقبل أن تكون موضوعاً للتناول المنطقي الذي لا يرتكز إلا على العقل. والعقل –باعتباره أداة مادية لإدراك الأمور- تتوقف حدوده عند تفسير المحسوس والملموس، لذلك فإن تلك الظواهر السلوكية التي يعجز العقل عن قولبتها داخل أطر ماهوية محددة أو ترويضها بأدواته المنطقية وسياقاته الميتافيزيقية؛ هي تلك الظواهر الوجودية التي تقبع في ما وراء المحسوس بالرغم من تجلياتها المادية الجزئية؛ إلا إن تلك التجليات لا تعدو كونها ومضات تجسدية جزئية تنبثق من كيانات وجودية أعظم تظل قابعة وراء المادة في معزل عن متناول العقل. وعند الحديث عن ثقافة الصحراء فنحن نتحدث تحديداً عن هذا النوع من الظواهر السلوكية الوجودية التي يستحيل وضعها داخل أي سياق ميتافيزيقي أو فهمها من خلال المنطق الأرسطي أو وزنها حسابياً كطرف في معادلة رياضية ما.
دعونا نحاول فهم هذا الكلام من خلال تطبيقه على ظاهرة السخاء البدوي باعتبارها إحدى الومضات السلوكية المنبثقة من مفهوم أعظم وأضخم وأكثر عمقاً: إنه المفهوم الوجودي للكرم في ثقافة الصحراء، فالبدوي عندما يقيم مضافة في قلب الصحراء ويزودها بكل ما يقدر عليه من مقومات الحياة كي يستفيد منها كل عابر سبيل يحتاج إلى الزاد، كائناً من كان ذلك العابر للسبيل، نجده لا يلبث أن يغادر مكانه إلى مكان آخر تقوده إليه مراعي إبله التي لا تتقيد بظرف مكان أو زمان، فهو يطارد مساقط الأمطار ومرابض المياه ومنابت العشب على مدار فصول العام كما يطارد الصياد فريسته متحدياً بذلك بيئته ومتحرراً من قيودها ورافضاً ما تمليه عليه ظروف الأرض والسماء، إلا أنك لا تجده يضع أقدامه على بقعة من الأرض حتى يقيم فيها مضافة جديدة لعابري السبيل الذين قد لا يعرفهم ولا يعرفونه، بل ولا يسألهم حتى عن أسمائهم ومقاصدهم ووجهات سفرهم وترحالهم، ولا يهمه إن كان سيحصل منهم على أي مقابل مادي عاجل أم آجل.
عندما يحاول العقل أن يضع هذا التصرف داخل قالب منطقي مفهوم فسيجد نفسه (العقل) مضطراً لإخضاعه إلى قانون السببية، فهو القانون الوحيد الذي يستطيع العقل بواسطته إدراك الأشياء، وقانون السببية هو قانون الفعل ورد الفعل، قانون الحافز والنتيجة، السبب والمسبب، هو القانون الذي لا يستطيع تفسير أي تصرف سلوكي إلا من خلال مردوداته المادية الملموسة وانعكاساته النفعية الحاضرة على الوجود المادي الجسدي، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. من هذا المنطلق نجد العقل يحاول جاهداً اختراع دوافع غرضية مادية لتصرف البدوي هذا، لأنه لا يستطيع أن يتصور فكرة المضافة البدوية خارج إطار النفعية المادية.
هنا تكمن العقدة الأزلية التي تقف عائقاً دون إمكانية حدوث أي نوع من التعايش والتفاهم بين الثقافتين: الحضرية والبدوية، فالمخلوق المدني لا تستطيع عقليته المادية الصرفة أن تفهم الظواهر السلوكية إلا من خلال قولبتها داخل إطار الجسد وحصرها ضمن سياق خدمة غرائزه البيولوجية: الجوع، الجنس، البقاء، والتكاثر. وعندما يحاول المدني أن يستوعب فكرة المضافة البدوية فإن أول طريق يسلكه هو البحث عن الدوافع المادية النفعية وراء هذا السلوك، وعندما لا يعثر على مثل تلك الدوافع فإنه سيخترعها من مخيلته اختراعاً كأن يقول:-
"لا بد أن هذا البدوي يبحث عن الشهرة والمديح ويحاول أن يتبوأ مركزاً اجتماعياً مرموقاً يعود عليه بنفع مادي ما، أو من الممكن أن حياة الصحراء بما فيها من قسوة وجفاف وقحط وشح في الموارد الغذائية قد دفعت بسكانها الرُّحل إلى التوافق حول شكل من أشكال الاشتراكية التعاونية أو ربما شيوع الملكية الغذائية كخيار اقتصادي استراتيجي من شأنه توفير الحد الأدنى من مقومات البقاء وسط تلك الأجواء القاحلة، أو ربما يتصرف البدوي هكذا بدافع من الخوف والجبن والرغبة في تفادي المواجهة المسلحة مع عابري السبيل الجياع الذين قد يدفع بهم جوعهم وعطشهم إلى السطو على خيمته وسلب حلاله وربما قتله، فهو يفتدي منهم نفسه وماله بأن يقدم لهم هذه الرشوة داخل خيمة الضيافة، والتي لا بد أن تكون مجزية بما يكفي لاتقاء شرهم"
إن الفكرة الوحيدة التي لا يمكن للعقل تصورها هي أن خيمة الضيافة تلك لا يقف خلفها أي دافع مادي، بالرغم من ظهورها كسلوك مادي. وهو ما يضع العقل في حيرة وتخبط شديدين عندما يحاول منطقة الظواهر السلوكية البدوية وصياغة قانون اجتماعي دقيق بشأنها. ولعله من المفيد هنا ابتكار استراتيجية تحليلية مختلفة نحاول من خلالها التعرف على الثقافة البدوية بطريقة صحيحة تساعدنا على التخلص من تلك الحيرة وذلك التخبط المنطقي الذي يلازمنا على الدوام كلما حاولنا التعرض لإحدى الظواهر السلوكية البدوية بالنقد والتحليل.
إن ثقافة الصحراء يلفها الغموض من جميع جوانبها، فهي ثقافة لا يمكن فهم تجلياتها السلوكية بواسطة العقل المجرد، وهذا الكلام لا ينطبق على خيمة الضيافة فقط؛ بل يشمل جميع الظواهر السلوكية الأخرى دون استثناء. إلا أنه يوجد هنالك عامل وحيد يمكن اعتباره عاملاً مشتركاً يتكرر بروزه بقوة ووضوح شديدين في جميع العناصر السلوكية والموروثات القيمية والعرفية والمبادئ والاعتبارات الأخلاقية التي تتشكل منها المنظومة الثقافية البدوية، إنه عنصر التعالي فوق الغرائز البيولوجية، وعندما نقول التعالي فوق الغرائز فإننا لا نقصد إنكارها، فهذان مفهومان مختلفان تمام الاختلاف، وهو ما سنقوم بإيضاحه بعد قليل.
في خيمة الضيافة نستطيع أن نتلمس بوضوح ذلك التعالي فوق كل من غريزة الجوع وغريزة البقاء لدى البدوي، فبرغم تلك الظروف المعيشية شديدة القسوة والتي من المفترض أن تجعل من البدوي شخصاً بخيلاً شديد الطمع والأنانية، شخصاً شديد الحرص على كل لقمة طعام يملكها نظراً لندرة الطعام والشراب وصعوبة الحصول عليهما في تلك البيئة القاحلة المقفرة، إلا أنه في خيمة الضيافة لا يكتفي البدوي بتقديم الفائض عن حاجته من الطعام والشراب لضيوفه، بل ولا يكتفي بمجرد اقتسام وجبته الحاضرة مع أولئك الضيوف، بل إننا نجده يقدم لهم صفوة مخزونه الاستراتيجي من الغذاء. قد نجد البدوي يقتات لفترات طويلة على منتجات الألبان فقط، ولا يذوق اللحم إلا في المناسبات، خصوصاً إذا كانت إبله قليلة العدد وليس من السهولة تعويض إحداها إذا ما تم ذبحه أو فقدانه، إلا أنه في خيمة الضيافة يحرص كل الحرص على أن لا تكون وجبة ضيوفه خالية من اللحم، مهما كلفه الأمر.
إننا أمام حالة وجودية فريدة لا يمكن وضعها داخل أي إطار ميتافيزيقي، فالبدوي هنا لا يمارس نوعاً من التصوف الفلسفي الهندي الذي ينزع أصحابه نحو الإنكار المطلق للجسد وغرائزه والانسحاب الكامل من الحياة المادية، بل على العكس من ذلك؛ فالبدوي إنسان في غاية النشاط والحيوية والمثابرة في السعي وراء الرزق، ولا أدل على ذلك من ترحاله الدائم في الصحراء ونفوره الأبدي من الاستقرار والاستكانة والتشبث بالمكان والالتصاق بالأرض، فالتمترس الجغرافي هو عين الجبن والكسل، وهذه الصفات لا مكان لها في حياة البدوي وثقافته.
إن البدوي لا يحصل على لقمته إلا بشق الأنفس، فوجبة طعام البدوي تكلفه كثيراً جداً، ولكنه بالرغم من ذلك لا يبخل بها عن أي محتاج أو عابر سبيل، بل ولا يتردد هنيهة في تقديمها بكل أريحية وطيب خاطر وسلامة نفس لكل من تقوده قدماه إلى أعتابه كائناً من كان. وفي المقابل نجد المدني الذي لا يبذل من الجهد في الحصول على رزقه معشار ما يبذله البدوي؛ إلا إنه يحرص على ذلك الرزق أشد الحرص ويبخل به حتى عن أقرب الناس إليه.
إن التصوف الهندي هو حالة نفسية عصابية تتجسد فيها قمة الجبن وقمة الكسل، هي حالة هروب من مواجهة الحياة وظروفها الصعبة، هي حالة يأس من الواقع المعاش، هي حالة ضعف تنتاب أولئك الجبناء والكسالى عندما يعجزون عن تحمل مسئولية التواجد فوق سطح الأرض فيحاولون الهروب من هذه الحقيقة بإنكارهم لها. إن التصوف الهندي هو ضرب من ضروب الانتحار، ولكنه انتحار الجبناء الذين لا يستطيعون قتل أنفسهم دفعة واحدة فيقتلونها بالتقسيط المريح.
لقد أدرك الهندي القديم –مشكوراً- أن كينونته الوجودية تحتوي على أقنومين منفصلين: جسد وروح، وأن الروح هي مركز الفضيلة والجسد مركز الرذيلة، وأن الجسد بغرائزه الحيوانية هو مصدر جميع متاعب الإنسان وآلامه ومعاناته، بل هو مصدر جميع الشرور والنزوات الشيطانية والصراعات والحروب والجرائم في هذه الدنيا، وأن شهوات الجسد ورغباته الغريزية لا يمكن إشباعها بحال مهما اجتهد الإنسان في ذلك، فغرائز الجسد شديدة الشراهة والنهم لدرجة تجعل منها مصدراً دائماً وأبدياً للعذاب والآلام والحسرة والطمع والأنانية والغيرة والحسد والآمال المحطمة والرغبات المكبوتة والأمراض النفسية بشتى أنواعها ودرجاتها، لذلك فقد اخترع الهندي القديم لنفسه تلك التقنية الانتحارية التي اعتقد أن بإمكانها تخليصه من تبعات هذا الجسد.
إن الهندي الذي اشتهر بشدة غبائه وشدة جبنه لم يتمكن من مواجهة ظروف حياته الدنيوية كما يفعل الرجال، بل تخلى عن مسئوليته تجاه تلك الظروف وحاول الهروب من تبعات وجوده المادي الذي رآه متمثلاً في جسده البيولوجي، حاول الفرار من هذا الجسد وغرائزه الحيوانية فقرر إنكاره بشكل مطلق والامتناع الكامل عن تلبية أي من متطلباته البيولوجية وعدم الاستجابة لأي من غرائزه ورغباته وشهواته، امتنع عن الطعام والشراب والجنس، وهرب إلى الغابات محاولاً الاعتزال بروحه، وكأنه كان يتوقع أن جسده لن يتبعه إلى الغابة، بل إنه استطاع أن يوهم نفسه فعلاً بهذه الخرافة التي نسج لها من خياله عدداً لا بأس به من الأساطير الميثولوجية، وبالتالي قام بسبكها داخل سياقات ميتافيزيقية أضفت عليها طابعاً من القداسة والروحانية.
تقوم الفلسفة الصوفية على أساس عقيدة وحدة الوجود، تعدد في وحدة ووحدة في تعدد، فالله ليس كائناً مستقلاً منفصلاً بذاته، بل هو روح كلية تمتد أذرعتها الأخطبوطية لتتغلغل داخل كل ذرة في هذا الوجود، وأن أرواح جميع المخلوقات هي أجزاء من تلك الروح الكلية، ليست منفصلة عنها ولا مستقلة بذاتها، وبالتالي فإنه لا يوجد في الحقيقة مخلوقات متعددة، بل إننا جميعاً في هذا الكون عبارة عن كائن واحد يجمعنا ويوحدنا تلك الروح الكلية المشتركة بيننا، وما هذا التعدد الظاهر سوى وهم، أما الحقيقة فهي وحدة هذا الوجود. وقد عبرت نصوص الأوبانيشادات عن هذه الفلسفة بعدة طرق وأساليب حيث جاء فيها: "إن الإله الواحد مختبئ في كل الكائنات، فهو يخترق كل شئ ويسكن في كل كائن وتتكون منه النفس". "كما أن النار الحارة تنبعث منها آلاف الشرارات الشبيهة بها، كذلك يولد من الكائن الذي لا يتغير جميع أنواع الكائنات التي تعود إليه". "إن من يرى نفسه في كل الكائنات ويرى كل الكائنات في نفسه يتحد بذلك مع البراهمان الأعلى".
إذا فالخلاص من متاعب الدنيا وآلامها لا يكون إلا بتخلص الروح وانعتاقها من سجن الجسد، وذلك لا يتم إلا بطريق تدمير هذا الجسد وتعذيبه وتجويعه وإنكاره وإهماله حتى يموت وهو حي، وحتى يصل الإنسان إلى مرحلة يمشي فيها على الأرض دون أن يشعر بجسده، أي أنه يفقد جميع أنواع المشاعر والأحاسيس، ولا يبقى في نفسه شيء من الشهوات والرغبات البيولوجية، ولا تؤثر فيه المغريات الغرائزية، ولا يطمح إلى شيء من أمور الدنيا فلا يسعى في تحصيل رزق ولا ينخرط في عمل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي ولا يتفاعل مع الأحداث الزمنية ولا يدافع عن وطن أو عرض أو كرامة أو شرف ولا يعتنق مبدأ أو عقيدة ولا يساهم في بناء أو هدم، يتحول إلى روح محضة لا هم لها سوى التفكر والتأمل في الروح الكلية حتى يحصل له الالتحام التام مع تلك الروح والانفكاك المطلق من أسر الجسد. جاء في الأوبانيشادات: "عندما تختفي كل الرغبات التي تسكن في قلبه يصبح الإنسان خالداً، وفي هذه الحياة الدنيا يتصل بالبراهمان ويصبح جسده بالنسبة له بعد ذلك كجلد يتخلى عنه الثعبان فوق منمله". "إن عالم السماء مفتوح ليس أمام من يقدم الأضاحي للآلهة؛ وإنما أمام من يضحي لها بنفسه".
من ذلك يتبين لنا استحالة إدراج ثقافة الصحراء ضمن المنظومة الفلسفية الصوفية، بل هي أبعد ما تكون عن فلسفة التصوف. فالإنهزامية والسلبية وإنكار العالم ليست من صفات رعاة الإبل، بل إنه من أبرز عناصر ثقافتهم تحمُّل المسئولية تجاه الوجود، وما خيمة الضيافة سوى مظهر من مظاهر هذا الشعور بالمسئولية تجاه العالم والحياة.
إن العامل المشترك الوحيد بين التصوف الفلسفي والتحنف البدوي هو النفور من الحضارة والمدنية، باعتبار المدينة هي رمز المادية الأعظم، هي رمز الجسد وغرائزه الحيوانية، ولكن طبيعة هذا النفور تختلف اختلافاً جذرياً. فالنفور الصوفي هروب أما النفور البدوي فهو ترفع وتسامٍ. النفور الصوفي هو يأس من هذا الجسد وخوف من مواجهة غرائزه واستسلام لهذا اليأس وذلك الخوف يتجلى في السعي لإفنائه وتدميره، أما النفور البدوي فهو تحدٍ لهذا الجسد وشجاعة في مواجهته واستعلاء وتفوق عليه وتحمل للمسئولية الأخلاقية تجاهه.
وفي سياق المقارنة بين الثقافتين تبرز الفلسفة الصوفية كرمز للأنانية وإيثار الذات من خلال تنصلها الكامل من مسئوليتها الاجتماعية والأخلاقية تجاه الوجود المادي، فهي لا تقدم أية رؤية أخلاقية، ولا تكترث بالقيم والمبادئ، ولا يعنيها ما يؤول إليه حال العالم من فساد أو صلاح أو خير أو شر، فكل هذه الأمور تستلزم الانخراط في الحياة بشكل أو بآخر، وهو ما تحرمه الفلسفة الصوفية بشدة، لأن أي انخراط في أي شكل من أشكال الوجود المادي من شأنه التشويش على عملية الاتصال الروحي مع الملكوت الأعلى، وبالتالي يحول دون انعتاق تلك الروح من سجنها الجسدي، فالصوفي لا يهتم إلا بتحرير نفسه من ذلك السجن، نفسه فقط، ومن بعده الطوفان.
لذلك لا يمكن أن نعثر للفلسفة الصوفية على أي تجسد مادي أخلاقي أو انعكاس إيجابي حقيقي على شكل الحياة فوق سطح الأرض، على العكس من ثقافة الصحراء التي بالرغم من غموض مصدرها الروحاني ومنبعها الوجودي إلا أن تجلياتها السلوكية في عالم الوجود المادي تظهر كم هو راقٍ وعظيم ومسئول ذلك المشروع الأخلاقي الذي تحمله هذه الثقافة إلى العالم.
وفي مقابل الفشل الذريع الذي منيت به الفلسفة الصوفية عندما عجزت عن تقديم حل للمشكلة الأخلاقية؛ نعثر في الجهة الأخرى من العالم على فشل نوعي آخر تعرض له فلاسفة الغرب عندما حاولوا التصدي لحل نفس المشكلة باستخدام العقل المجرد. لأن العقل المجرد هو –في النهاية- مادة، هو عضو فسيولوجي من أعضاء جسم الإنسان، يخضع لجميع المؤثرات البيولوجية التي تتحكم في بقية الأعضاء، فهو يستجيب لنداء البطن والفرج، وتستثيره الشهوة الغريزية نحو الطعام والجنس، ويتفاعل مع إرادة الحياة والبقاء والتكاثر، وهي إرادة ذات طابع فردي أناني بحيث تختلف في توجهاتها السلوكية والفكرية من شخص إلى آخر حسب طبيعة المصلحة الفردية لكل شخص على حدة.
يقول شوبنهور: "لا شئ أكثر إثارة وتهييجاً للأعصاب مثل ذلك الموقف عندما نحاول إقناع إنسان عن طريق الأدلة العقلية والبراهين المنطقية ونبذل جهوداً وألماً في محاولة إقناعه، ثم يتضح لنا أخيراً أنه لم يفهم وسوف لن يفهم، وأننا ينبغي أن نخاطبه عن طريق إثارة ما يريد ويرغب، أي عن طريق إرادته (شهوته). ومن هنا يتضح عدم فائدة المنطق. ولم يتمكن أحد إطلاقاً من إقناع أحد بالمنطق، وحتى علماء المنطق أنفسهم يستخدمون المنطق وسيلة لكسب العيش فقط. لكي تقنع إنساناً يجب أن تلجأ إلى إثارة مصلحته الشخصية، إلى رغباته وإرادته"......"أنظر كيف نتذكر انتصاراتنا مدة طويلة من الزمن وكيف ننسى هزائمنا بسرعة، إن الذاكرة خادمة الإرادة. إننا نخطئ في إعداد حساباتنا خطأ يكون في الأغلب لمصلحتنا أكثر مما نخطئ لمصلحة غيرنا، ويقع هذا الخطأ منا من غير أدنى قصد سيء من جانبنا، ومن جهة أخرى فإننا نلاحظ أن عقل أغبى إنسان يتحول إلى ذكاء مرهف عندما تكون المسألة المطروحة للبحث متمشية مع رغباته"......."إن أفضل طريقة لرؤية هذه العلاقة بين الإرادة والجسد هي العواطف".
إن العقل هو آخر ما يمكن الاعتماد عليه في حل المشكلة الأخلاقية العالمية، الأمر الذي يفسره عجز الإنسانية عن التوافق حول مرجعية أخلاقية حتى اليوم، بل وعجزها حتى عن صياغة تعريف واحد لمفهوم أخلاقي واحد يحظى بقبول عالمي. فلو أخذنا مفهوم العدالة –على سبيل المثال- باعتبارها الركيزة الأساسية التي يستحيل الشروع في بناء أي منظومة أخلاقية قبل التوصل إلى نوع من التوافق حول تعريفها وتوصيف كنهها (العدالة)؛ فإننا سنصاب بالإحباط من أول وهلة عندما نكتشف ذلك الكم الهائل من التعاريف المتناقضة والمتضاربة لمفهوم العدالة عند البشر، ناهيك عن بقية المفاهيم التي لا تقل كثيراً في أهميتها كالخير والشر والحق والباطل والصواب والخطأ والمعروف والمنكر وغيرها.
لا أحد من بني البشر يستطيع القول بأن العدالة شر وباطل ومنكر، كلنا –دون استثناء- نتفق على أنها خير محض، خير مطلق، خير بكل معنى الكلمة. وكلنا في نفس الوقت –دون استثناء أيضاً- يدعي امتلاكه لهذه العدالة دون سواه، وينفي –في نفس الوقت أيضاً- امتلاك من سواه لها، ويبرر أذيته للغير؛ بل وربما قتله وتدميره؛ بأن هذا الغير مجرد من العدالة التي تقف في صفه هو وحده، وأن عين العدالة هي قتل هذا الغير باسم العدالة، لأن هذا الغير لو تمكن مني فإنه لن يتردد في قتلي باسم نفس العدالة "أيضاً".
وعندما جاءت الأديان لتحل هذه المشكلة عن طريق الوحي الذي قدمته الأديان كمرجعية إلهية مقدسة لتعريف معاني الكلمات؛ وجدنا أن الطينة قد ازدادت بلة، فالنص المقدس مهما كان قطعي الثبوت إلا أن القطع بدلالته مسألة بلغت من الصعوبة حداً يمكن تشبيهه بولوج الجمل من سم الخياط، وذلك ليس من عيب في النص بقدر ما هو في تلك العقول التي تناولت النص بأنامل الهوى والشهوة وأدخلته طرفاً في معادلة الجسد بما يحويه من أعضاء بيولوجية (حيوانية)؛ وليس العقل سوى أحدها.
عندما قام ذلك الغلبان (عمانوئيل كانت) بمحاولته اليائسة لإنقاذ الفلسفة الغربية من الانهيار الذي كان يبدو محتوماً بسبب الفشل الذريع الذي مني به العقل المجرد أن يضع تعريفاً عالمياً للخير والشر والصواب والخطأ؛ اخترع المسكين عقلاً آخر، عقلاً خالصاً ادعى أن له القدرة على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل، فهو عقل ليس كبقية العقول، عقل متحرر من أي تأثير حسي، لا تشغله شواغل المادة ولا يذهب في اتجاه الهوى والشهوة ولا يتأثر بالنوازع البيولوجية. ادعى كانت أن العقل البشري يملك معرفة فطرية كامنة وخالصة من جميع الشوائب، وهي كافية لاستبصار حقائق الأمور والتمييز الصحيح بين الخير والشر والصواب والخطأ، إلا أن هذه المعرفة لا تلبث أن يصيبها الفساد عندما ينخرط الإنسان في تفاصيل الحياة وتعقيداتها وتجاربها القاسية والمتناقضة التي تنعكس آثارها السلبية على مدى صفاء وخلوص تلك المعرفة الفطرية، بالإضافة إلى التأثيرات الطبيعية لغرائز الإنسان الحيوانية التي من شأنها أن تعمي بصيرته وتطبع في سجيته خصال الكذب والخداع واللف والدوران حتى يحترف تزوير الحقائق وتشويه الوقائع وإعادة صياغة الأحداث بما يتوافق مع مصالحه الأنانية الخاصة؛ عندها تصيب الغشاوة بصيرته وتختلط لديه معايير الخير والشر والصواب والخطأ. ولكن برغم ذلك فإن العقل الخالص بإمكانه أن يعمل من جديد وأن يعود خالصاً كما كان إذا ما تمكنّا من تنقيته وتصفيته وتخليصه من جميع تلك الشوائب المادية، بمعنى أنه إذا أردنا أن نعرف الخير من الشر والصواب من الخطأ علينا أن نفكر بعقل متحرر من جميع المؤثرات الحسية، عقل خالص ومستقل تماماً عن كل المؤثرات البيئية التي تحيط به، وعن جميع مخرجات التجارب التي خاضها الإنسان وأضافت إليه معرفة حسية مكتسبة، وعن جميع الشهوات والرغبات والمطامع الدنيوية والنوازع الشخصية والطموحات الخاصة والتعصبات الحزبية والقومية والعقائدية والوطنية وحتى العائلية الضيقة، عندها فقط يمكن لهذا العقل أن يكون خالصاً ونزيهاً ومعيارياً بمعنى الكلمة.
ولكن كانت نفسه –قبل غيره- اكتشف وهو في سن اليأس أن عقلاً بهذه المواصفات لم يخلقه الله حتى الآن، وأنه لا يوجد عقل في هذه الدنيا –بما في ذلك العقل الخالص نفسه- يستطيع أن يثمّن مبدأ أو يقيّم فكرة إلا على أساس مردودها المادي العملي، بل وليس بإمكانه التفكير –بشكل عام- خارج إطار قانون السببية، وأن الأخلاق هي الشيء الوحيد في هذه الدنيا الذي لا يخضع لهذا القانون بأي شكل من الأشكال. يقول كانت في خاتمة كتابه المتأخر (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق): "وهكذا لن نتوصل في الحقيقة إلى فهم الضرورة العملية المطلقة للأمر الأخلاقي، ولكننا سنفهم منه على الأقل أنه يستعصي على الفهم، وذلك هو أقصى ما يستطيع منصف أن يطلبه من فلسفة تسعى بالمبادئ للوصول إلى حدود العقل الإنساني".
التعليقات (0)