إن هذه القضية هي أخطر قضية فلسفية على الإطلاق، إنها القضية التي استحوذت على أضخم جزء من الجدل الفكري في تاريخ الإنسان، ووقفت خلف جميع الصراعات الأيديولوجية على مدى التاريخ البشري، وبدون مبالغة؛ فإن التوصل إلى حل نهائي حول هذه الإشكالية من شأنه أن ينتقل بالإنسانية إلى بعد إدراكي آخر، ويعيد صياغة الأسس الفلسفية للفكر البشري، ويؤدي إلى إحداث تغيير هيكلي في شكل الحياة على هذا الكوكب.
ليس القرآن فقط؛ بل إن التوراة كانت أكثر تشديداً وتأكيداً على قضية الشعب المختار لقيادة البشرية وإمامتها ليس فقط فكرياً وثقافياً، بل وسياسياً واقتصادياً أيضاً، وحسب ما نفهمه من التوراة فإن الاختيار الإلهي لهذه المهمة لم يتم إلا على أساس العرق والنسل البيولوجي، وإنه ليس للاكتساب أي دور في الموضوع:
"فقال أبرام أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي. وقال أبرام أيضا إنك لم تعطني نسلاً، وهوذا ابن بيتي وارث لي. فإذا كلام الرب إليه قائلا: لا يرثك هذا. بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك" تكوين 15
"في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات. القينيين والقنزّيين والقدمونيين والحثّيين والفرزّيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين" تكوين 17
"وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديا. لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم. وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي. أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم، كل ذكر في أجيالكم. وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا" تكوين 17
"وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه اسحق. وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع اسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية. فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم. فاخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته وجميع المبتاعين بفضته، كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله" تكوين 17
إن نصوص التوراة لا تقدّم أي نوع من الاحترام للعقل البشري، لم تخاطبه يوماً بلغة يستطيع فهمها، لذلك فشلت قديماً وما زالت تسجل فشلاً ذريعاً في إقناعه بمصداقيتها، وبالتالي بمدى شرعية هذا العهد الإلهي وقداسته وضرورته الاجتماعية والثقافية بل والسياسية. إن المنطق الهش واللغة الركيكة التي تخاطب بها نصوص التوراة عقل الإنسان لتدل بشكل كبير على مدى ما لحق بهذه النصوص من تحريف وتشويه على أيدي كتبتها الأصليين من جهة ومترجميها من جهة أخرى، فالقضية الأم التي كتبت التوراة من أجلها هي قضية الشعب المختار، السوبرمان أو السوبرمِن، حتمية وجود الشعب الرمز، الشعب الكامل الذي يدير الحكومة العالمية الموحدة، يقود بقية شعوب العالم إلى برِّ الأمان، الشعب الإمام الذي يمثل الرمز الثقافي الأبدي لجميع أمم الأرض. ولكن التوراة سجّلت أقصى درجات الفشل في طرحها لهذه القضية عندما قدّمت أبناء إبراهيم كشعب إقطاعي جشع لا علاقة له بالإمامة الثقافية والروحية والإصلاح الاجتماعي والأيديولوجي بقدر ما ينصبُّ همه على سلب الأرض من أصحابها والتسلط على ثرواتها والاستحواذ على أرزاق أهلها واستعبادهم.
لقد أساءت التوراة إلى أبناء إبراهيم إساءة مزدوجة، فمنذ البدء طرحت نصوص العهد الإلهي لأبناء إبراهيم بصورة إقطاعية بشعة تفوح منها رائحة الجشع اليهودي المعروف والرأسمالية الانتهازية المجرّدة من كل معاني الأخلاق والإنسانية، لم تركز التوراة إلا على الأرض، ملكية الأرض وثرواتها ورقاب أهلها، كل ذلك مقابل قطعة جلد فاسدة يتم انتزاعها من لحم الغرلة، فظهر ذلك العهد وكأنه أكبر سرقة مقدّسة في التاريخ، عملية احتيال ضخمة يقوم بها شعب تافه وضيع لا يملك أي ميزة ثقافية أو أخلاقية تميزه عن بقية الشعوب، ولكنه يحمل في يده كتاباً يدّعي أنه مقدس، وأنه بموجب نصوص هذا الكتاب يحق له الاستحواذ على الأرض وكل ما ومن عليها دون مقابل، استحواذاً اقتصادياً صرفاً ليس له أدنى مبرر منطقي أو أخلاقي.
ولكي تزداد الطينة بلّة قدّمت التوراة أبناء يعقوب على أنهم الممثل الوحيد لأبناء إبراهيم، وهو تزوير جيني لا تقلّ بشاعته عن بشاعة سابقه، تزوير وراثي يحمل في طياته من الفساد والكذب ما عجزت التوراة نفسها عن إخفائه.
إن أكثر القصص إثارة للضحك والقهقهة في التوراة هي قصة حصول يعقوب على البركة من والده، أو بمعنى أدق؛ سرقة يعقوب للنسخة الأصلية من العقد الإلهي الموقع مع أخيه "عيسو"، وتزويره للاسم المكتوب في العقد، أي قيامه بمحو اسم "عيسو" من خانة "الطرف الثاني" وكتابة اسمه "يعقوب" في تلك الخانة، هذا هو المعنى الوحيد الذي يمكن فهمه من تلك القصة.
والأبشع من ذلك أن هذه القصة هي سبٌّ صريح لذات الخالق، واتهام علني له بأنه كائن غير عاقل وغير حكيم، يسهل خداعه بل إن عملية سرقته ونهبه هي أكثر يسراً وسهولة من سرقة تاجر بسيط، سبحان الله وتعالى علواً كبيراً.
تصوّر هذه القصة العهد الإلهي بأنه عبارة عن "شيك" مفتوح يصرف "لحامله"، بصرف النظر عن الطريقة التي حصل بها "حامله" عليه، سواءً سرقه أو اغتصبه أو حصل عليه بطريقة النصب والخداع، فهو عقد اقتصادي صرف لا يخضع إلا لقانون التجارة، ذلك القانون الذي لا يعترف إلا بالشطارة وسيلة وحيدة لنقل الملكية وتبرير كافة أشكال النهب والسلب والسرقة والاغتصاب، وإضفاء الشرعية على جميع أشكال الاستحواذ غير العادل لممتلكات الآخرين.
"وكان اسحق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجة رفقة بنت بتوئيل الآرامي أخت لأبان الآرامي من فدّان آرام. وصلّى اسحق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا. فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته. وتزاحم الولدان في بطنها. فقالت إن كان هكذا فلماذا أنا. فمضت لتسأل الرب. فقال لها الرب في بطنك أمّتان. ومن أحشائك يفترق شعبان. شعب يقوى على شعب. وكبير يستعبد لصغير. فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان. فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر. فدعوا اسمه عيسو. وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب. وكان اسحق ابن ستين سنة لما ولدتهما. فكبر الغلامان وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان البرية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام! فأحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا. وأما رفقة فكانت تحب يعقوب. وطبخ يعقوب طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت. لذلك دعي اسمه أدوم. فقال يعقوب بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو ها أنا ماض إلى الموت. فلماذا لي بكورية. فقال يعقوب احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس. فأكل وشرب وقام ومضى. فاحتقر عيسو البكورية. وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم. فذهب اسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين، إلى جرار. وظهر له الرب وقال لا تنزل إلى مصر. اسكن في الأرض التي أقول لك. تغرب في هذه الأرض. فأكون معك وأباركك. لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك. وأكثر نسلك كنجوم السماء وأعطي نسلك جميع هذه البلاد وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض. من اجل إن إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي. فأقام اسحق في جرار" تكوين 25
"وحدث لما شاخ اسحق وكلّت عيناه عن النظر انه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له يا إبني: فقال له: هاأنذا. فقال: إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي. فالآن خذ عدتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيّد لي صيدا. واصنع لي أطعمة كما أحب وأتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم اسحق مع عيسو ابنه. فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدا ليأتي به. وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلا. ائتني بصيد واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتي. فالآن يا إبني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به. اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين جيّدين من المعزى. فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب. فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته. فقال يعقوب لرفقة أمه هوذا عيسو أخي رجل اشعر وأنا رجل أملس. ربما يجسّني أبي فأكون في عينيه كمتهاون واجلب على نفسي لعنة لا بركة. فقالت له أمه لعنتك عليّ يا إبني. اسمع لقولي فقط واذهب خذ لي. فذهب واخذ واحضر لأمه. فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر. وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى. وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها. فدخل إلى أبيه وقال يا أبي. فقال هاأنذا. من أنت يا إبني. فقال يعقوب لأبيه أنا عيسو بكرك. قد فعلت كما كلمتني. قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك. فقال إسحق لابنه ما هذا الذي أسرعت لتجد يا إبني. فقال إن الرب إلهك قد يسّر لي. فقال اسحق ليعقوب تقدم لأجسك يا إبني. أأنت هو ابني عيسو أم لا. فتقدم يعقوب إلى اسحق أبيه. فجسّه وقال: الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه لان يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه. فباركه. وقال هل أنت هو ابني عيسو. فقال أنا هو. فقال قدم لي لآكل من صيد إبني حتى تباركك نفسي. فقدّم له فأكل. واحضر له خمرا فشرب. فقال له اسحق أبوه تقدم وقبّلني يا إبني. فتقدم وقبّله. فشم رائحة ثيابه وباركه. وقال انظر. رائحة إبني كرائحة حقل قد باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء. ومن دسم الأرض. وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب. وتسجد لك قبائل. كن سيدا لإخوتك. وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين. ومباركوك مباركين. وحدث عندما فرغ إسحق من بركة يعقوب ويعقوب قد خرج من لدن اسحق أبيه أن عيسو أخاه أتى من صيده. فصنع هو أيضا أطعمة ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك. فقال له اسحق أبوه من أنت. فقال أنا ابنك بكرك عيسو. فارتعد اسحق ارتعادا عظيما جدا. وقال فمن هو الذي اصطاد صيدا وأتى به إلي فأكلت من الكل قبل إن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركا. فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا. وقال لأبيه باركني أنا أيضا يا أبي. فقال قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال إلا إن اسمه دعي يعقوب. فقد تعقبني الآن مرتين. اخذ بكوريتي وهوذا الآن قد اخذ بركتي. ثم قال أما أبقيت لي بركة. فأجاب إسحق وقال لعيسو إني قد جعلته سيدا لك ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع إليك يا إبني. فقال عيسو لأبيه ألك بركة واحدة فقط يا أبي. باركني أنا أيضا يا أبي. ورفع عيسو صوته وبكى. فأجاب إسحق أبوه وقال له هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك. وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش. ولأخيك تستعبد. ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك. فحقد عيسو على يعقوب من أجل البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في قلبه قربت أيام مناحة أبي. فاقتل يعقوب أخي. فأخبرت رفقة بكلام عيسو ابنها الأكبر. فأرسلت ودعت يعقوب ابنها الأصغر وقالت له هوذا عيسو أخوك متسلّ من جهتك بأنه يقتلك. فالآن يا إبني اسمع لقولي وقم أهرب إلى أخي لأبان إلى حاران. وأقم عنده أياما قليلة حتى يرتد سخط أخيك. حتى يرتد غضب أخيك عنك وينسى ما صنعت به. ثم أرسل فآخذك من هناك" تكوين 27
ياله من استخفاف بالعقل الإنساني واحتقار لكل أشكال الوعي والإدراك، إنّ عهداً بهذا القدر من العظمة، ومنحة بهذا القدر من الضخامة ينتهي بها المطاف أن تباع في بورصة التوراة بصحن عدس أحمر ووجبة واحدة من اللحم المطبوخ.
إنّ قصة كهذه قد تكون مسلية لو تمّ عرضها كإحدى حلقات الـ "بِنك بانثر"، ولكنها لن تكون كذلك لو تمّ تقديمها كنصٍّ مقدّس يتحدّد على أساسه مستقبل البشرية إلى يوم القيامة.
لقد كتبت التوراة كلها على أساس هذه القصة، فكل حرف جاء بعدها كان مبنياً عليها، بل إننا نجزم أن التوراة لم تكتب أساساً إلا لتبرير هذه القصة والتأكيد على مصداقيتها. إن الغرض الوحيد الذي كتبت التوراة من أجله هو سرقة العهد من عيسو، هو تزوير العقد الإلهي الموقع من الله باسم "عيسو"، ولكن لماذا؟ هل هي غيرة أخوية طبيعية أم المسألة أعظم من ذلك؟ وهل الذين كتبوا التوراة هم من أبناء يعقوب فعلاً؛ أم إن أبناء يعقوب كانوا مجرّد طعم استُخدِم لتدمير ملة إبراهيم من قبل جماعة أجنبية لا علاقة لها بذرية إبراهيم من قريب أو بعيد؟
إن هذه القصة من شأنها أن تقدم لنا إجابات واضحة عن الكثير من الأسئلة حول طبيعة هذا الشعب الذي يسمي نفسه اليوم "شعب إسرائيل". لماذا امتاز الشعب اليهودي عبر تاريخه الطويل بأنه أكثر شعوب الأرض أنانية وطمعاً وجشعاً وحباً للمال؟ لماذا عُرف اليهودي في كل مكان نزل به أنه أكثر المخلوقات قدرة على الكذب والمخادعة والغش والنذالة والاستغلال والانتهازية؟ لماذا تواتر سكان الكرة الأرضية على الاعتقاد بأن كل مؤامرة دنيئة لا بد أن يقف خلفها يهودي، وكل منظمة سرية لا بد وأن يديرها يهودي، وكل عملية نصب أو احتيال ضخمة لا بد أن يشارك فيها يهودي؟
إنه دينهم، إنها توراتهم، إنها عقيدتهم ومنهج حياتهم، هكذا علّمتهم قصة يعقوب مع أخيه عيسو، وهكذا ربّتهم بقية نصوص التوراة. ولكن المسألة التي تثير دهشتي واستغرابي بالفعل هي كيف يمكن لشعب بهذه الصفات أن يتقدّم إلى العالم بعين قوية، ويدّعي بكل بجاحة وجرأة أنه الشعب الوحيد الذي اختاره الله لقيادة البشرية وإمامتها، وأنه أكثر الشعوب قدسية على وجه الأرض؟!!
إنّ شعباً يحمل كل هذه السجايا الدنيئة، وينسب نفسه جينياً إلى شخصية كشخصية يعقوب كما وصفوه لنا في توراتهم بأنه مؤسس مذهب الكذب والنفاق والمخادعة، ومخترع الجشع والأنانية والنذالة والانتهازية، وإمام المراوغة والنصب والاحتيال والطعن في الظهر، كيف لنا بعد ذلك أن نؤمن بصدق أخبارهم؟ كيف نصدّق بأن ما قدّموه لنا ككتاب مقدّس هو فعلاً كذلك؟ كيف يمكن أن نقتنع بأن التوراة التي يحملونها إلينا هي فعلاً من عند الله، وأنهم لم يحرّفوا إصحاحاً واحداً منها، بل ولم يخترعوها اختراعاً من جلدتها إلى جلدتها؟ ألم تشرّع لهم هذه القصة الضحك على الله والتحايل على أوامره وعهوده والتلاعب بمواثيقه وشرائعه وآياته؟ ألم تؤكد لهم هذه القصة على أن الكذب هو أقدس الطرق للحصول على البركة، وأن النصب والاحتيال والغش والمراوغة والتزوير والشطارة والفهلوة واللعب بالبيضة والحجر هي السبل الأكثر شرعية بل وقدسية لإجبار الله على الاعتراف بهم شعباً مختاراً لقيادة البشرية؟ ما الذي يمنعهم أن يحاولوا مخادعة الله والتحايل على أوامره وتشريعاته وتحريف مسار كل كلمة من كلماته ووضعها في غير موضعها تماماً كما فعل والدهم يعقوب من قبل؟
ترى أي أوامر الله كانت تحاول التوراة إخفاءه بل وطمسه تماماً من خلال اختراعها لقصة صحن العدس ووجبة اللحم؟ ولماذا؟
ما هو السرّ الذي يكمن في شخصية "عيسو" والذي أثار حفيظة كتبة التوراة إلى الحد الذي دفعهم لتسخير جميع نصوص التوراة لمحاربة عيسو وتهميشه وطمس معالم شخصيته وسرقة العهد منه ومن ذريته وتغيير مسار الإمامة المقدسة ونقلها إلى ذرية يعقوب بدلاً من ذرية عيسو؟ وكيف كانت خارطة العالم ستبدو لو أن عيسو تمكن من الاحتفاظ ببكوريته والحصول على بركته؟ وهل كان من الممكن أن تتغير الحياة على وجه الأرض تغيراً جذرياً لو أن إله التوراة رفض أن يقيم عهده مع يعقوب وذلك بموجب قانون " ما بني على باطل فهو باطل"؟
هل التوراة التي بين أيدينا الآن هي نفس التوراة التي نزلت على موسى والتي جاء القرآن مصدّقاً لها؟ وإذا لم تكن كذلك فما أصل هذه التوراة؟ من أين جاءت؟ ومن الذي كتبها؟ ولماذا كتبها؟
من هو عيسو الحقيقي؟ ومن هم ذريّته؟ وهل ما زالوا يعيشون بيننا حتى اليوم؟ وأين يعيشون؟ ما هي لغتهم؟ ما هي ثقافتهم؟ ما هي أخلاقهم؟ وما هي عقيدتهم؟
من هو إدوم؟ ومن هو إدون؟ ومن هو عديني؟ ومن هو عدنان؟ هل هذه أسماء لشخص واحد؟ أم هي صفة لشعب واحد؟ من هو هذا الشعب؟
هل كان بين كتبة التوراة وبين إدوم مشكلة شخصية؟ أم أن لديهم مشكلة حقيقية مع الثقافة الأدومية أو الأيديولوجية العدنانية لذلك سخّروا جميع قواهم وطوّعوا جميع نصوص التوراة لمحاربة ملة بني عدنان؟!
إن الجملة المفتاحية في هذه القصة هي تلك التي تتلخص تحديداً في الآيتين السابعة والعشرين والثامنة والعشرين من الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين: " فكبر الغلامان وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان البرية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام! فأحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا. وأما رفقة فكانت تحب يعقوب"كان عيسو صياداً؛ رجل قنص؛ إنسان برية، بينما كان يعقوب سواكنياً ابن بيوت. كان عيسو أشعراً مسترجلاً بينما كان يعقوب أمرداً ....، كان عيسو محبباً إلى قلب والده نبي الله إسحاق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، بينما كان يعقوب حبيب أمه.
إنه الصراع الثقافي الأزلي بين الثقافتين المتناقضتين تناقضاً مطلقاً، الثقافتين اللتين لم تلتقيا إلا في ساحات الصراع والتطاحن الفكري والسياسي والعسكري، الثقافتين اللتين لا يمكن أن تتعايشا بحال من الأحوال مهما حاولنا إجبارهما على ذلك، الثقافتين اللتين تحاول كل منهما التربع على عرش قيادة البشرية وإزاحة الأخرى عنه؛ وهي معركة بدأت منذ أول يوم تعرف فيه هذا الكوكب على كائن اسمه الإنسان؛ ولم تنته حتى يومنا هذا.
إنه الصراع الأزلي الأبدي بين ثقافة الصحراء وثقافة المدينة، بين ثقافة الرجولة والشجاعة والانطلاق والتحدي وثقافة الجبن والكسل والتقوقع والاستكانة والميوعة والتخنث، بين ثقافة المروءة والكرامة والشرف والشهامة والصدق مع النفس وثقافة الكذب والخيانة والغدر والنذالة والنفاق، بين ثقافة الأحرار وثقافة العبيد، بين أسنمة الإبل وأذناب البقر.
ولكن ترى أي هاتين الثقافتين اختارها الله بالفعل لتقود البشرية؟ وما معنى كلمة "خليفة" التي وصف الله سبحانه وتعالى بها آدم في الآية الثلاثين من سورة البقرة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)؟ وهل صحيح ما ذهب إليه ابن كثير بأن عبارة "خليفة" تنطبق على الجنس البشري برمته باعتبار البشر خلائف لبعضهم البعض، يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل؟ إذا كان كلام ابن كثير صحيحاً فلماذا لا تنصرف كلمة خليفة في هذه الآية على البهائم أيضاً، فهم أيضاً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل؟!
هل خلق الله آدم ليكون نائباً عنه في حكم الأرض؟ ليكون قائماً مقامه في قيادة الحياة على ظهرها؟ ليكون الناظر عليها والقائم بأمرها والمسئول عنها أمام الله؟ ليكون الحاكم بأمره والمتصرف باسمه والوالي المفوض الذي يملك كافة الصلاحيات الإلهية لإدارة هذا الكوكب نيابة عن الله؟
ولكن إدارة ماذا؟ إدارة الحياة الفطرية الطبيعية على وجه الأرض؟ إدارة عالم الحيوان أم عالم النبات أم ماذا بالتحديد؟ وهل تحتاج الحياة الفطرية لمن يديرها نيابة عن الله؟ ألم يودع الله سبحانه وتعالى في جميع العوالم الفطرية في هذه الطبيعة من القوانين الفيزيائية ما يمكنها من إدارة نفسها بطريقة أوتوماتيكية لا تحتاج معها لأي تدخل بشري؟ وماذا لو لم يخلق الله سبحانه وتعالى آدم؛ ألم تكن عوالم النبات والحيوان بل والجماد أيضاً تملك من القدرة الذاتية على البقاء والاستمرار بل وحتى التناغم فيما بينها ما يغنيها عن آدم وذريته؟ ألم يسئ الجنس البشري لهذه الطبيعة أكثر من إحسانه إليها؟ من خرق الأوزون وحبس الحرارة وأفشى الأمراض ونشر الأشعة النووية في أرجاء الأرض وفضائها وقلص مساحتها الخضراء ومسخ تركيبتها الكيميائية ولوث بيئتها وأفنى حياتها الفطرية وعبث في تناسب مكوناتها الطبيعية؟
هل كان النحل يحتاج إلى آدم كي يعلمهم كيف يصنعون خلاياهم ويديرون الحياة داخلها؟ أم كان العنكبوت يحتاج إلى آدم كي يصمم له شبكته؟ أم كان النمل يحتاج لمن يساعده في بناء بيته؟ ألم يودع الله سبحانه وتعالى في جينات هذه الكائنات من العلم الفطري والمعرفة الكاملة بكل ما يحتاجونه لإصلاح دنياهم ومعيشتهم ما لم يودعه في جينات آدم نفسه؟
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)
هل يعقل أن يجعل الله سبحانه وتعالى لنفسه خليفة فاسداً؟ هل يعقل أن يفوض الله حاكماً سفاحاً سفاكاً للدماء كي يحكم بأمره ويمثله ويقوم مقامه في إدارة الحياة على وجه الأرض؟ هل يعقل أن يعين الملك وزيراً فاسداً وهو يعلم بفساده سلفاً؟
إذاً ماذا كان يقصد الملائكة بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ هل يعقل أنهم كانوا يقصدون الخليفة (آدم) بهذا الوصف؟!
وإذا لم يكن خليفة الله فاسداً سفاحاً فمن الفاسد والسفاح إذاً؟ ألا يبدو إن معنى هذه الآية هو أكثر عمقاً من تسطيح ابن كثير له؟ ولماذا ذهب جمهور الفقهاء إلى الاستدلال بهذه الآية على وجوب الإمامة شرعاً؟ أليست الإمامة هي تلك الآلية التي يتم من خلالها اصطفاء فئة قليلة من البشر الحكماء الصالحين لقيادة تلك القطعان الضخمة من البشر السفهاء الفاسدين السفاحين الذين لا يملكون قدرة ذاتية على قيادة أنفسهم وضبط سلوكياتهم وتنظيم علاقاتهم الاجتماعية بما يحفظ لهم الحد الأدنى من التناغم كذلك الذي نجده في عالم الحيوان؟
إذاً من هو الخليفة هنا؟ الجنس البشري برمته والذي نصفه اليوم تجاوزاً ببني آدم؟ أم فئة قليلة جداً من هؤلاء البني آدم والذين اختارهم الله سبحانه وتعالى واصطفاهم ليمثلوه شخصياً في قيادة تلك القطعان الفاسدة السفاحة من الجنس البشري وإمامتهم والأخذ على أيديهم حتى لا يدمروا أنفسهم ويدمروا الكوكب؟
ألا تضعنا هذه الآيات أمام حقيقة مفادها أن الله سبحانه وتعالى خلق نوعين من الجنس البشري: نوع فاسد سفاح عديم الشيمة دنيء الخلق مجرد من المبادئ والقيم الإنسانية قد انحطت أرومته الثقافية إلى ما دون مستوى الحيوان، وهذا النوع بالرغم من ضرورة وجوده فوق سطح الأرض كعنصر أساسي من عناصر التوازن الطبيعي الفطري؛ وبالرغم من احتياج الطبيعة إلى مواهبه ومهاراته وذكائه العملي في عملية بناء هذا الكوكب وإعماره؛ إلا أنه من المستحيل تركه سائباً هكذا دون مراقبة وتوجيه وضبط وقيادة تدير تلك المواهب والمهارات وتوجهها نحو البناء لا الهدم، وإلا فإن أرومته الفاسدة المنحطة من شأنها أن تنحدر بهذا الكوكب ومن يسكنه نحو الهاوية، لذلك فقد خلق الله سبحانه وتعالى ذلك النوع الآخر من البشر، النوع الخليفة الذي أوكل إليه الخالق عز وجل مهمة الإمامة والقيادة الثقافية والفكرية والخلقية للنوع الأول، النوع الإمام الذي كلفه الله بالقيام مقامه في إدارة النوع الأول، النوع الراعي الذي عهد إليه الله بقيادة القطيع، فقطيع البهائم لا يملك القدرة لقيادة نفسه، والراعي يجب أن لا ينتمي إلى فصيلة القطيع، يجب أن لا يكون بهيمة مثلهم، فالبهيمة لا تقود بهيمة، والأعمى لا يقود العميان إلا نحو التيه والضياع، لذلك فإن الراعي يجب أن ينتمي إلى فصيلة أخرى، فصيلة سامية، فصيلة عاقلة، فصيلة لا تنتمي إلى عائلة البهائم.
قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 28-29.
ما قصة هذه النفخة؟ ولماذا؟
لماذا كان الكائن البشري هو الوحيد الذي حظي بها دون بقية الكائنات؟ لماذا لم ينفخ الله من روحه في أي من مخلوقاته سوى الإنسان؟ لماذا كانت أرواح جميع المخلوقات مخلوقة مثلهم عدا الإنسان الذي لم يخلق الله له روحاً بل نفخ فيه من روحه؟ هل يعني ذلك أن آدم ليس مخلوقاً كاملاً؟ وأن شخصيته تحتوى على قسمين: قسم مخلوق وقسم منفوخ، أي أنه نصف مخلوق، أما النصف الآخر فهو نفخة من روح الله؟
ماذا فعلت تلك النفخة في الإنسان؟ أي ما الميزة التي اكتسبها جراء هذه النفخة؟ ماذا أضافت إليه؟ وبماذا جعلته متميزاً عن بقية المخلوقات؟ وما العلاقة بين هذه النفخة وبين المهمة الفريدة التي أوكلها الله إليه، مهمة خلافة الله في أرضه والقيام مقامه في إدارة شئون البشرية؟
هل هي واضحة تلك العلاقة بين مقدار ما يجري في عروق بعض البشر من روح إلهية وبين ما ذكرناه سابقاً من اصطفاء الله سبحانه وتعالى لذلك البعض من البشر لقيادة وإمامة البعض الآخر؟ بمعنى آخر: هل ساهمت هذه النفخة في تحويل بعض البشر إلى رعاة، بينما تركت البعض الآخر على هيئة قطيع؟
ترى هل نستطيع تحمل مسئولية التفكر في هذه الآية: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)؟ تلك المسئولية التي يلزمنا بها إدراكنا بمدى قدسية تلك النفخة التي ما إن تغلغلت داخل عروق آدم حتى خر الملائكة بين يديه سجداً؟ ترى هل نستطيع تحمل تبعات هذا النوع من التفكر الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة مخيفة تتعلق بمدى قدسية هذا المخلوق وعظمته ورفعته وسموه وجلالة قدره، وأنه لا ينتمي إلى عالم الأرض قدر انتمائه إلى عالم السماء؟ ما معنى هذا الكلام؟
قال تعالى: (فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون. يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) الأعراف (22-27)
إنه لمن أكثر الظواهر غرابة في تاريخ هذا الكوكب ظاهرة اللباس التي تزامن ظهورها مع ظهور الإنسان على سطح الأرض، إنه الكائن البيولوجي الوحيد الذي يستحي من جسده فلا يريد أن يراه أو يريه للآخرين، لماذا؟ حتى عندما يصور الأنثروبولوجيون إنسان الهوموسابين يصرون على أنه كان يعرف اللباس ويستر عورته، بل وحتى طرزان الذي لم يعرف في حياته إنساناً قط بل تربى في الغابة بين الحيوانات إلا أن مخترعي هذه الشخصية لم يستطيعوا أن يتخيلوه يمشي عارياً في الغابة كزملائه الحيوانات، وعندما أرادوا تمييزه عن الحيوانات صوروه على أنه كان يستر عورته بأوراق الشجر.
ما سر هذا اللباس الذي نراه أوضح وأبرز ميزة ظاهرية للمخلوق البشري، إنه بالفعل أبرز العلامات الفارقة على الإطلاق التي يمكن بواسطتها التمييز بين الإنسان وغيره من المخلوقات؟!
لماذا يستحي الإنسان من جسده وخصوصاً أعضاءه الداخلية؟ لماذا يحتقر الإنسان جسده لهذه الدرجة، لدرجة أنه بات يستحي منه، يستحي من انتمائه لهذا الجسد أو انتماء هذا الجسد إليه، لدرجة أنه بات يخجل من كشف هذا الجسد ليس فقط أمام الناس بل حتى أمام نفسه؟!
لماذا كان مجرد الحديث عن الأعضاء الداخلية يثير في الإنسان مشاعر القرف والاستهجان والاشمئزاز حتى أنه اخترع عشرات الألفاظ والمصطلحات الرمزية التمويهية التي تعبر عن تلك الأعضاء بطريقة غير مباشرة كـ "المحاشم" و "المكواة" و "البومة" وغيرها من الكلمات التي تدل على استماتته في التهرب من مجرد ذكر أعضائه ذكراً صريحاً أثناء الحديث؟! بل وحتى أكثر الناس سفاهة وتفاهة وبهيمية تجدهم عندما يتذاكرون تلك الأعضاء تنتابهم حالات من القهقهة والتضاحك الهستيري غير المبرر منطقياً!
إن القطيعة بين الإنسان وجسده لا تقف عند مستواها الاجتماعي فحسب؛ بل إنها متغلغلة داخل أعماق الفرد لتسيطر حتى على نظرته الوجودية تجاه ذاته، بمعنى أنه لا يستحي فقط من كشف عورته أمام الناس بل حتى أمام نفسه، حتى لو كان جالساً بمفرده داخل غرفة نومه، مغلقاً على نفسه الباب، لا يوجد معه أحد، ولا يوجد احتمال بأن يدخل عليه أحد، نجده يستحي حتى من كشف عورته أمام نفسه، وهي قاعدة عامة لا يستثنى منها عرق أو جنس أو دين أو مذهب أو بيئة تربوية مهما كانت درجة تفسخها وانحلالها الأخلاقي!
بل إننا لو تجاوزنا العورة المغلظة إلى ما دونها لوجدنا أن الإنسان هو المخلوق البيولوجي الوحيد الذي يقرف ويشمئز من جميع مخرجات جسده، ليس فقط بوله وبرازه بل وحتى عرقه ومخاطه وبصاقه وقيحه وصديده ودمعه ودمه ودهن بشرته وقشرة رأسه، بل وحتى طعامه وشرابه، فنجده بمجرد شعوره بالشبع والامتلاء تتحول رائحة الطعام التي كانت تسيل لعابه قبل خمس دقائق تتحول إلى رائحة مقرفة تجعله يشعر بالغثيان فيسارع إلى الحمام كي يزيل جميع آثار الطعام والدهن الذي علق في يديه وشفتيه وأسنانه، بل إنه يشعر بالقرف والاشمئزاز بمجرد رؤية آثار بقايا طعامه على المائدة، أو بمجرد أن يشم آثار رائحة الشواء في المنزل. إنها قطيعة عجيبة بين الإنسان وجسده بشكل عام لا يشمل فقط منظر هذا الجسد العاري بل وجميع آثاره ومدخلاته ومخرجاته ومتعلقاته البيولوجية، وهذا النوع من القطيعة لا يمكن العثور عليه لدى أي كائن بيولوجي آخر.
عندما يتحدث الإنسان عن أحد أعضائه يقول: هذه يدي، هذه قدمي، هذه بطني، بل وهذا جسدي تماماً كما يتحدث عن أحد مقتنياته الشخصية عندما يقول: هذا قلمي، هذا كتابي، هذه سيارتي، هذا حماري، وهذه دابتي. ولكن من هو أنا؟ عندما يقول الإنسان: هذا أنا فهل يقصد بهذه الكلمة "أنا" جسده أو أحد أعضائه البيولوجية؟ أم أنه يشير بكلمة أنا إلى كينونة أخرى ذات بعد يتعدى حدود الملموس، إلى جوهر وجودي لا تتعدى علاقته بالجسد علاقة الإنسان بإحدى مقتنياته الشخصية.
وهكذا فحتى من خلال لغته المنطوقة يظهر مدى عمق تلك القطيعة اللاشعورية بين الإنسان وجسده لدرجة توحي وكأن هذا الجسد هو شيء خارجي منفصل عن جوهره الوجودي، وكأنه ليس جزءً أصيلاً في انتمائه إلى شخصيته الوجودية الحقيقية، بل هو مجرد إحدى مقتنياته الشخصية الخارجة عن ذاته الحقة والمنفصلة عن كيانه الأصيل، تماماً ككتابه وسيارته وحماره ودابته....إلخ.
إن علاقتي بمقتنياتي الشخصية –كسيارتي مثلاً- تتسم بشيء من الألفة والتقارب النفسي الذي يزداد اطراداً مع شدة التصاقي بها، والعكس بالعكس. ولكن هذا الالتصاق محكوم بمدى احترامي لتلك المقتنيات وتقديري لقيمتها الذاتية وفرحي وغبطتي بامتلاكي لها ومدى رغبتي بالاحتفاظ بها. فالتصاقي بسيارتي الجديدة والفخمة يختلف عنه جذرياً بالنسبة للأخرى القديمة المهترئه، فالأولى تجدني أفرح بركوبها وأتباهى بها وأطيل النظر إليها والجلوس بقربها وتلمس أجزائها وتحسس سطوحها الانسيابية الناعمة واستنشاق رائحة جلدها الطبيعي وتلابيسها الفخمة وإطالة التأمل في جمال تلك الأخشاب الطبيعية الملساء التي تزين زواياها وانعطافاتها الداخلية لتضفي عليها مزيداً من الأبهة والفخامة والنظرة الجمالية الفاتنة الخلابة. أما سيارتي الثانية (الكورولا 79) فتجدني لا أركبها إلا مجبراً ولا آخذها إلا في مشاوير البلد ولا أطيق الجلوس فيها طويلاً أو استنشاق رائحتها أو تلمس أجزائها أو حتى مجرد النظر إليها إلا لحاجة. ترى كيف يتعامل الإنسان مع جسده؟ هل كتعامله مع سيارته المرسيديس 2010 أم الكورولا 79؟
بالنسبة للإنسان ليس الجسد مجرد شيء خارجي منفصل كأي شيء آخر من ممتلكاته المادية، بل إنه يتعامل لا شعورياً مع هذا الجسد كأحقر ممتلكاته الشخصية وأتفهها وأكثرها إثارة للقرف والاشمئزاز ومدعاة للخجل والإحراج! إنه يقرف من منظر هذا الجسد، ويشمئز من مداعبة بعض أعضائه وتلمسها، ويشعر بالغثيان من رائحته الطبيعية، ويشعر بالخجل والإحراج من رؤية هذا الجسد عارياً على طبيعته فتراه يحاول جاهداً أن يستره بأنواع الأقمشة واللباس كما وكأنه يستر شيئاً معيباً؛ فضيحة لا يريد أن يطلع عليها الناس. تراه يحاول جهده تغيير رائحة هذا الجسد الطبيعية عن طريق الاغتسال المستمر بمختلف أنواع الصابون والمنظفات والمطهرات تارة؛ وبالاستخدام الكثيف لمختلف أنواع الروائح العطرية تارة أخرى. إنه يتعامل مع هذا الجسد وكأنه عار أو فضيحة لحقت بكينونته الوجودية والتصقت بها التصاقاً لا يمكن الانفلات منه؛ وفي نفس الوقت يصعب التعايش معه. كأنه يعتبر هذا الجسد أبرز نقاط ضعفه وأشدها إضراراً بجوهره الوجودي الأصيل، ذلك الجوهر الذي فقد الكثير من طهره ونقائه وصفائه الروحاني وقداسته الإلهية بعد أن التصق به هذا الجسد العار، الجسد الفضيحة.
قال تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)
يقول الشنقيطي في أضواء البيان: (دلت الآيات على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة فبدت سوءاتهما أي عوراتهما، وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة كما قال تعالى: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)...... واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه، فقالت جماعة من أهل العلم كان عليهما لباس من جنس الظفر فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقي على رؤوس الأصابع، وقال بعض أهل العلم كان لباسهما نوراً يستر الله به سوءاتهما، وقيل لباس من ياقوت، إلى غير ذلك من الأقوال، وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته ولا دليل على الواقع فيه. وغاية ما دل عليه القرآن أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما.... وأسند جل وعلا إبداء ما ووري عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان في قوله: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله: (كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)......).
كيف أصبح نزع اللباس هو الانعكاس المباشر للخطيئة؟! بل هو المظهر الأبرز وربما الوحيد للتعبير عن السقوط في أحضان الشيطان!
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) إذاً الهدف النهائي للشيطان هو نزع اللباس، وكما تمكن قديماً من إخراج آدم من الجنة بعد نجاحه في نزع لباسه؛ هو الآن يحاول الإبقاء على هذا اللباس منزوعاً لدى أبناء آدم كي يحول دونهم ودون العودة إلى الجنة.
(ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) في هذه الآية نستطيع أن نتحسس بعداً أنطولوجياً يكمن في هذا اللباس؛ فنزع اللباس هو بمثابة إلغاء تلك القطيعة بين الإنسان وجسده، وحسب التعبير القرآني الكريم هو انكشاف الإنسان على سوءته، وهو ما يعني رفع الحجاب الحاجز بين البعد الروحاني المقدس والبعد البيولوجي الحيواني في شخصية الإنسان.
(ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) نلاحظ هنا أن المسألة –في أساسها- لا تتعلق بالخجل الاجتماعي، إنها قضية شخصية بالدرجة الأولى، فاللباس الأول لم يكن الغرض منه مواراة سوءة آدم عن الناس؛ بل عن نفسه، كان بمثابة الحاجز النفسي الذي يحول دون اطلاع الإنسان على نقطة ضعفه الوحيدة؛ جسده، وكان نزع اللباس بمثابة انقشاع ذلك الحاجز النفسي، وكانت تلك هي الصدمة النفسية الأولى التي واجهها الإنسان عندما أدرك أن جزءً من شخصيته ينتمي إلى عالم الحيوان، وهي الحقيقة التي لم يشأ الله ابتداءً أن يكشفها لهذا المخلوق حتى لا تصاب معنوياته بالإحباط، ووريت عنه ابتداءً حتى لا تتحطم مشاعر القدسية والطهر والفضيلة في نفسيته، حتى لا تنهار ثقته بنفسه وبسموه الروحاني عندما يكتشف أن النجاسة والوضاعة والدونية الحيوانية قد باتت جزءً من شخصيته (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما).
في مقابل ذلك نجد الإرادة الإلهية تتجه بقوة نحو تعميق هوة القطيعة النفسية بين أقنومي الوجود الإنساني -الروح والجسد- ليجعل الله سبحانه وتعالى تلك القطيعة هي الوسيلة الأم لتقديس هذا الكائن وتمجيده وتعظيمه ووضعه في منزلة من الكرامة والشرف ترتفع به ارتفاعاً فلكياً عن مستويات بقية المخلوقات. فمن خلال تلك القطيعة المقدسة تتم مواراة ذلك الجزء الحيواني –الجسد- من شخصية الإنسان وعزله خلف سواتر الحجب والتهميش داخل المشهد الوجودي العام لتلك الشخصية، الأمر الذي يحجم دور الجسد ويقصيه إلى أبعد حد ممكن عن مواضع صنع القرار المصيري داخل الكيان الوجودي للشخصية الإنسانية. وعلى قدر نجاح الإنسان في إقصاء هذا الجسد وتحجيم دوره السياسي داخل الكيان الوجودي العام لشخصيته تتحول دفة القيادة السياسية إلى أقنومه الآخر –الروح- التي هي في الأساس جزء لا يتجزء من الله نفسه؛ نفخة من روحه (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما).
مهما حاولنا التحدث عن قداسة هذه الروح أو اجتهدنا في وصف مدى عظمتها وسموها فإننا سنظل بعيدين جداً عن بلوغ هدفنا، فاللغة المنطوقة أو حتى المخيلة التصويرية ليست مؤهلة لمجرد الاقتراب من التعبير عن تلك القداسة تعبيراً يجسدها في هيئة قابلة للتصور، وكل ما نستطيع فعله في هذا الجانب هو أن نقول بأنها نفخة من روح الله نفسه؛ وكفى. ولولا الحذر من خيانة التعبير لنا لقلنا أن الإنسان كان إلهاً قبل أن يلتصق به هذا الجسد، أو –حسب التعبير القرآني- قبل أن تبدو له سوءته.
وقبل الاسترسال في تفصيل هذه القضية يلزمنا الآن تلخيص ما تم طرحه في جملتين رياضيتين فنقول:
إذا كان اللباس هو الانعكاس الظاهري للقطيعة الوجودية بين أقنومي الشخصية الإنسانية؛ فإن التعبير الباطني عن هذه القطيعة يتمثل في ذلك الشعور الداخلي لدى الإنسان بالسمو والتعالي على طبيعته البيولوجية، وهو الشعور الذي نصطلح على تسميته لغوياً بـ "الشرف" أو "الكرامة" (Dignity).
وبالرغم من غموض هذا المفهوم "الكرامة" وعجز اللغة المنطوقة عن التوصل لتعريف دقيق ومحدد له؛ إلا أنه في سياق سعينا الدءوب لتقريبه إلى أذهاننا يمكننا المجازفة بالقول: إن الكرامة هي تلك السلوكيات التي يعبر الإنسان بها عن تبرئه من جزئه الحيواني، أو بمعنى آخر: هو إعلان الإنسان من خلال سلوكياته أن أقنومه الإلهي أو الروحاني هو السائد والمسيطر والمهيمن هيمنة مطلقة على شخصيته الوجودية، وهو بذلك يتنصل من تبعات انتماء الأقنوم الآخر إلى عالم الحيوان. وأهم تلك السلوكيات على الإطلاق هو اللباس.
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير)
لباس التقوى؛ لله دره من تعبير إعجازي. في هذه الآية جمع الله سبحانه وتعالى بين اللباسين موضحاً الأصل منهما والفرع، فاللباس الظاهري والريش ليس سوى انعكاس سلوكي لذلك الأصل النفسي للقطيعة الوجودية بين الروح والجسد، بمعنى أن اللباس الظاهري لا يعني شيئاً ما لم ينبثق من ذلك الأصل النفسي الذي سماه الله سبحانه وتعالى بلباس التقوى، فهل لباس التقوى –إذاً- هو الكرامة، والكرامة هي لباس التقوى؟
إذا كانت التقوى هي الفضيلة فهل الفضيلة شيء آخر غير الترفع والتسامي والتعالي فوق شهوات الجسد وغرائزه الحيوانية؟ أليست تلك الغرائز التي يشترك فيها الجسد البشري مع نظيره الحيواني هي السبب الوحيد لجميع الشرور والمفاسد والجرائم بل والمتاعب والآلام المختلفة في هذا العالم؟
إن جميع الدوافع السلوكية التي تحكم عالم الحيوان مصدرها هذا المربع الغرائزي: الجوع والجنس والبقاء والتكاثر، وهي نفس الغرائز التي تسيطر على الجسد البشري لتجعله يشترك مع الحيوانات في نفس دوافعهم ومحفزاتهم السلوكية بل وتطاحناتهم وصراعاتهم على سطح الأرض: الصراع من أجل الطعام والجنس والأمومة والبقاء. ولكن الصراع من أجل الكرامة لا يمكن العثور عليه إلا في عالم الإنسان فقط، لأنه الصراع الوحيد الذي لا علاقة له بالجسد، ليس نابعاً من الطبيعة البيولوجية الحيوانية للإنسان، إنه صراع من أجل الفضيلة، لذلك نجد الإنسان في سبيل دفاعه عن كرامته لا يضحي فقط بغرائز جسده وشهواته الحيوانية بل وبوجود هذا الجسد من أساسه، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يقدم على الموت دفاعاً عن كرامته وشرفه.
لو تأملنا في مفهوم الكرامة لدى الإنسان وما ينبثق عنه من مفاهيم أخرى تدور في فلكه كالمروءة والنخوة والعزة والتعفف والشجاعة والكرم والصدق والأمانة ومكارم الأخلاق لوجدناها جميعاً تصب في اتجاه التعالي على الجسد وملحقاته، التضحية بشهواته وغرائزه الحيوانية، والثورة على جميع مظاهر الرضوخ والانقياد لمتطلباته البيولوجية. إنه إعلان انتصار الروح وتربعها على جميع مراكز السلطة داخل الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية بعد إزاحة الجسد عن تلك المراكز. إنه لباس التقوى؛ ذلك الحجاب النفسي الحاجز بين الأقنومين والذي يجب أن يبقى متيناً صامداً يحول دون اختلاطهما وتمازجهما. لباس التقوى ذلك المعول الذي لا يفتأ يزيد في أخدود تلك القطيعة النفسية عمقاً واتساعاً، لباس التقوى الذي يمكن تشبيهه بالتوتر السطحي (Surface tension) الفاصل بين الماء والزيت داخل الإناء الواحد بحيث لا يسمح لأي منهما بالتمازج مع الآخر، فيبقى الماء ماءً خالصاً والزيت زيتاً خالصاً.
إن اختلاط الروح بالجسد يفقدها طهرها ويدنس أرومتها ويعكر صفاءها وينال من سموها وقدسيتها، عندها لن تصبح تلك الروح معياراً حقيقياً للفضيلة بعد أن تتغير طبيعتها وتفقد مصداقيتها المرجعية، إنها وظيفة الكرامة أو لباس التقوى أو التوتر السطحي: أن يبقى الماء ماء والزيت زيتا داخل هذا الإناء.
إن الصراع الذي يدور داخل إطار الذات الوجودية للشخصية الإنسانية الواحدة –بصفتها الفردية- ما هو سوى نموذج مصغر لكافة الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية -بمعناها الشمولي- بين الجماعات البشرية التي عاشت وتعيش على هذا الكوكب منذ خلقه الله وحتى نهاية العالم. داخل الإطار الوجودي الذاتي لكل فرد هنالك محاولة مستميتة لكل من الأقنومين لانتزاع السلطة من الآخر وإقصائه عن مراكز صنع القرار، أما ساحة هذا الصراع فهي ذلك الحد الفاصل بين الأقنومين والذي يمثل نقطة التماس الحدودية بين مجاليهما السياسيين، وأعني به نقطة التوتر السطحي أو لباس التقوى أو مشاعر الكرامة والشرف. فبينما يحاول الأقنوم الروحاني المقدس إجبار الجسد على الانسحاب والتقهقر والانزواء والتقوقع والتحجم خلف جدار الكرامة العازل –لباس التقوى- يحاول الشيطان –في المقابل- إحداث ثغرة ما في هذا الجدار أو شق في هذا اللباس تتمكن من خلاله حيوانية الجسد من التسلل إلى داخل نطاق الطرف الآخر والنيل من سلطته السيادية على الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية بغرض المشاركة في صنع القرار السياسي داخل تلك الشخصية؛ بل وربما اختطاف ذلك القرار بشكل كامل. إن انتصار الجسد –الذي هو رمز الخطيئة، رمز الشر، ورمز الحيوانية- مرهون بانتصار الشيطان في نزع الأسلاك الحدودية الشائكة التي تفصل بين الأقنومين وتحطيم ذلك الحاجز النفسي الذي أقامته الروح ليحول دون انكشافها على حقيقة طالما هربت من مواجهتها: وهي أن لها شريكاً حيوانياً نجساً يشاطرها نفس الغرفة الوجودية (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما).
كي نستطيع تصور ملابسات هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً علينا أن نتأمل تلك المصطلحات التي نتفق جميعاً على تعاكسها المطلق وتعارضها وتضادها مع مفهوم الكرامة والشرف، مصطلحات مثل: الكذب والنفاق والرياء والخيانة والغدر والغش والاحتيال والمراوغة والنذالة والبخل والجبن والجشع والطمع والأنانية والانتهازية والاستغلال، لنجدها تعبر بشكل صارخ عن انتصار الجسد وهيمنة غرائزه الحيوانية على الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية، ولكنها لم تعد الآن إنسانية بعد أن سيطرت عليها غرائز الحيوان؛ الجسد. إننا نجد جميع تلك الصفات والسلوكيات الخسيسة تتمحور أنطولوجياً حول هذا المربع الغرائزي الحيواني: الجوع، الجنس، البقاء، والتكاثر. بينما نجد "الكرامة" وملحقاتها لا علاقة لها بهذا المربع من قريب أو بعيد، بل هي العدو اللدود لجميع أضلاع هذا المربع.
فلنرجع هنا لقصة يعقوب وعيسو كي نقف من خلالها على جوهر الصراع الأزلي بين أقنومي الوجود الإنساني، بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، بين ثقافة الروح وثقافة الجسد. فبينما كان عيسو يرمز للبراءة والطهر والصدق والعفاف والوفاء والإخلاص ونقاء السريرة؛ كان يعقوب يرمز للخبث والخيانة والغدر والنذالة والكذب والنفاق والطمع والجشع والأنانية والانتهازية والحسد والحقد والغيرة. كان عيسو يمثل الشجاعة والرجولة بينما كان يعقوب يمثل الجبن والميوعة والتخنث. كان عيسو راعياً بدوياً صياداً يسكن الصحراء، أما يعقوب فهو نموذج الحضري المتمدن السواكني المستقر جغرافياً المتمسك بالمكان المتشبث بالأرض. كان يعقوب مزارعاً يقتات على الحبوب ويتقن طبيخ العدس، تلك الطبخة التي لم يعرف عيسو طريقة إعدادها لأن العدس لا ينبت في الصحراء.
في مبحث "حضارة العبيد" أوضحنا حقيقة أنثروبولوجية في غاية الأهمية والخطورة طالما دأب الأركيولوجيون على إخفائها جهلاً أم تعمداً: وهي أن الزراعة لم تنتج الحضارة، ولكن الطبيعة السيكولوجية للمخلوق الحضري هي التي أجبرته على التقوقع والاستقرار داخل حدود جغرافية ثابتة بدافع من عنصري الجبن والكسل المهيمنين على تركيبته النفسية هيمنة مطلقة، فلجأ إلى التحصن بالأرض والتشبث بتربتها حتى استعبدته وسخرته لخدمتها، عندها لم يجد سوى زراعة تلك الأرض كوسيلة أساسية وربما وحيدة للعيش.
ونحن هنا نريد أن نتمم الشق الثاني من هذه النظرية، الشق الذي يتعلق بالإنسان الآخر، الإنسان غير الزراعي، غير الحضري، غير العبد، الإنسان الحر، الإنسان الرعوي أو الصياد أو الصحراوي فنقول:
عندما اختار الإنسان الصحراوي العيش في الصحراء بكل ما فيها من أخطار وتحديات فإنه لم يفعل ذلك خوفاً من الجوع أو الموت أو التعب، لم يفعل ذلك هرباً من البرد والقيظ والخطر والمعاناة الجسدية، لم يفعل ذلك رغبة في الراحة والاستقرار أو بحثاً عن الأمان والسكينة. ولكنه كان مدفوعاً بذلك الحجم الهائل من الكرامة التي سيطرت على كينونته الوجودية وشكلت أكبر دافع نفسي يحكم قناعاته ويوجه سلوكياته، فاختار التضحية بهذا الجسد وملحقاته على العيش في ظل ثقافة العبودية داخل المدينة. أبت عليه كرامته أن يكون عبداً للأرض بل سيداً لها، وتعالت همته وعزة نفسه فوق حاجة جسده إلى الراحة والأمان ما دامت كرامته وحريته هي الثمن لتلك الراحة ولذلك الأمان.
لقد اختار الإنسان الصحراوي حياته بمحض إرادته، لم تفرضها عليه الظروف البيئية الخارجية، بل طبيعته النفسية الداخلية. لقد كانت صحراؤه محاطة من جميع أطرافها بتلك الأماكن التي تصلح للاستقرار الجغرافي: الأنهار وأحواضها الخصبة، والبحار بأسماكها الوفيرة ومرافئها التجارية المترفة، ولكنه رفض جميع تلك السجون الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية بالرغم من جميع عروضها المغرية لجسده وغرائزه الحيوانية، وقرر العيش حراً طليق الروح في أكثر البيئات قسوة وخطراً وتهديداً لسلامة جسده وبقائه.
عندما أرادوا تزوير التاريخ لم يكن يلزمهم سوى تحويله إلى أساطير وحكايا سندبادية حدثت في الماضي وانتهت عند حدوده، مجرد قصص ووقائع ميتة ليس لها أي امتداد زمني خارج إطار الحقبة التاريخية التي حدثت فيها. عندما أرادوا تزوير تفاصيل تلك القصص والوقائع والآثار التاريخية وتغيير معطياتها وتفسير معانيها وإعادة صياغة مراميها ودلالاتها كيما تصب في النهاية داخل قالب فكري يتطابق مع أهدافهم الأيديولوجية؛ لم يكن يلزمهم سوى عزلها عن أي نموذج واقعي معاش ملموس محسوس مرئي متجسد معاصر يمكن من خلال دراسته دراسة علمية تجريبية أن نفهم جذور نشأته الأولى وأصوله الأنثروبولوجية التي خرج من رحمها، والمتمثلة في تلك الوقائع والآثار التاريخية السحيقة. عندما قطعوا تلك الصلة بين الماضي والحاضر هم زوروا وشوهوا الاثنين معاً.
فلنفرض أنهم سمعوا عن هبوط وإقلاع طبق طائر في منطقة نائية فذهبوا يستطلعون الأمر فلم يجدوا سوى جثة هامدة لمخلوق فضائي ميت، ولكنه يختلف من الناحية البيولوجية اختلافاً جذرياً وتاماً عن أي مخلوق بيولوجي يعيش على سطح الأرض، أي أنه لا يوجد له أي مثيل حي يمكن مقارنته به، فأرادوا بشكل من الأشكال أن يدرسوا هذا المخلوق علهم من خلال تشريح جثته يخرجون بفائدة علمية واحدة عن كيفية عمل أعضائه أو حتى طريقة حياته وشكل بيئته الجغرافية. فوضعوا هذا المخلوق على طاولة التشريح وجاءوا بجميع علماء التشريح ووظائف الأعضاء وعلماء الأنسجة والخلايا والكيمياء الحيوية والهندسة الجينية وخلافه، فوجدوا أن هذا المخلوق لدية أربعة قلوب وخمسة عيون وثلاثة أفواه ومعدتين وتسعة أعضاء تناسلية وعدد كبير من الأعضاء الأخرى الغريبة التي لا يوجد ما يماثلها في عالم الحياة على كوكب الأرض. ترى هل يمكن لأي تقنية على وجه الأرض أن تتوصل لمعرفة ما عن طبيعة تكوين هذا الكائن وآلية عمل أعضائه دون وجود نموذج حي يمكن مطابقته ومقارنته به؟
عندما يقولون أنهم توصلوا إلى حقائق تاريخية ثابتة وقطعية باعتمادهم فقط على المكتشفات الأركيولوجية والوثائق الأثرية والنصوص التاريخية الميتة التي لم تغادر صفحات مراجعها العتيقة والتي لا يربطها بالواقع المعاش أي علاقة تناسلية ولا ينحدر من صلبها أو يمثلها في عالم الحياة المعاصرة أي نموذج حي؛ فإنهم بذلك يزعمون أن بإمكانهم –فقط- من خلال تشريح جثة ذلك الكائن الفضائي الميت أن يعرفوا كل شيء عن شكل الحياة على ظهر الكوكب الذي تنتمي إليه تلك الجثة.
إنه لمن أكبر الفضائح العلمية تلك الدكتاتورية المخزية التي تمارسها المؤسسات التربوية الرسمية بالتعاون المريب مع الإعلام الرسمي العالمي فيما يتعلق بعلم الاجتماع وعلم الآثار والأنثروبولوجيا، لقد أصدروا قرارهم النهائي غير القابل للاستئناف بخصوص حتمية النشوء والترقي حتى بات متهماً في عقله كل من حاول التفكير خارج هذا الإطار، وبات يخشى من التعريض بدارون كل من يهمه الحفاظ على سمعته العلمية أو لقمة عيشه في أي مجال من مجالات البحث العلمي، تماماً كما يخشى الآن على مستقبله الوظيفي في السلك الدبلوماسي كل من يحاول الحديث –مجرد الحديث- عن المبنى رقم (7) في حادثة الحادي عشر من سبتمبر.
ومن بين جميع الآراء الأنثروبولوجية التي قد تكون أكثر حججية ومنطقية من رأي بن خلدون؛ نجدهم قد تبنوا آراء هذا الأخير وحولها إلى نصوص سماوية مقدسة من شأنها أن تحول معارضيها إلى أتباع للشيطان وتخرجهم من الملة العلمية خروجا لا يقبل الاستتابة، تلك الآراء التي طورها تلامذته المتأخرون أمثال أوجست كونت وسبنسر ومورجان وغيرهم.
لقد أفتى كونت بأن المجتمع البشري يسير بخطى ثابتة نحو نبذ البداوة والتخلي عن جميع مظاهرها وآثارها، والتحول المطرد باتجاه التمدّن والتحضّر على اعتبار المدنية هي غاية الرقي الفكري والثقافي والاجتماعي بشكل عام، ويسترشد كونت بنظرية النشوء والترقي حيث يشبّه المجتمع البشري بالكائن الحي الذي نشأ أول ما نشأ من خلية بدائية بسيطة ثم أخذ في التطور والترقي البيولوجي متأثراً بعوامل البيئة والمناخ ومتكيفاً معها ليتحول مع الزمن لكائن متعدد الأجهزة معقد التركيب متخصص الوظائف، ومن ثم استمر هذا الكائن في مسيرته التطوّرية ليتحول من حيوان شبيه بالقردة إلى آخر شبيه بالإنسان إلى إنسان منتصب القامة في شكله المعروف حاليا. من هذا المنطلق يعتبر كونت أن المجتمع البدوي هو الصورة البدائية المتخلفة للمجتمع الإنساني الناضج، وأن المجتمع المدني المتحضر هو الغاية التي لا بد أن يصل إليها بنو البشر بعد إكمالهم لمراحل النمو الفكري والعقلي ووصولهم لغاية النضج الثقافي والإنساني. لذلك نجد كونت يسمي المجتمع البدوي بالمجتمع البربري إشارة لعدم اكتمال إنسانية هذا المجتمع، وتشبيها له بالإنسان القرد أو المخلوق منحني القامة "الشبيه بالإنسان".
وفي ذلك يقول بن خلدون في مقدمته: "أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه، ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما، لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة، وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم. والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته"
وعلى هذا الأساس قسّم أوجست كونت التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل: مرحلة العصور القديمة، ثم مرحلة العصور الوسطى المسيحية، وأخيرا مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية. حيث يرى أن العقل البشري قد مرّ في كل مرحلة من هذه المراحل بعملية تطور ونضوج فكري وثقافي جعلته يبتكر طريقة أرقى في التعامل مع قوانين بيئته الطبيعية، وبالتالي تطورت أنظمته الاجتماعية تطورا مطّردا مع نمو قدرات الإنسان العقلية.
فالفكر الإنساني –في نظر كونت- الذي كانت تسيطر عليه السّمة اللاهوتية في العصور القديمة؛ أصبح يميل إلى الفلسفية الميتافيزيقية في العصور الوسطى، ثم انتقل بعد الثورة الفرنسية إلى المرحلة العلمية الوضعية، وهو بهذا المفهوم لم ولن يتوقف عند هذا الحد، بل إن عملية التطور الارتقائي في الفكر الاجتماعي ماضية في سبيلها دون كلل أو ملل مع استمرار الحياة البشرية على سطح الأرض.
ثم أتى هنري مورجان ليؤكد في كتابه "المجتمع القديم" على هذا المفهوم، مدعياً أن جميع المعطيات التاريخية تثبت أن الثقافة تتطور في مراحل متتابعة، وأن ترتيب هذه المراحل هو ترتيب حتمي، وأن محتواها محدد لأن العمليات العقلية تتشابه بين الناس في ظل الظروف المتشابهة مهما اختلفت المجتمعات. وقد قسم عملية تطور المجتمعات الإنسانية إلى ثلاث مراحل أيضاً: المرحلة البدائية وهي مرحلة العصر الحجري، تليها المرحلة البربرية وهي مرحلة المجتمع البدوي ذو الطابع الرعوي في الشرق والزراعي البسيط في الغرب، وأخيرا مرحلة التحضر والمدنية التي بدأت منذ اختراع الكتابة.
أما سبنسر فاختصر مراحل التطور الاجتماعي والثقافي إلى مرحلتين: الأولى تتمثل في المجتمع البدوي الذي يغلب عليه الطابع العسكري؛ فهو مجتمع غزو وفروسية وقتال، ويتميز أفراده بالقسوة والجلافة والجرأة والشجاعة، وتسود فيه قيم الإباء والكرامة والشرف والعزة، وهو مجتمع رجولي بامتياز، تغلب عليه الخشونة والتوحش والبربرية، ولذلك فهو –في نظر سبنسر- أقرب للحيوانية والوحشية البدائية منه للإنسانية. أما المرحلة الثانية للتطور الإنساني فهي مرحلة المجتمع الحضري المتمدّن الذي يغلب عليه الطابع الصناعي، حيث يتحول أفراده إلى حياة الاستقرار والدعة والمسالمة، وتتلاشى فيه ثقافة الحرب والفروسية، ويمتهن أهله الحرف والمهن المتخصصة وتظهر بينهم المهارات اليدوية والمواهب الفنية فيميلون للنعومة والراحة والترف والبذخ وسهولة العيش.
ولكن الانتقال من المرحلة البدائية الأولى إلى المرحلة المتقدمة، أو من المجتمع البدوي العسكري إلى المجتمع الحضري الصناعي، لا يتم –من وجهة نظر سبنسر- بالسهولة التي يمكن تخيلها أو بنفس التبسيط الذي ادعى به أسلافه، حيث يشبّه سبنسر عملية الانتقال هذه بالثورة التطورية التي حدثت للإنسان القرد (أو المخلوق الشبيه بالإنسان) عندما تحول إلى إنسان منتصب القامة. فعملية التحول الثوري هذه التي مر بها الإنسان القرد قد عملت عملها في كل خلية من خلاياه حتى لم يبق عضو أو جهاز من أجهزته الحيوية إلا استحالت طبيعته وتغيرت خصائصه وأُعيدت هيكلة تركيبته البنيوية جذرياً. بذلك يكون سبنسر قد أسس لمدرسة جديدة في علم الاجتماع سُميت فيما بعد بالمدرسة البنائية الوظيفية، والتي انضم إليها أشهر رجالات علم الأنثروبولوجي أمثال دوركايم وباريتو وتالكوت بارسونز وغيرهم.
تتلخص نظريات هذه المدرسة في تشبيه المجتمع البدوي بالجنين في بداية مراحل تكوّنه داخل الرحم، عندما يكون في شكله البدائي البسيط الذي لا تظهر فيه تلك الأجهزة المتخصصة والأعضاء ذات الاستقلال الوظيفي النوعي، بل إن جميع خلايا جسده تكاد تكون متشابهة وظيفياً وبنيوياً بحيث لا يمكن التفريق بين بعضها البعض إلا بالوسائل المجهرية. ولكن لن يستمر هذا الوضع طويلا؛ فسرعان ما تبدأ تلك الخلايا بالتكاثر العددي حتى يبلغ الجنين حجما يستحيل بعده الاستمرار في النمو دون حدوث تحول نوعي في كافة خلايا جسده، فتظهر من تلك الخلايا كتل مستقلة تنمو بمعزل عن بقية الجسد فيتغير شكلها وتتخصص وظائفها وتتحول إلى أجهزة مستقلة تقوم بمهمات محددة ذات طابع أكثر تعقيدا واحترافية، في نفس الوقت الذي تحتفظ تلك الأجهزة بعلاقتها النوعية مع الجسد الأصل بحيث لا تستطيع الحياة خارجه ولا يستطيع الحياة بدونها.
وهكذا فإن المجتمعات تبدأ بسيطة وتتحول بالتدريج من مجتمعات بدوية إلى مجتمعات مركبة، ويتحول المركب إلى مركب المركب، إلى أن يظهر المجتمع الصناعي الذي يتميز بشدة تعقيده الوظيفي والبنيوي. وكلما ازداد عدد السكان وتضخم حجم المجتمع ازداد تعقيده وتخصصه.
فالمجتمع البدوي يخلو من المؤسسات المتخصصة والنقابات والمنشآت الاقتصادية والإدارية المستقلة ذات الطابع الاحترافي. ولا يوجد به أحزاب سياسية أو تجمعات فكرية ذات اتجاهات عقائدية مختلفة. ولا تحكمه سلطة قمعية واضحة المعالم أو تنظمه مؤسسات دستورية محددة ذات أنظمة ثابتة وقوانين مكتوبة. فتوزيع المهام والأعمال بين أفراد المجتمع البدوي وتقسيمهم إلى جماعات وظيفية متخصصة يبقى في أدنى مستوياته، ومن النادر أن تجد فيهم من يقتصر جهده على نوع واحد من الوظائف الاجتماعية، بل إنهم يشتركون تقريبا في كل شيء بحيث يستطيع كل واحد منهم أن ينوب عن الآخر في أداء أي وظيفة اجتماعية مهما كان مجال تخصصها.
إن الرهان في هذه المسألة ينصب على عنصرين رئيسين: قوة السيطرة الإعلامية والدعائية لأباطرة الماسونية العالمية من جهة، واطمئنانهم المطلق لمدى الغباء والبلاهة والغيبوبة الفكرية المطبقة التي ينعم في كنفها السواد الأعظم والغالبية الساحقة من مواطني كوكب الأرض. كيف استطاعوا تمرير تلك الأكذوبة السخيفة حول ارتباط الرقي الفكري والأخلاقي والثقافي بالتقدم الحضاري والمدني والصناعي، كيف حولوا هذه الخرافة التافهة إلى حقيقة علمية ثابتة لا تقبل النقض أو حتى النقاش، وتتبناها جميع الأوساط العلمية والإعلامية العالمية دون تحفظ؟ ألا تصب هذه المهزلة الفكرية في نفس القالب الذي تنتمي إليه قصة يعقوب وعيسو التوراتية؟ ألم تراهن التوراة على نفس العنصرين السابقين في ترويجها لهذه القصة؟ لماذا لم يحدث أبداً أن استوقفت قصة يعقوب وعيسو أحداً من نقاد التوراة أو علماء اللاهوت عبر التاريخ؟ أم أن هنالك أيدٍ خفية تعمل منذ الأزل على إسكات جميع الأصوات وربما تصفية جميع العقول التي تشكل تهديداً على عملية التنويم المغناطيسي الشامل لقطعان البهائم في سبيل ترويضهم لتقبل فكرة أفضلية يعقوب على عيسو باعتبار يعقوب ممثلاً لثقافة المدنية والحضارة؛ أما عيسو فهو الذي يرمز للأقنوم الآخر؟
عندما قام تاجر المواعظ أحمد الشقيري بحمل أجهزته وكاميراته وجر حاشيته وفريقه الإعلامي وطار بهم في رحلة مكوكية إلى كوكب اليابان لينفق هنالك ملايين الدولارات كي يعرض علينا تلك الصور الملائكية عن كلاب اليابان بهدف إخراجنا من الظلمات إلى النور عندما نتعلم معاني الرحمة والإنسانية والرفق بالحيوان من طريقة معاملة اليابانيين لكلابهم، ولكن الغريب حقاً أن الفنان أحمد الشقيري لم يفكر يوماً في الخروج بكمرته قليلاً خارج حدود جدة في اتجاه صحراء البلاد التي يدعي انتماءه لها، مسيرة بضع ساعات فقط في عمق الصحراء القريبة منه ليصور للناس كيف يتعامل جيرانه البدو مع إبلهم، نحن نتفهم أن تصوير إبل النفوذ ليس مربحاً إعلامياً كتصوير كلاب اليابان؛ ولكن كان عليه أن يقدم –على الأقل- شيئاً بسيطاً من الاحترام لسمعة البلاد التي استضافته ومنحته جنسيتها فلا يكذب عليها وعلى أهلها في وسائل الإعلام ويصورها كبلاد لا يعرف أهلها شيئاً من معاني الرحمة والرأفة والإنسانية والرفق بالحيوان لذلك يحاول هو –مشكوراً- إقناعهم بتعلم هذه المعاني والقيم من كلاب اليابان.
إن أرض المملكة العربية السعودية هي التربة التي خرجت من رحمها ثقافة الصحراء قبل آلاف السنين، ثم كبرت وترعرعت هذه الثقافة فوق رمالها حتى بلغت أشدها لتنطلق من قلب هذه الجزيرة وتكتسح العالم في موجات متتابعة عبر حقبات التاريخ المختلفة. ولكنها اليوم بعد أن تمكنت ثقافة المدينة من فرض نفسها بقوة الحديد والنار على هذا الكوكب برمته اضطرت ثقافة الصحراء للانسحاب والاختباء في الرحم الأول الذي خرجت منه، فلم يبق اليوم من يمثل قيم الصحراء سوى المملكة العربية السعودية، وباعتبارها كذلك فمن المفترض أن يكون أهلها هم أكثر الناس وعياً ودراية بهذه القيم والمبادئ، إلا أن غلبة ذلك الخليط الديموغرافي الهجين على أطراف هذه البلاد بل وزحفهم المطرد نحو قلبها بات يشكل خطراً حقيقياً محدقاً على ثقافة هذه البلاد الأصيلة بل ويهددها بالانقراض والتلاشي التام من الوجود خصوصاً بعد أن زاد نباح ذلك الهجين وتعالت أصواتهم في وسائل الإعلام وهم يقدمون أنفسهم كممثلين أصلاء لثقافة الصحراء وهم في الحقيقة لا ينتمون إليها ولا علاقة لها بهم من قريب أو بعيد.
ترى هل شاهد هذا الشقيري يوماً راعياً من رعاة الإبل وهو يمشي حافياً فوق الرمال الحارقة والشمس فوق رأسه عمودية كقطعة من جهنم، وقربة الماء على كتفه يشرب منها أحياناً ويدلق أحياناً على رأسه قطرات من هذا الماء حتى لا يذوب دماغه من شدة اللهب، وهو يصبر على ذلك ساعات وساعات لا يكل ولا يمل ولا يتأفف أو يضجر، يقفز خلف هذا البعير تارة ويفزع وراء تلك الناقة أخرى حتى لا تأخذها أقدامها على حين غفلة إلى ناحية الطريق السريع حيث لن ترحمها هنالك سيارات المسافرين المدنيين الذين يسيرون بسرعات جنونية كي يقلصوا قدر الإمكان من عدد الساعات التي يقضونها في تلك الصحراء الحارقة القاحلة بالرغم من أن سياراتهم المزودة بمكيفات هوائية لا تزيد درجة حرارة كابينتها الداخلية عن العشرين درجة مئوية في أقسى الظروف. لماذا لم يحاول الشقيري وأمثاله أن يستخلص شيئاً من العبر أو يقدم حلقة من مواعظه الملائكية عن الرحمة والإنسانية والرفق بالحيوان لدى رعاة الإبل وسكان الصحراء؟
هل يعقل أن الشقيري لم يسافر يوماً في حياته عبر طريق سريع يقطع إحدى المناطق الصحراوية في المملكة؟! ولو أنه فعل ذلك هل كان سيلاحظ تلك الأسلاك الحديدية الحاجزة التي تمتد لآلاف الكيلومترات على جوانب الطرق الصحراوية، والتي بذلت في سبيل تشييدها حكومة بني عدنان عشرات المليارات من الريالات حتى تحمي حيوانات الصحراء من التعرض للدهس؟ هل كان الشقيري سيلاحظ تلك المئات من الجسور والكباري على امتداد الطرق الصحراوية السريعة والتي شيدتها حكومة أبناء الصحراء خصيصاً من أجل عبور الجمال فقط؟ ترى هل كانت ثقافة الرفق بالحيوان لدى أبناء الصحراء ستلفت شيئاً من أنظار الشقيري أم أن كلاب اليابان قد ذهبت تماماً بتلك الأنظار؟!
عندما هب كلاب الصحافة شتماً وسباً وتسفيهاً لمهرجانات مزاين الإبل متهمين القائمين عليها بالعبثية والسخافة وتضييع المال والوقت والجهد فيما لا طائل منه، لم نجدهم يوجهون أياً من تلك الاتهامات لمواعظ الشقيري الملائكية التي صورها في تلك الأجواء الروحانية داخل نوادي الكلاب الصحية المزودة بحمامات السونا وبأفضل تقنيات العناية بالشعر والبشرة؟ لماذا لم يعتبروا –على الأقل- أن مزاين الإبل هي استجابة متواضعة من قبل الشعب السعودي لموعظة الشقيري؟
عندما أراد الشقيري أن يثبت لنا بالدليل القاطع أن التقدم الحضاري والمدني والتكنولوجي لابد وأن يصحبه حتماً رقي فكري وخلقي وأنساني، وأن القيم والمبادئ الإنسانية السامية لا يزيدها التطور الصناعي إلا سمواً؛ قدم لنا صاحبنا ذلك النموذج الإنساني الرائع في تعامل اليابانيين مع ذوي الاحتياجات الخاصة عندما صمموا شوارعهم بطريقة تجعل الأعمى قادراً على السير فيها بمفرده دون الاستعانة بمرافق أو معين من البشر. ولكن ترى لماذا يحتاج الأعمى في اليابان لذلك الكم الهائل من التقنيات التي تمكنه من الاعتماد على نفسه بشكل كامل وفي جميع أموره الحياتية؟ لماذا لم تفكر حكومة بني عدنان أن تستورد تلك التقنيات من اليابان برغم قدرتها على ذلك؛ وبرغم وجود أعداد كبيرة من ذوي الاحتياجات الخاصة في المملكة؟
برغم من أن الإجابة واضحة للأعمى إلا أن الشقيري وأمثاله هم آخر من يمكنه ملاحظتها. ففي ثقافة الصحراء العدنانية يعتبرونه من أعلى درجات العيب والعار والفضيحة الأخلاقية أن يتخلى الأقرباء والجيران عن قريبهم وجارهم المعاق فيتركونه يقضي حوائجه بنفسه، من أعلى درجات العيب والعار أن تجد كفيفاً عدنانياً يمشي في الشارع بمفرده دون مرافق، هم لا يسمحون له بذلك حتى لو أصر عليهم. في ثقافة الصحراء لا يحتاج ذوي الاحتياجات الخاصة لأي أجهزة تعينهم على قضاء حوائجهم لأن جميع من يحيط بهم من الأقارب والجيران هم أجهزة بيولوجية لهم. ولو أن اليابانيين وجدوا في مجتمعهم هذا النوع من الإنسانية والرحمة والرقي الأخلاقي لما اضطروا للاتكال على الحديد.
إن صفة واحدة فقط من الصفات الأخلاقية التي اشتهر بها إنسان الصحراء السعودية حصرياً دون غيره من البشر من شأنها –إذا ما تمت دراستها أنطولوجياً- أن تنسف جميع صروح علم الاجتماع من أساساتها، إنها صفة الكرم، ليس الكرم بمفهومه الدلالي لدى سكان الحاضرة، بل الكرم العربي الأصيل الذي لا يمكن الوقوف على دلالاته الحقيقية إلا من خلال التجربة العملية، إلا من خلال القيام بزيارة ميدانية لصحراء النفوذ.
فالجوع هو أحد أبرز الغرائز الحيوانية، هو أحد أضلاع المربع الغرائزي الذي يتحكم بشكل مطلق في جميع دوافع الحيوان ويوجه كافة سلوكياته، وهو بذلك أحد أبرز الموجهات السلوكية في مجتمع المدينة حيث سلّم الإنسان المدني قياده بالكامل لغرائز جسده فأصبح أقنومه الحيواني هو القائد الأعلى والحاكم المطلق على كينونته الوجودية. وعندما يتحدث المدني عن الكرم فهو يشير إلى ضرب من ضروب التعاملات التجارية التي تصب في مفهوم "خذ وهات، أمسك لي وأقطع لك".
وبدافع من غريزة الجوع الحيوانية نجد العلاقة بين أفراد المجتمع الحضري قائمة فقط على المصالح الشخصية والمنافع المادية، مؤشر التعاون بينهم في أدنى مستوياته، وروح التكاتف والتآزر لا ترى بالعين المجردة. التضحية والإيثار والفداء وبذل النفس من أجل الآخرين؛ مصطلحات تثير فيهم الضحك وتبعث على التندر والسخرية، ويتبعها كذلك الكرم والعطاء والنجدة والشهامة والمروءة، فحب الدنيا وعشق متعها زرع في نفسية المدني جميع أنواع الأنانية وحب الذات، وشدة تعلقه بأمواله وممتلكاته وخوفه من فقدانها طبع شخصيته على البخل والطمع والجبن والهلع، فنجد المجتمع كلما استغرق في المدنية كلما ازدادت هذه الصفات في أفراده ظهورا حتى تصبح النذالة نوعا من الذكاء والحنكة، ويصبح الكذب والمخادعة والمراوغة نوعا من الشطارة والفهلوة.
تقوم المدنية على الحرف الرئيسة الثلاث: الزراعة والصناعة والتجارة، وتتفرع كل منها إلى فروع وأقسام. والمدني لا يخرج عن كونه إما رأسماليًّا ثريا يملك إقطاعية زراعية أو منشأة صناعية أو شركة تجارية، وإما عاملا أجيرًا يعمل بالسخرة لصالح فرد من أفراد الطبقة الأولى؛ فحياة المدني صراع دائم من أجل المال، ليس فقط بين هاتين الطبقتين كما يدّعى ماركس، بل بين كل فرد والآخر، فكل شخص ينظر إلى ما في يد الآخر، ويتمنى زوال النعمة عن صاحبه وتحوّلها إليه، ويحقد على كل من استطاع أن يحصل على لقمة أكبر من تلك التي في فمه.
فالعامل يحقد على زميله إن تفوق عليه في الأداء والإنتاج، ويحيك المؤامرات ضده إن تقدم عليه في المرتبة الوظيفية، ويعمل المستحيل ليعيق تقدمه الوظيفي حتى لا يزيد مُرتّبه عن مرتبه، ففي جو السخرة هذا يسود النفاق وترجح كفة الرياء والمداهنة وتعلو كلمة النذالة والخسة وتسيطر على الناس طبائع الذل والعبودية من أجل كسرة من الخبز قد تغني وقد لا تسمن من جوع.
والتاجر دائمًا ما يرى في نجاح تجارة غيره كساد لتجارته، وفي مكسب منافسيه خسارة له، وبما أن النجاح التجاري دائما ما يقاس بكثرة المبيعات، فإن التنافس بين التجار ينحصر في نهاية المطاف داخل إطار التسويق والترويج الدعائي للسلع، وبمعنى آخر يصبح مقدار نجاح التاجر مرهونا بمدى قدرته على الضحك على ذقون المستهلكين ودفعهم بكل الوسائل لشراء سلعته والزهد في سلعة غيره، وجذبهم بكل أنواع الخداع اللفظي والمكر التسويقي والبرمجة الإيحائية والحيل البصرية بل والإثارة الجنسية حتى يشتروا كل ما لا يحتاجونه من سلع بالتقسيط المريح الذي هو في النهاية نوع من الانتحار البطيء. والمشتغل بالتجارة –سواء كان عاملا أو رب عمل- يخضع لدورات مكثفة في كيفية الحصول على لقمة عيشه عن طريق الكذب والنفاق والمكر والخداع واللعب بالعقول والمشاعر والإثارة والإغراء وأكل أموال الناس بالباطل، حتى يبني بيته على أنقاض بيوت الآخرين، وينتزع لقمته من أفواه المحتاجين.
في هذا الجو من التنافس الذي يسميه أصحابه بالشريف، تتراجع القيم الأخلاقية ويسود قانون الغاب، قانون إن لم أقتلك فإنك ستقتلني، إن لم أخدعك فإنك ستخدعني، إن لم أسلب ما في يدك فإن أحداً ما سيسلبه بدلاً مني، لا مكان للمروءة، لا مكان للمبادئ، بل ولا مكان للشفقة والرحمة، فكل شيء معروض للبيع، وكل شيء قابل للشراء.
وعلى النقيض تماما من المجتمع الرعوي؛ لا يجد العاجزون عن العمل في مجتمع المدينة من يعولهم أو يرعاهم، بل قد يتنكر لهم أقرب الناس إليهم. فالنزعة الفردية والطبيعة الأنانية والشخصية المادية لأهل الحاضرة قد عملت عملها في معايير الإنسانية وقيم الأخلاق والمبادئ. وعندما افتقر أهل المدينة لما يتمتع به البدو من صفات المروءة والنخوة والشهامة والحمية والعزوة والنجدة؛ لجئوا لابتكار وسائل أخرى تعزز الجانب الإنساني في المجتمع الحضري كالجمعيات الخيرية ومؤسسات الخدمة الاجتماعية، ولكن هيهات أن تقوم هذه مقام تلك.
فتلك الجمعيات والمؤسسات لا تقدم خدماتها للمعاقين والعجزة والمقعدين والضعفاء مجانا دون مقابل، بل إنها تحولت إلى وسائل للدعاية والإعلان يستخدمها التجار والرأسماليون للإعلان عن أسمائهم والترويج لشركاتهم ومؤسساتهم، أو ربما تستخدم لتدريب أولئك المعاقين والمقعدين على أنواع من الحرف والصنائع البسيطة كيما يتم استعمالهم فيما بعد للعمل بالسخرة في تلك المؤسسات والشركات بأجور متدنية جداً مقارنة بالأصحاء، وبذلك يتم استغلالهم حتى النفس الأخير، وكله في سبيل الله!!.
وعلى الرغم من الثراء النسبي والترف وسهولة العيش في المدينة مقارنة بالبادية؛ إلا أن الأمراض النفسية التي يعاني منها المدنيين لا يعرفها سكان البادية إلا فيما ندر، فالضغوط النفسية الناتجة عن التفكك الاجتماعي والصراع الدائم حول لقمة العيش وما يفرضه من ذل واستعباد وهدر للكرامة وإزهاق للقيم والمبادئ الأخلاقية السامية؛ كل ذلك أدى لتدهور الحالة النفسية وتدني الروح المعنوية لسكان المدينة بكافة مستوياتهم الاجتماعية. بل إنه من أكثر الدراسات النفسية إثارة للدهشة تلك التي أثبتت أن ارتفاع مستوى المعيشة والمعدل العام للأجور في البلدان المتحضرة دائما ما يصحبه ارتفاع في معدلات الانتحار. فلقد كانت البلاد الزراعية في أوروبا في القرن التاسع عشر (كالبلقان وروسيا) أكثر فقرا من البلاد الصناعية في غرب أوروبا، ومع ذلك كانت معدلات الانتحار أكثر انخفاضا في البلاد الزراعية الفقيرة عنها في البلاد الصناعية الغنية. ولقد كانت أوروبا ككل في القرون الوسطى أكثر فقرا من أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومع ذلك كانت معدلات الانتحار فيها خلال العصور الوسطى أكثر انخفاضا بصورة واضحة عنها في المجتمع نفسه خلال القرنين الأخيرين.
نظر البدوي إلى أهل الحاضرة فوجدهم لا يختلفون عن أدنى فصائل البهائم شيئا، وجد الواحد منهم على أهبة الاستعداد للتضحية بأي شيء مقابل المال والمادة، وجد أن إشباع شهوة البطن والفرج أهم عندهم من جميع القيم والمبادئ والأخلاق، وجد أن الشرف والكرامة وعزة النفس ليست سوى سلع تباع وتشترى في أسواق المدينة مثلها مثل الطماطم والخيار.
عندما وجد البدوي أن حياة السخرة قد قتلت في إنسان المدينة كل معاني الإنسانية أدرك أن كلمة "إنسان" لا يجب أن تطلق على أحد من أهل الحاضرة، وعندما يتحدث البدوي عن حقوق الإنسان فإنه يستثني الذين لا يخضعون عنده لهذا التعريف، بل وعندما يتحدث عن الرفق بالحيوان فإنه يستثني الحشرات الضارة.
عندما احتقر أبناء الصحراء الأعزاء مهنة السخرة؛ احتقروا كذلك جميع من يمتهنها ويتخذها مصدرا للعيش، واعتبروا كل من يعمل في الصناعة والزراعة والتجارة إنسانا غير منتصب القامة، ومخلوقا لا ينتمي لعالم البشر انتماء حقيقيا، فالإنسانية عندهم قيم روحية ومبادئ أخلاقية سامية أكثر منها حضارة مادية، ومدنية آلية، وشهوة حيوانية.
والسخرة أثبتت لهم أنها ليست مجرد مهنة، بل هي ثقافة متكاملة تجبر أهلها على التطبع والتكيف والتأقلم النفسي والخلقي بتلك الطباع والسمات التي تتطلبها أعمال السخرة والخدمة كالنفاق والرياء والكذب والمداهنة والتذلل والغش والمخادعة ودناءة النفس والنذالة والأنانية...الخ.
والسخرة تقتل في النفس كرامتها وعزتها وعفافها وشرفها ومعانيها السامية وأخلاقها الرفيعة. لذلك لم تكن نظرة البدوي إلى الحضري تحتوي على شيء من الاحترام أو التقدير مهما كان ماهرًا في أداء عمله ودقيقا في القيام بصنعته الحرفية، فالعبرة ليست في المهارة والفن بقدر ما هي في الخلق والطباع.
والبدوي لم يضع ثقته في حضري يوما مهما أبدى هذا الأخير من مظاهر الإخلاص والولاء، فدناءة النفس ونذالتها تكسبها استعدادا فطريا للغدر والخيانة والطعن في الظهر لأتفه الأسباب.
لم تكن منزلة الحضري عند البدوي تفوق منزلة أكثر البهائم والحيوانات خسة وحقارة ودناءة، بل إن كثيراً من فصائل حيواناتهم كانت أعز عندهم من أهل الحاضرة، فالحيوان له منافع كثيرة، أما الإنسان عديم الشيمة والأخلاق فضرره أكثر من نفعه.
إن تلك النظرة الدونية من قبل أهل البادية تجاه أهل الحضر وسكان المدن كانت دائما ما تظهر بجلاء ووضوح كلما حصل احتكاك ما بين هذين الشعبين، فعندما غزت الشعوب الآرية شمال الهند سجل التاريخ عنهم أقصى درجات الاحتقار والازدراء تجاه سكان الهند الأصليين (التشودرا) الذين حولهم الآريون البدو إلى عبيد وخدم لا ترتفع منزلتهم عن حمير الأسفار بحال. ولم يكن الموكينيون الآريون الذين غزو اليونان في القرن الخامس عشر قبل الميلاد أكثر احتراما لسكان اليونان الأصليين (الكنعانيين والفينيقيين والفلسطينيين) فالممالك الموكينية الأولى لم تعترف -ليس فقط- بمواطنتهم بل ولا حتى بإنسانيتهم.
عندما يقول بن خلدون: أن "التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة، وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم" فإن ابن خلدون إما جاهل أو كذاب، أو أنه لم يعرف على الحقيقة أحداً من البدو الأصلاء، أولئك الذين لا يمكن العثور عليهم إلا في صحراء النفوذ. إن الواقع المعاش هو خير ما يمكن الاستدلال به على بطلان دعاوى بن خلدون وتلامذته، ومن هذا المقام نحن ندعو جميع الباحثين ومن له اهتمام بعلم الاجتماع أن يقوموا بزيارة ميدانية لهذه الصحراء كي يقفوا بأنفسهم على الحقيقة، ونقترح عليهم إجراء استفتاء يتكون من سؤال واحد فقط يطرحونه على كل فرد من أبناء تلك الصحراء: هل أنت مستعد أن تترك هذه الصحراء وتبيع إبلك وتنتقل بعائلتك للعيش في المدينة بصفة دائمة في حال حصولك هناك على وظيفة ذات مرتب كبير ومنزل فخم وسيارة فارهة؟ إن نسبة الذين سيجيبون بـ "نعم" على هذا السؤال ستكون مفاجأة تقع على الباحثين كالصاعقة.
التعليقات (0)