مواضيع اليوم

أذناب البقر(2)

محمد سرتي

2009-12-29 06:40:08

0


بقي أن نتحدث بإيجاز عن أهم وأبرز تلك الطقوس العبادية السحرية، وهي الممارسات الجنسية، أو البغاء المقدس، والذي كان له أكبر الأثر ليس فقط في بناء تلك المدنيات بل وفي استمرارها وبقائها وانتشارها وتضخمها وتطورها المطرد منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، وهو حديث يجب أن يبدأ بدراسة سريعة حول الرمز الجنسي الأول؛ الأنثى المقدسة.
وإذا أردنا التحدث بداية عن نظرة ذلك الكائن الزراعي الأول تجاه الأنثى أو التعرف على وضعية المرأة ومكانتها في العرف والتراث المدني القديم؛ علينا أن نبدأ من الميثولوجيا السومرية؛ وخصوصاً تلك التي تتحدث عن بدء الخليقة. ففي كتابه (Sumerian Mythology) ينقل صمويل كرامر عن السومريين اعتقادهم بأن الكون لم يكن في بداية أمره سوى كائن كثيف تحيط به المياه من كل جانب، ثم تحول هذا الكائن إلى زوج ملتصق من ذكر يدعى "آنو" وأنثى تدعى "كي"، حيث تم بينهما تزاوج ما نتج عنه مولود ذكر اسمه "إنليل". بعد ذلك قام إنليل بفصل أبويه الملتصقين بعضهما عن بعض، فرفع والده آنو إلى أعلى لتتكون منه السماء، وهبط بوالدته "كي" إلى أسفل فتحولت إلى كائن يسمى "الأرض"، أما إنليل فأصبح رب الفضاء الذي يفصل بين السماء والأرض. ولكن إنليل هبط إلى الأرض وتزوج بوالدته فأنجب منها بقية الآلهة، والذين أطلق السومريون عليهم لقب "أنوناكي"، أو "عائلة الأنوناكي الإلهية". ومن هذه الأسطورة يتبين لنا كيف كان المخلوق الزراعي الأول لا يعتبر الأرض مجرد حجر جامد بل كائن حي مؤنث تتجسد فيه جميع صفات الأنوثة الكاملة، وأهم تلك الصفات هي الأمومة بكل عناصرها الجنسية والتناسلية.
فالأنثى لم تكن في نظرهم مجرد مخلوق، بل هي الأساس المنتج للحياة، هي مصدر التكاثر والتناسل، وهي سبب البقاء والاستمرار بما توفره من غذاء طبيعي لأبنائها الصغار من جهة وملجأ آمن وحصن متين ضد الأخطار التي تهدد حياتهم وبقاءهم من جهة أخرى. بمعنى آخر كانوا يؤنثون الأرض ويؤرضون الأنثى، فالتربة الخصبة هي رحم الأرض الذي يمتص الماء الذكوري المتدفق من صلب السماء، لتحبل الأرض بأعشابها وخضرتها وأشجارها المثمرة، أما الثمار فهي اللبن الطبيعي المتقطر من أثداء الأرض ليتغذى عليه أبناؤها المدللون. نظر المزارع القديم إلى الأرض فتخيلها أنثى ممددة على فراش الزوجية؛ ظهرها إلى الأسفل وقبلها موجه ومفتوح نحو السماء؛ وضعية زوجة على أهبة الاستعداد للجماع. أما السماء فقد جعلتها أساطير المدنيين ذكراً متخذاًً هو الآخر وضعية الجماع والمضاجعة الجنسية مع امرأته الأرض؛ هابطاً عليها بوجهه من الأعلى ليصب ماءه التناسلي داخل رحمها المفتوح على الدوام، إلا أن هذا الذكر لا يتمتع بصفات الذكورة الكاملة، فرغبته الجنسية ضعيفة؛ ليست كرغبة الأرض المتحرقة شوقاً على الدوام، ماؤه شحيح لا يتدفق إلا في المواسم والمناسبات، واستعداده للمضاجعة ليس قوياً في جميع الأوقات، بل يتطلب نوعاً من الإغراء والاستمالة، وربما الاستجداء والاستعطاف في بعض الأحيان.
والسماء في أساطيرهم لم يكن زوجاً ووالداً مثالياً بل على العكس من ذلك، فهو لم يكن يسكن معهم في المنزل بل كان يقبع بعيداً هناك في الأعلى، كانوا يعيشون مع والدتهم الأرض التي تحتضنهم فوق سطحها وترعاهم وتحميهم بأطرافها وجلدها الدافئ وتخرج لهم قوتهم من أحشائها وتقوم على كفالتهم وإعالتهم مدى الحياة ثم توفر لهم بعد الوفاة مرقداً يستر جيفهم المتعفنة أن تنكشف عورتها فتفضحهم، أما والدهم الغائب والبعيد فهو شبه هاجر لهم ولوالدتهم، هو زوج متعال متغطرس وجاحد، ينظر إليهم من فوق نظرة المتفرج الغريب، لا يمد لهم يد المساعدة والعون ولا يزورهم إلا في مواسم الأمطار، وزياراته القليلة تلك كانت كزيارات عابر السبيل، كزوج المسيار الذي لا يأتي إلا نادراً ولغرض الجماع فقط، ثم ما يلبث أن يختفي إلى أجل غير مسمى، بل إنه حتى في زياراته تلك لم يحمل معه قط هدية يقدمها لهم أو صحن طعام يفرحون به أو حتى قطعة من حلوى، كان يأتي لوالدتهم من بعيد يرش رحمها بزخات من مائه الجنسي الزائد عن حاجته، ثم يترك لها بعد ذلك مهمة التعامل مع هذا الماء والاستفادة منه بطريقتها الخاصة لتحوله إلى طعام لصغارها كي لا يموتوا جوعاً. ياله من زوج لعوب ووالد قاسٍ، ولكنه مع الأسف يظل المصدر الوحيد للتخصيب، وتبقى الأرض وأبناؤها في حاجة دائمة إلى مائه الذي لا بديل عنه سوى الموت، لذا كان على والدتهم الحنون أن تستجلب لهم هذا الماء بأي طريقة ومهما كلفها ذلك من ثمن، كان عليها ألا تتوقف عن استثارة شهوة السماء وإغرائه وإغوائه بكل ما لديها من حيل وتقنيات حتى تتمكن من اجتذابه نحو فراش الزوجية وإبقائه في غرفة النوم أطول وقت ممكن، بل ويجب أن تتذلل له وتدلـله بشتى الوسائل حتى تضمن عودته إليها وعدم هجرانه للمنزل مدة طويلة.
إن تعلق المزارع بأرضه لا يختلف عن تعلق الطفل الرضيع بوالدته الحنون، فجميع مقومات حياته تتوقف على ما تجود به تلك الأرض من خيراتها عليه وعلى حيواناته المنزلية، وعلى قدر ما تملكه الأم من ثروات؛ تنعكس مردوداتها على حياة أبنائها ورفاهيتهم، فالأرض الغنية تفيض موائد أصحابها سمناً ولبناً وعسلاً، أما الأرض الجدباء فهي الوالدة التي تستحق العقوق. هكذا نظر المزارع إلى المرأة على أنها مصدر العطاء والبذل والتدليل والإمتاع، وهكذا عبد الأرض على أنها مصدر الثراء الذي لا ينضب، مصدر الأمان الغذائي الأبدي، الحضن الدافئ الحنون، الأمومة الغريزية التي تمنح أطفالها كل شيء دون مقابل يذكر، التي تنفق عليهم نفقة من لا يخاف الفقر في مقابل القليل والقليل فقط من العمل الفلاحي الموسمي. فالأنثى المقدسة التي عبدها المخلوق الزراعي القديم في صورها التجسدية المختلفة كالأرض والشمس والمرأة والبقرة وغير ذلك؛ لم تحظ على احترامه بقدر ما كانت تمثل له مصدراً لإشباع شهواته الجسدية كالطعام والشراب والمسكن والجنس. وإن تقديس الفلاح لأرضه ومزرعته لم يكن قط تقديساً عاطفياً مجرداً، بل نفعياً استغلالياً بحتاً، تتناسب حدته اطرادياً مع مردوداته المادية فقط، وهي نفس النظرة بحذافيرها التي كانت وما زالت تحظى بها المرأة في المجتمعات الحضارية المتمدنة.
ولكن قداسة الأنثى في المجتمع الزراعي كانت لا ترتبط إلا بأعضائها التناسلية، ولا تحددها سوى قدرتها الجنسية، فالأرض الجدباء في عين الفلاح هي كالمرأة العاقر، هي الأرض التي لم تتمكن من الاستفادة من ماء السماء، أعضاؤها التناسلية غير قابلة للإنتاج والعطاء، وبالتالي هي غير جديرة بالتقديس، كذلك فإن المرأة العاقر في نظرهم لم تكن جديرة بالحياة، لأن شخصية المرأة في تلك المجتمعات قد تم اختزالها بالكامل داخل الإطار الجنسي، داخل بوتقة الإنجاب والإرضاع. بمعنى آخر فإنه في المجتمع المادي الانتهازي لا توجد قيمة اعتبارية للأشياء، فمكانة الشيء لا تحددها سوى قيمته المادية، أي مقدار ما يحوزه ذلك الشيء من عناصر مادية قابلة للاستغلال من قبل الغير. فالرجل من خلال قوته العضلية ولياقته البدنية ومهارته المهنية يستطيع القيام بالأعمال الشاقة كالبناء والحفر والتنقيب والحرث والأعمال المهنية الشاقة، فهو بذلك كتلة من الثروات القابلة للاستغلال من قبل أرباب الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال وملاك المؤسسات الاقتصادية في المدينة أو القرية الزراعية، أما المرأة فلا تملك أياً من تلك القدرات العضلية والبدنية، بل كل ما تملكه هو الجنس بشقيه الإغرائي والأمومي، وأمومة المرأة مرتبطة بقدرتها الجنسية، فالمرأة العاقر هي تلك التي تعاني أعضاؤها التناسلية من عيب نوعي. وكما أن الرجل المعاق أو العاجز بدنياً يفقد قيمته في تلك المجتمعات؛ كذلك هو حال المرأة العاقر أو المسنة. لهذا السبب نجد أن مشكلة التكافل الاجتماعي هي مشكلة أزلية كانت ولا تزال المجتمعات المدنية تعاني منها أشد المعاناة، بل إنها من أبرز الأسباب التي تقف خلف ظاهرة الانتحار في تلك المجتمعات، فعندما يفقد الفرد قدرته على الانتاج المادي لأي سبب من الأسباب؛ يتخلى المجتمع عنه بشكل مزرٍ هو غاية في الاستنذال ونكران الجميل، وهذا النوع من الجحود الجماعي لا نجده في كثير من المجتمعات الحيوانية الأخرى.
إلا أن المرأة تبقى الأكثر عرضة للاستغلال في تلك المجتمعات لأنها الأكثر قابلية له، وذلك يرجع لسببين رئيسين: أولهما هو نوعية الثروة المادية القابلة للاستغلال والتي تملكها المرأة دون الرجل، فإذا كان الرجل هو الروبوت العامل في المجتمع فإن المرأة هي المصنع المنتج لتلك الروبوتات، بحيث تعتمد الحياة في المدينة بشكل رئيسي على الطاقة الإنتاجية لمصنع الروبوتات، ليس ذلك فحسب؛ فهذا المصنع لا يقتصر عمله على الإنتاج فقط؛ بل يشمل أيضاً خدمات ما بعد البيع، فهي المكان الوحيد الذي يلجأ إليه الروبوت كل يوم بعد الانتهاء من عمله بغرض الصيانة والتأهيل والتدليل والإمتاع والترويح عن النفس استعداداً ليوم عمل جديد، صيانة ليست دورية بل يومية، ولكن أيضاً لا تنتهي مسئولية المصنع عند هذا الحد بل تمتد لتشمل خدمة الاستنساخ وإنتاج المزيد والمزيد من النسخ الروبوتية التي يستغرق إنتاج وتجهيز النسخة الواحدة منها قرابة العقدين من الزمن، في المقابل لا يشمل عقد الاستغلال هذا تقديم أي شيء للمصنع سوى المادة الخام.
إن تعلق المزارع بأرضه واعتماده المعيشي الكامل عليها رسخ في نفسه تلك القناعة بأن الأنثى ليست سوى مصدراً للإنتاج والإثمار الذي لا يجب أبداً أن ينضب أو يتوقف عن العطاء، بل والأدهى من ذلك أن هذا المصدر كي يحافظ على فعاليته الإستثمارية يجب أن لا يأخذ أكثر مما يعطي، يجب أن لا تكون متطلباته أكثر من مردوداته، يجب أن لا تزيد تكلفة الإنتاج عن قيمة المنتج. وهو الأمر الذي لا ينطبق على الرجل بنفس القسوة، فماء السماء برغم أهميته النوعية في عملية التخصيب إلا أنه لا يستلزم من السماء بذل مجهود كبير ومتواصل، ولا تضع عملية التخصيب على عاتق السماء من المسئولية ما يتعدى حدود صب ذلك الماء صباً متقطعاً في مواسم متفرقة وبكميات محدودة، بل حتى إن السماء لا يلزمه انتقاء مواضع الصب، هو يلقي بمائه فوق جميع أنواع الأراضي وبصورة عشوائية، أما الأرض فهي المسئولة عن كافة مراحل الإنتاج بما في ذلك تخزين هذا الماء لأوقات الجفاف، والأرض أيضاً تتحمل المسئولية وتتلقى اللوم إن لم تتمكن من الاستفادة من هذا الماء، بمعنى أن السماء قد أدى ما عليه بمجرد الإنزال، فإذا ما ذهب ماؤه سدى دون أن يتحول إلى خضرة وثمار فإن العيب ليس في الماء بل في الأرض التي تلقت هذا الماء وعجزت عن الاستفادة منه، لذلك فإنهم لا يلومون الذكر الذي لا ينجب بل يضعون الملامة بأكملها على زوجته حتى لو كان العيب يكمن فيه وليس فيها.
والمزارع الذكر لا يلزمه سوى بذل ذلك المجهود العضلي المتقطع والمحدود في مواسم الحرث والحصاد، أما هي فيلزمها فعل كل شيء آخر، فبالإضافة إلى الإنجاب والتربية ورعاية الصغار ورعايته هو شخصياً، يلزمها أيضاً الاهتمام بالمنزل والمزرعة والحيوانات والاهتمام بجمالها وأنوثتها، ويجب عليها الصبر على فقر زوجها وضيق ذات يده بل ومساعدته في تحصيل قوته وقوتها حتى إذا ما شكت أو تململت أو تراجعت قدرتها على الصبر والتحمل، أو حتى إذا ما قل جمالها وضعفت قدرتها على الإنجاب عليها في هذه الحالة أن لا تعترض على زواجه بغيرها وهجرانه لها تماماً كما يهجر المزارع أرضه البور التي أنهكتها كثرة الاستخدام إلى أرض أخرى أكثر خصوبة، فالأرض يجب أن تكون مصدراً للعطاء وليس للأخذ.
أما السبب الآخر لتعاظم مقدار استغلال المرأة في المجتمعات الحضرية فيكمن في كونها مخلوق سادي؛ يستعذب التعذيب والإذلال ويسعى بقدميه ليقدم كل ما لديه طائعاً مختاراً إلى كل من يرغب في استغلاله وانتهازه واغتصابه وامتصاص ثرواته دون مقابل. هي لا تفعل ذلك عن كرم منها بل عن غريزة سادية في دمها، هي لا تقدم نفسها هدية لمن يستحق بل سبية لمن لا يستحق، هي كالأرض التي لا تختار أصحابها أو ملاكها بعناية بل تفتح تربتها وتدلدل أغصانها لكل عابر سبيل يرغب في المضاجعة أو الرضاعة مهما كانت شخصية هذا الراغب ومهما كانت حقيقة نواياه. إن أنوثة المرأة بفرعيها الأمومي والإغرائي هي النموذج الأكثر تعبيراً عن غريزة السادية في هذا العالم، تلك حقيقة تدركها كل أنثى، وهي أنه لا يوجد في هذا العالم تعبير عن السادية أكثر من غريزة الأمومة وغريزة الإغراء لدى المرأة.
فالأم التي تقدم كل شيء لأبنائها لا تفكر مجرد تفكير في الحصول على أي مقابل مهما بلغت ضخامة عطائها ومهما كلفها هذا العطاء من ثمن، بل إنها أيضاً لا تربط عطاءها بشخصية أبنائها أو تحدده بمدى استحقاقهم لهذا العطاء، فهي تعطي الصالح منهم والطالح على حد سواء، هي تعطي ابنها فقط لأنه ابنها، حتى لو كان هذا الابن هو أسفل وأنذل وأحقر مخلوق على وجه الأرض، وحتى لو كان هذا العطاء سيصبح كارثياً في يديه، وسينقلب عليها وبالاً ودماراً ومآسٍ لا نهاية لها. تحتضنه صغيراً وهي لا تعلم ولا يهمها أن تعلم إذا ما كان سيرد لها الجميل بعد بلوغه أم سيكافؤها نكراناً وجحوداً، وحتى لو أساء إليها بأبشع أنواع الإساءات ستظل تعطيه وتعطيه دون أن تطلب منه حتى مجرد الاعتذار. إذا جاع ولم تجد في بيتها سوى لقمة واحدة فإنها تفضل الموت جوعاً على أن يبيت هو دون طعام، أما إذا لم تجد تلك اللقمة فإنها ستخرج إلى الشارع لتبحث له عنها وهي مستعدة في سبيل ذلك أن تفعل أي شيء؛ مهما كانت بشاعة ذلك الشيء. أما المثير للدهشة حقاً هو أن الطفلة بمجرد أن تبلغ الفطام تبدأ أحلام الأمومة الغريزية تراودها، ثم تكبر معها تلك الأحلام حتى تملك عليها كيانها وتتصدر جميع طموحاتها وتسيطر على جميع تصرفاتها، وتظل المرأة تصر على تحقيق هذا الحلم وهي تدرك مسبقاً مدى قساوة الثمن الذي ستدفعه مقابل تحقيقه، وستظل تدفعه من دمها ودموعها وصحتها وأعصابها ومستقبلها وحياتها ودنياها وآخرتها كأعظم ثمن دفع في شيء على الإطلاق، يالها من سادية عجيبة، سادية فطرية غريزية لا يمكن العثور عليها في أي مكان في هذا العالم سوى قلب الأم.
أما إذا انتقلنا إلى الشق الآخر من الأنوثة وهو الشق الإغرائي فإننا نكاد نلمس نوعاً آخر من السادية ربما يكون أكثر بشاعة من الأمومة. فالمرأة هي ذلك الكائن الذي يمكن تنويمه مغناطيسياً بعبارة: "أنت جميلة"، فهي على استعداد لفعل أي شيء في سبيل سماعها، وإن أكثر ما يمكن أن يسيء إلى المرأة ويهينها ويدمر مشاعرها هو أن تشعر بأن جسدها لم يعد قادراً على إثارة الرجل جنسياً، وإن عبارات الغزل الجنسي التي تسمعها المرأة من الرجل من شأنها أن تفعل بها الأفاعيل، من شأنها أن تفقدها عقلها وتعمي بصيرتها وتبلد إحساسها وتستعبد مشاعرها وتمتلك عليها كيانها وتسخرها تسخير العبيد وتدفعها لتقديم أقصى التنازلات دون أن تطلب أي مقابل سوى استمرار تدفق تلك العبارات الغزلية التي لا تملك المرأة مقاومتها مهما حاولت إلى ذلك سبيلا.
نظر المزارع إلى أرضه فلم ير صفة من صفاتها إلا وتنطبق على المرأة، فهي ليست مصدراً للعطاء المجاني فقط، بل هي أيضاً قابلة للتملك، أي عديمة المقاومة لمن أراد امتلاكها وتسخيرها لخدمته وترويضها حسب مصالحه وحاجاته الشخصية، لذلك نجد الميثولوجيا الوثنية تستغرق في تأنيث الأرض وتأريض الأنثى مع استغراقها في الحضارة والتطور المدني، وهاهي أسطورة الخلق تخرج لنا في طبعتها الثانية لدى البابليين لتعبر عن هذه الحقيقة بشكل أكثر وضوحاً، فشخصية "تيامة" كانت أكثر أنثوية من شخصية "كي"، أما شخصية "جايا" (الأرض في الأساطير اليونانية) فهي بالإضافة لكونها ترمز إلى المزيد من الاستغراق في تأنيث الأرض وتأريض الأنثى، إلا أن هيسيودوس (في أنساب الآلهة) قد كشف النقاب عن حقيقة أخرى تخص جايا؛ وهي أنها تملك روحاً حقيقية تتجسد في كل أنثى على وجه الأرض، بمعنى أنهم كانوا يعتقدون بأن هنالك اتصالاً روحياً حقيقياً بين المرأة وبين الأرض، وأن المرأة كانت تعتبر لدى كهنة الكواكب رمزاً سحرياً متجسداً يعبر عن جسد الأرض وروحها. ما معنى هذا الكلام؟
في معابد الكواكب كانت المرأة تستخدم كرمز سحري يعبر عن الأرض، أو دعنا نقول يعبر عن إنتاج الحياة وصيانتها والحفاظ على استمرارها، فالأعضاء التناسلية للمرأة تعبر تعبيراً رمزياً عن عناصر الإنتاج الزراعي في الأرض الخصبة كنوعية التربة وخصوبتها أي درجة قابليتها للاستفادة من ماء السماء، لذلك فإن البغاء المقدس داخل تلك المعابد كان يعتبر أهم الطقوس السحرية لتحويل الطاقة الكونية الكامنة إلى شغل مادي يصب داخل إطار إنتاج الحياة وصيانتها، أي ما يسمونه بالبركة. وبما أن الأرض الخصبة كي تكون منتجة ومثمرة ومعطاءة يجب أن لا تمتنع عن استقبال الماء من أي سحابة عابرة للسبيل، بل يجب أن تستحث تلك السحابة بجميع الوسائل كي تستحلب منها كل قطرة ممكنة من مائها، كذلك فإن المرأة في المعبد يجب أن لا تمنع أعضاءها التناسلية عن المصلين؛ جميع المصلين دون استثناء. وبما أن قداسة الأرض لديهم كانت تعتمد على درجة خصوبتها فإن قداسة المرأة أيضاً كانت تنبع من مدى رغبتها الجنسية وقدرتها التناسلية.
منذ الأزل وحتى يومنا هذا لا تكاد تخلو رموز السحرة من دم الحيض، فهذا الدم يكاد يكون العامل المشترك لجميع الأعمال السحرية مع اختلاف أشكالها وأغراضها، ليس لأن دم الحيض نجس كما يعتقد الكثيرون؛ فالبراز أكثر نجاسة منه بمراحل، ولكننا لا نجد السحرة يستخدمون البراز في تمائمهم وطلاسمهم وبخورهم وزيوتهم وقلائدهم وبقية أعمالهم السحرية، لأن البراز لا يملك تلك الدلالة الرمزية الكامنة في دم الحيض. فالحيض هو الفترة التي يتوقف فيها الجهاز التناسلي عن العمل، الفترة التي لا يكون الرحم قادراً فيها على تلقي الغيث، لا تكون التربة قابلة للتخصيب أو قادرة على الاستفادة من ماء السماء، والطمث هو ذلك الرمز السحري الذي يستجلب قوى الركود والجمود وتعطل الخصوبة وعدم القدرة على الإنتاج والإثمار.
فإذا أراد الساحر أن يفرق بين المرء وزوجه دس له أو لزوجه عملاً ممزوجاً بدم الحيض تحت فراش الزوجية حتى يستجلب لذلك الفراش قوى السحر الكونية التي تبقي على العلاقة بينهما في حالة حيض دائمة، وإذا أراد الزميل إبعاد زميله عن طريق الترقية الوظيفية مزج دم الحيض بأثر من آثار زميله يرمز إلى الإنتاجية والتفوق؛ ليبقى زميله في حالة دائمة من عدم الإنتاج والإثمار الوظيفي، أما إذا أرادوا منع كاتب من الكتابة فإن الرمزية السحرية الكامنة في دم الحيض من شأنها إقفال رحم عقله عن أي ولادة فكرية، وهكذا.
أما الرمز السحري المعاكس لدم الحيض فيكمن في كل ما من شأنه الإيحاء أو الإشارة إلى قابلية المرأة للإخصاب واستعدادها الجنسي للمضاجعة وجاهزية رحمها لاستقبال ماء الحياة؛ وتتمثل تلك الإيحاءات ابتداءً في عملية المضاجعة ذاتها داخل معابد الكواكب (أو ما يسمى بالبغاء المقدس)؛ ومروراً بالرقص الجنسي الخليع للمرأة في مواسم الإخصاب والأعياد والاحتفالات التي توافق حدثاً فلكياً معيناً؛ وانتهاءً بصور ورسوم وتماثيل الأعضاء التناسلية للمرأة وهي في أوضاع الجماع أو الاستثارة الجنسية أو تلك الصور والتماثيل التي تعرض جسد المرأة وهي في أوضاع التعري والإغراء. تلك الأوضاع والرموز الأنثوية الجنسية كانت تستخدم في معابد الكواكب بغرض استجلاب واستحضار قوى السحر الكوني وتوجيهها نحو إحداث شغل مادي يتجسد في صور من البركة والإنتاج والنماء والإخصاب.
إن الرقص المصري الذي لم يشتهر به قطر في هذه الدنيا كوادي النيل باعتباره أشهر المستوطنات الزراعية القديمة هو ليس في حقيقة منشئه سوى نوعاً من الطقوس التعبدية؛ أو صلاة المطر، بمعنى أنه بإمكاننا تشبيهه تجاوزاً بصلاة الاستسقاء (مع فارق التشبيه). فالمرأة هنا ترمز إلى الأرض الأنثى التي تقوم بمحاولة استثارة شهوة السماء الذكر كي تستدرجه لمضاجعتها فتستحلب منه قطرات الغيث؛ تلك القطرات التي تتحول بواسطتها الأرض إلى كائن منتج مثمر ومعطاء، فمن خلال ذلك الجماع المبارك بين الأرض والسماء تولد الحياة وتحل البركة على كل من وما يدب فوق جسد الأرض. فالراقصة التي تعري أبرز ما يستثير الشهوة من أعضاء جسدها، وتقوم بهز تلك الأعضاء وثنيها وليها وترقيصها بطريقة محددة أمام العروسين وضيوف العرس؛ هي تؤدي نوعاً من الصلاة السحرية للسماء كيما تحل البركة على هذا العرس وتستجلب للعروسين نوعاً من القوى الكونية التي تكلل حياتهما الزوجية ببركة الخصوبة والإنتاج والإثمار المستمر.
والرقص المصري طقس له أصول، وإن كان بعض السياح يعتقدون بأنه ليس سوى شكل من أشكال التسلية غير البريئة التي يحاول المصريون بواسطتها جذب أكبر عدد من السياح، فالمصريون شعب ديوث بالفطرة لا يقتاتون إلا من فروج نسائهم، وهي حقيقة لا يدركها السياح فقط بل وكل من احتك بالعمالة المصرية الذين يصطحبون معهم نساءهم إلى دول الخليج، ولكن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فالدياثة المصرية لها فلسفتها العقائدية التي تتجاوز كثيراً حدود التسلية، والرقص المصري عبادة تضرب بجذورها في أقصى أعماق تاريخهم. فمنذ عصور ما قبل التاريخ بدأت عقيدة عبادة الأنثى المقدسة في مصر تظهر مع ظهور أول تجمع زراعي حول مجرى النيل، واتخذت تلك العقيدة طابعاً جنسياً واضحاً منذ بداية نشأتها، فقد عثر المنقبون على تمثالين مقدسين مصنوعين من العاج لفتاتين عاريتين بالكامل قرب قرية البدارى، ويعود تاريخ تلك التماثيل إلى الألف الخامس قبل الميلاد، أي في الفترة الحجرية الخالكوليثية. وعثر على آنية فخارية تعود لحضارة نقادة الأولى صنعت على هيئة مجسم لرأس بقرة تمتد من جوانبه ذراعين بشريتين يمسك كل منهما بثدي امرأة وكأنه يقدم هذا الثدي هدية لكل من يرغب في رضاعة الكبير، هذا بالإضافة لعدد كبير من تماثيل النساء العاريات اللاتي يحاولن إبراز أثدائهن بشكل إغرائي، أو ربما بطريقة توحي برغبتهن في تقديم أثدائهن مجاناً لكل من يرغب في الرضاعة، حيث تظهر تلك التماثيل ذراعي المرأة أو إحداها ممدودة بشكل أفقي تحت الثديين مباشرة بحيث ترفع الذراع الثديين قليلاً إلى أعلى وتدلدلهما نحو الأمام.
أما طقوس الرقص الجنسي الخليع فقد بدأت معالمها تظهر في رسومات نقادة الثانية التي صورت ساحات الرقص داخل المعابد وقد عجت بالراقصات العاريات أو شبه العاريات، وكان أبرز ما يلفت النظر في تلك الرقصات هو وضع اليد فوق الخاصرة في إشارة إلى أن الراقصة كانت أكثر ما تقوم به هو تحريك خاصرتها، أو ما يسمى بهز الوسط. كما صورت تلك الرسومات كيف كان الرجال -أو المصلين- يحيطون بالراقصة في جلسة شبه دائرية، ويصفقون لها ويشجعونها تماماً كما يفعلون اليوم في مراقصهم وكازينوهاتهم.
ثم استرسلت الآثار الفرعونية بعد ذلك في تصوير تلك العبادة الجنسية التي لم يتوقف المصريون عن ممارستها بنفس تفاصيلها الدقيقة حتى يومنا هذا، وبالرغم من تغييرهم المستمر لأسماء آلهتهم إلا أن هز الوسط كان أكثر أركان الديانات المصرية تأكيداً بصرف النظر عن شخصيات الآلهة.
إن فلسفة عروس النيل كانت تصب أيضاً في هذا الإطار، فالنيل هو المجرى الذي يسلكه ماء الذكورة السماوي وهو في طريقه نحو رحم الأرض، وعلى قدر استثارة الأرض لشهوة السماء تتحدد غزارة تدفق هذا الماء وجريانه وفيضانه، وكانت عروس النيل التي ينتخبونها من بين أجمل فتياتهم لتقوم بهذه المهمة، حيث يزينونها كعروس في ليل زفافها، ثم يلقون بها في تيار ذلك المجرى باعتبارها رمزاً حقيقياً يتجسد فيه روح الأرض العروس وهي في قمة جمالها وفتنتها واستعدادها الشديد للمضاجعة والجماع كاستعداد العروس ليلة دخلتها. لقد كانوا يعتقدون بأن عروس النيل هي السبب الحقيقي لفيضانه، فبإلقائها في النيل عند مطلع كل ربيع تتحرك روح الذكورة السماوية شهوة عارمة تجاه الأرض فيندفع الماء من فرج السماء بغزارة استثنائية يفيض معها النيل ويتعاظم فيضانه اطراداً طيلة فصل الربيع، وينتج عن ذلك الفيضان مزيداً من البركة وسعة الرزق ورغد العيش. وهنا ترسخت في أعماق الكائن الزراعي تلك القناعة بوجود علاقة وطيدة بين المرأة كرمز جنسي سحري وبين البركة وسعة الرزق ورغد العيش.
في الموالد التي يقيمونها اليوم احتفالاً -كما يدعون- بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو بذكرى ميلاد أحد الأولياء الصالحين من آل البيت النبوي؛ نجدهم لا يحرصون على شيء حرصهم على طقوس الرقص النسوي الخليع باعتباره أهم مراسيم هذا الاحتفال على الإطلاق، فبدون إقامة هذا الطقس لا تتحقق الفائدة من الاحتفال بالمولد ولا تعم البركة على حاضريه ولا يخرجون منه بوعد سماوي بالمزيد من سعة الرزق ورغد العيش، إذا لم تهز نساؤهم أوساطهن في المولد فإنهم سيخرجون من المولد بلا حمص.
قس على ذلك جلسات "الزار" التي يقيمونها بطقوس معينة تهدف إلى طرد الجن والأرواح الشريرة واستجلاب روح البركة والشفاء، وتتلخص تلك الطقوس في تحلق مجموعة من النسوة حول المريض والطواف حوله مع تأدية نوع من الرقصات الهستيرية التي تؤدي بإحداهن للدخول في حالة من اللاوعي تسمى "الجدبة" وهي حالة أقرب ما يمكن تشبيهها بحالة الرعشة الجنسية عند قمة نشوة الجماع.
لقد طبعت روح الجبن والكسل ذلك الكائن الزراعي بطابع سلوكي وفكري معين لا يعبر إلا عن عقائد النذالة والانتهازية والاستغلال، فبات يبحث فقط عن ذلك المصدر الذي يوفر له الحماية والدلال المجانيين، فوجدهما في كل من الأرض والمرأة. إن الروح المتهالكة الاستسلامية؛ والنفسية الضعيفة المهترئة؛ غرائز الجبن والكسل هي التي دفعت بالكائن الحضري لعبادة هاتين الأنثيين، واستغلت قوى الشر الشيطانية تفاعل العناصر النفسية لتلك العبادة مع القوانين الفيزيائية الكوزمولوجية لتنتج من هذا التفاعل ذلك المركب الذي يسمى بالسحر، وهو التقنية التي ترتكز بشكل أساسي بل وشبه كامل على عبادة الأنثى المقدسة. وظل البغاء المقدس بكافة أشكاله طقساً رئيساً في معابد الكواكب حيث لم تكن تلاوات الطلاسم والتعاويذ والإيماءات الرمزية الأخرى لتكتسب لنفسها أي قيمة سحرية ما لم تتم ممارستها في حضرة الرمز الأعظم للبركة والعطاء والإثمار، الأنثى المقدسة ببعدها الجنسي المحض.
وظلت المرأة في المجتمعات الحضرية كبش الفداء الذي يتم تقديمه بين يدي طلب البركة والرخاء تماماً على طريقة عروس النيل، وظلت تلك القناعة تزداد رسوخاً كلما تقدم المجتمع في الحضارة والمدنية حتى أصبح الجنس هو الطريق الأسهل والأقصر وربما الأكثر شرعية بالنسبة للمخلوق الحضري نحو تحقيق طموحاته وأحلامه المستقبلية والحصول على بركته ورخائه الدنيوي الدائم، وأصبحت الأنثى ببعدها الجنسي المحض الرمز الأكثر تعبيراً عن الوصولية والانتهازية والاستغلال، وهي الحقيقة التي لا تستطيع شركات الدعاية والإعلان ومؤسسات ترويج السلع والخدمات إنكارها.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات