بعد عام الفيل أصبحت مكة مركز التجارة العالمية دون منافس، فطريق الحرير تم تعطيله وإغلاقه بشكل شبه كامل بفعل الحروب العالمية بين امبراطوريتي الشرق والغرب، وبسيطرة الفرس على جميع الموارد الطبيعية لقارة آسيا استطاعوا حرمان القارة الأوروبية من تلك الموارد حرماناً شبه تام، فبات تجار روما لا يستطيعون الحصول على بخور يحرقونه في معابدهم إلا من السوق السوداء. وكانت تدمر تشكل أكبر سوق سوداء في ذلك الوقت حيث يشتري منها الأوروبيون السلع الشرقية القادمة من ميناء جرهة (العقير) على الخليج العربي بأسعار باهضة بعد أن يضيف إليها كل من الفرس والمناذرة ضرائبهم وتنتزع منها قبائل ربيعة أتاواتهم على طول الطريق الصحراوي بين العراق والشام.
وقبل عام الفيل عندما حاول الأوروبيون كسر هذا الحصار الاقتصادي منيت حملة إليوس جالوس لاحتلال الحجاز بفشل نوعي اضطر معه الرومان لصرف النظر مرحلياً عن التفكير في القيام بمحاولة جادة لإعادة الكرة، ثم جاءت هزيمة أبرهة في مكة واحتلال الفرس لليمن وسيطرة حلفائهم اليهود على جميع مقدرات الحجاز الاقتصادية والتجارية لتغلق في وجوه الأوروبيين جميع أبواب التجارة مع الشرق عدا بوابة قريش.
بفضل رحلة الشتاء والصيف كانت قوافل القرشيين تحمل بضائع التجار اليهود التي يتم تجميعها في ميناء عدن: لآليء الخليج وحرير الصين وسيوف الهند وتوابلها وعطورها وأحجارها الكريمة والعاج الأفريقي والذهب الأثيوبي، بالإضافة للبان اليمن وبخورها، لتفرغ تلك البضائع الضخمة في بصرى الشام حيث يستقبلها التجار اليهود هناك من حملة الجنسية الرومانية لتأخذ طريقها بعد ذلك إلى كل من البتراء وغزة والإسكندرية ثم تنطلق من هنالك إلى أثينا وروما والقسطنطينية. فالرومان لم يكونوا يسمحون لغير حملة الجنسية الرومانية بدخول أراضيهم، وبالتالي لم يكن بإمكان القرشيين تجاوز بصرى الشام بحال، أما اليهود فهم شركة عالمية متعددة الجنسيات، يستطيعون من خلال فروعهم العائلية المنتشرة في جميع أصقاع الأرض من التغلغل داخل جميع الدول والمتاجرة مع جميع الشعوب والجنسيات والأعراق.
إلا أن القرشيين لم يكونوا مجرّد سائقي لواري ينقلون بضائع اليهود بأجر مقطوع، بل كانوا شركاء حقيقيين في هذه التجارة، كانوا يتعاملون مع تجار يهود معاملة الند والشريك فكانوا يشترون بضائعهم من يهود اليمن ليبيعونها ليهود يثرب وتيماء والشام بأرباح لا بأس بها، وبذلك كانت قريش تشكل جزءً مهماً وأساسياً داخل شبكة التجارة اليهودية الدولية، وكان موقعها هذا سبباً في ثرائها الفاحش، وهو ما جعل قريش تستميت في المحافظة على مكانتها ووضعها الاستراتيجي داخل تلك الشبكة، فهي تدرك جيداً أن اليهود كان بإمكانهم الالتفاف حول طريق الحجاز البري ونقل بضائعهم بحراً إلى موانئ الشام ومصر في حال لو طمع القرشيون بالمزيد من الأرباح وحاولوا رفع أسعار السلع المعروضة في أسواق بصرى أو في حال إخلالهم إخلالاً نوعياً بشرط من شروط تجار يهود المسيطرين سيطرة مطلقة على التجارة العالمية. في المقابل كان اليهود يفضلون التعامل مع القرشيين لأن النقل البحري لم يكن قد تطور لدرجة تؤهله لمنافسة النقل البري على ظهور الإبل التي تستطيع بقدرتها الإعجازية على عبور الصحارى والقفار أن تنقل في شهر واحد كمية من البضائع لا تستطيع سفن تلك الأيام نقلها في أشهر عدة.
وكان اليهود أيضاً يفضلون التعامل مع قريش باعتبارها قبيلة تنحدر من أصل عدناني، وهو ما أكسبها قدر من الاحترام والتقديس والمهابة والتبجيل بين القبائل القحطانية التي كانت تنتشر حول طريق الحجاز التجاري، وبالتالي فإن القافلة التي ترفع راية قريش تضمن السلامة من لصوص حمير وقطاع طرقهم.
وبتمركزهم داخل تلك الشبكة العنكبوتية وتمازجهم مع بقية خيوطها وأطرافها؛ بدأ القرشيون يتحولون شيئاً فشيئاً إلى الثقافة اليهودية الحميرية التي هاجرت إلى مكة على ظهور الإبل القادمة من وادي دوعن، والتي كانت تحمل في نفس القافلة كل من البخور والأوثان اليمنية.
بعد عام الفيل بلغت قريش الغاية في الثراء، بل يقال إن لقب هذه القبيلة "قريش" مشتق من القروش أي الأموال التي كانت تدرها عليها التجارة، وبفضل تلك التجارة بلغ أهل مكة القمة في التطور الاقتصادي والحضاري والمدني، ولكنهم في نفس الوقت بلغوا أوج التخلف الديني والخلقي والفكري، وغاية الانحطاط في القيم والمبادئ والمثل والمعاني الإنسانية. فمكة المكرمة لم تكن مكرمة في ذلك الوقت، حيث أهانها القرشيون إهانة تفوق الخيال، لقد حطموا الرقم القياسي العالمي في الوثنية، وبلغت كثافة الأصنام والأوثان حول الكعبة مستوًى تاريخياً، ثلاثمئة وستون صنماً تتحاشر في محيط دائرة لا يتعدى قطرها الخمسين متراً.
كانت دور الزنى والرقص والدعارة تتوزع في محيط البيت الحرام، كانوا يتبادلون زوجاتهم دون أدنى إحساس بالغيرة أو اعتبار للشرف أو الكرامة أو الرجولة، كان يجتمع الرجال العشرة على المرأة الواحدة حتى إذا حبلت اختارت منهم أقربهم إلى قلبها فنسبت إليه الولد، كان الرجل منهم إذا وجد في نسله ضعفاً أو غباءً أو قبحاً يأخذ زوجته بيده إلى دار رجل آخر قد يكون أكثر منه ذكاء أو أبهى منظراً أو أقوى بنية أو أكرم حسباً ونسباً، فيطلب منها أن تبيت معه ولا تتركه حتى تحبل منه بطفل ينسبه لنفسه، وهو أقصى درجات التزوير الجيني، ولكن القرشيين لم يكونوا يشعرون بأدنى نوع من تأنيب الضمير إزاء تلك الجريمة لأنها ببساطة لم تكن بالنسبة لهم جريمة، فقد كان القرشيون -بعد تهودهم ثقافياً- شعباً ديوثاً بالدرجة الأولى، وهذه الشاكلة من الشعوب لا يوجد لديها أدنى اعتبار للأصل والفصل وسلامة النسب وقداسة الرابطة الأسرية.
لم تكن مكة عاصمة دينية كما يعتقد الكثيرون، بل كان طابعها التجاري أكثر وضوحاً من الطابع الديني، كانت أخلاقها التجارية، عقيدتها التجارية، شيمها التجارية، نخوتها التجارية، مروءتها التجارية، شخصيتها التجارية العامة أكثر تعبيراً عن هويتها الثقافية من أي شيء آخر، فسوق عكاظ وسوق مجنة وسوق حباشة وسوق ذي المجاز لم تكن حلقات ذكر، ودار الندوة لم تكن داراً للدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لم يكن الحجاج يقصدون مكة بغرض الحج بل لبيع المسابح، ولكي يحافظ القرشيون على استمرار تدفق تلك الأفواج الضخمة من المشترين والمتسوقين، وتلك الشلالات الهائلة من الأموال والسلع العالمية كان عليهم أن يرفعوا شعار دمج الحضارات والثقافات وتوحيد الأديان والأوثان.
ابتكر القرشيون لأنفسهم نظاماً سياسياً محايداً حيث أنشئوا علاقات دبلوماسية قوية مع جميع الفرقاء فكانت مكة هي سويسرا ذلك الزمان، ففي الوقت الذي كانت أحلافهم ومعاهداتهم مع الفرس تمكنهم من التغلغل داخل الأراضي اليمنية والوصول حتى ميناء عدن؛ كانت معاهداتهم مع الغساسنة والبيزنطيين تمنح قوافلهم تصريحاً خاصاً للوصول إلى أسواق بصرى الشام، بل إنهم كانوا يستميتون في إرضاء الجميع بما في ذلك النجاشي وملوك الحيرة والمقوقس وزعماء يهود، وهي استراتيجية جعلت منهم وسيطاً دولياً حقيقياً، وجعلت من مكة مركزاً تجارياً عالمياً لا تتأثر مكانته بالمتغيرات السياسية.
وبالرغم من أن أهالي مكة كانوا يميلون أيديولوجياً نحو الثقافة اليمنية الوثنية، ويكنون تعاطفاً سياسياً قوياً تجاه المحور اليهودي الفارسي -وهي الحقيقة التي أكدت عليها وأوضحتها سورة الروم- إلا أنهم برعوا في فصل التجارة عن الأيديولوجيا، فكانوا يحاولون جاهدين إخفاء عقيدتهم الفكرية عن أعين الرومان والبيزنطيين، وكانوا كثيراً ما يتقربون إلى النصارى ويتوددون إليهم ظاهرياً حتى لا تتأثر رحلة الشتاء والصيف إذا ما أقفلت في وجوههم أسواق الشام ومصر.
كل ذلك جعل من مكة نقطة التقاء لجميع الثقافات والحضارات والأديان والعقائد العالمية، فكانت بالفعل أم القرى وأم المدنية ومركز الحضارة العالمية، وكان القرشيون أكثر الأمم تحضراً على وجه الأرض، وأكثرهم فسقاً وفجوراً وانحلالاً خلقياً وانحطاطاً إنسانياً، وهي متلازمة لم يحدث أن انفصلت على مدار التاريخ، قمة التحضر وقمة الكفر، وهنا نضع أيدينا على قاعدة مهمة، وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث رسله إلا في أكثر المدن تحضراً وبين أكثر الأمم ثراء وتطوراً مدنياً.
عندما أرسل موسى إلى فرعون كانت مصر هي مركز الحضارة العالمية، وكان المصريون في ذلك الزمان أكثر الأمم تمدناً وتطوراً تكنولوجياً، وأكثرهم رقصاً وهزاً وتعرياً ودعارة ودياثة وانحطاطاً خلقياً وكفراً ووثنية دون منازع، حتى أنهم بنو لفرعونهم صرحاً عله يصل إلى السماء ويقتل الله، تعالى الله علواً كبيراً. إن ثقافة شارع الهرم ليست مستحدثة دخيلة على المصريين كما يحاول كذابوهم الادعاء، بل هي متجذرة في دمائهم ومتأصلة في عروقهم ومتمركزة داخل أنوية خلاياهم الجنسية وقديمة في جيناتهم وأحماضهم النووية قدم التاريخ، فمنذ عصور الفراعنة وأهل مصر هم أكبر مصدر للدعارة والدياثة في الشرق الأوسط.
وعندما أرسل عيسى إلى يهود كان المسجد الأقصى هو أكبر سوق تجارية في المنطقة، وكان بنو إسرائيل هم أرباب الرأسمالية العالمية دون منازع. فبعد احتلال الرومان للقدس واكتساب اليهود للجنسية الرومانية جراء هذا الاحتلال أصبح بمقدورهم التوغل داخل أوروبا وتملك الأراضي والمؤسسات الاقتصادية الحيوية في كافة أرجاء الامبراطورية، وبسبب قدرتهم الفطرية على النفاق والرياء والتملق والكذب ونصب الكمائن وحياكة المؤامرات والدسائس، وبفضل انتشار فروعهم العائلية في كافة دول وأقطار العالم وتمركزهم في أكثر المراكز التجارية استراتيجية على وجه الأرض، تمكنوا من السيطرة الفعلية على غالبية المقدرات الاقتصادية واحتكار معظم المؤسسات التجارية ليس في الامبراطورية الرومانية فحسب بل في العالم بأسره، حتى أصبح شعب إسرائيل في ذلك الوقت هو أثرى شعب على وجه الأرض، وأكفر وأفسق وأفجر شعب في الوقت ذاته.
وعندما بعث محمد في مكة كان القرشيون مع ثرائهم الفاحش وضخامة رؤوس أموالهم لم يجدوا بين أيديهم من المال الحلال ما يمكنهم من إكمال بناء الكعبة بعد أن هدمتها السيول.
تلك حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها مهما بلغت به المكابرة، وهي أن الكفر والمدنية وجهان لعملة واحدة، فلم يحدث أن أرسل الله رسولاً إلا لأكثر الأمم تحضراً وأعظمها تمدناً، ولم يحدث أن أرسل الله رسولاً لأمة من تلك الأمم إلا وكفرت به وأصرّت على كفرها حتى النهاية، ولم يحدث أن آمن أهل قرية من هذا النوع لنبي من الأنبياء أو استجابوا لدعوة رسول من الرسل مهما طال مكوثه بينهم ومهما استمات في دعوتهم ونصحهم ومهما أراهم من الآيات والمعجزات وأثبت لهم من صدق دعوته وقدسيتها. وكانت دعوة الرسل والمصلحين لتلك القرى تنتهي دائماً إما بتدمير الله لها وصبه العذاب فوق رؤوس أهلها، أو بهجرة النبي أو الرسول أو المصلح أو المجدد منها. وهي قاعدة أثبتتها جميع قصص الأنبياء والرسل والدعاة والمصلحين والمجددين على مدار التاريخ، ابتداء من نوح وانتهاء بمحمد بن عبد الوهاب.
عندما هاجر النبي وصحابته المؤمنون إلى المدينة نزلوا في مجتمع لا تختلف ثقافته كثيراً عن مجتمع مكة، فالمدينة كانت هي الأخرى مركزاً تجارياً مهماً على طريق الحرير الحجازي، بل إن أهالي المدينة كانوا يمنيين خلّصاً، كانوا أحفاد الكنعانيين الذين اشتهروا على مدار التاريخ باحترافهم التجارة ومهارتهم الصناعية والحرفية الفائقة وخبرتهم العريضة في الزراعة والحرث. وبينما كان القرشيون لا يزالون يذكرون أصولهم العدنانية؛ وكانت لا تزال فئة من أشرافهم ونبلائهم من بني مخزوم وبني أمية وبني تيم وغيرهم تتمسك بالثقافة العدنانية النبيلة وترفض مظاهر التمدن والتحضر بدنسها ورجسها وخلاعتها؛ وكانت تلك الفئة هي من سارع باعتناق الإسلام والإيمان بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم لما وجدوا فيها من روح عدنانية شريفة تتوافق وتتناغم مع فطرتهم الحنيفية الأولى وتنبثق من ملة أبيهم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولولاهم بعد الله ما تمكن الإسلام من الصمود في مكة ثلاثة عشر عاماً وسط بيئة معادية كبيئة قريش، فبواسطة حصانتهم الدبلوماسية العشائرية وفر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حماية وحمية لم يكن بمقدور الهاشميين وحدهم توفيرها له؛ في مقابل ذلك كان أهل المدينة مجتمعاً مدنياً خالصاً لا علاقة له بملة إبراهيم ولا بثقافة بني عدنان من قريب ولا بعيد.
وكانت جماعة من الكنعانيين قد هاجروا في وقت سابق إلى بيت المقدس واختلطوا ببني إسرائيل وتزاوجوا معهم ربما في زمن الملك داوود أو في زمن ابنه سليمان عندما امتد سلطانه إلى اليمن وضم لمملكته مملكة بلقيس، وبعد سيطرة الآشوريين على مملكة إسرائيل والبابليين على مملكة يهوذا عادت فئة من ذلك الخليط الكنعاني اليهودي إلى الحجاز واستوطنوا المراكز التجارية الاستراتيجية فيه، والتي كانت يثرب من أهمها، حيث استوطنت بها ثلاث عشائر من ذلك الهجين الإسرائيلي هم بنو قريضة وبنو قينقاع وبنو النضير. وبرغم زعمهم أنهم أهل كتاب يحملون شريعة سماوية مكتوبة، وأن كتابهم هذا هو الناطق الرسمي الوحيد باسم ملة إبراهيم؛ إلا أنهم في الحقيقة لم يكونوا سوى تجار كنعانيين لم تتمكن الدماء الإسرائيلية منهم بقدر ما تمكنوا هم منها، فالفرس عندما تتزوج بحمار فإن المولود لن يكون حصاناً صغيراً بل حماراً كبيراً.
ومنذ الأزل كان هذا هو ديدن التجار الكنعانيين أو الفينيقيين أو الأموريين أو الحميريين -سمهم ما شئت- فكانوا يستخدمون تلك التقنية الجنسية كلما وطئت أقدامهم أرضاً غنية بثرواتها أو مركزاً تجارياً أو اقتصادياً أو استراتيجياً يتحكم في طريق التجارة الدولية عبر القارات، كانوا يبحثون في كل مدينة أو قرية عن أسيادها وأشرافها ونبلائها وحكامها، ثم يبذلون المستحيل كي يختلطوا بأولئك النبلاء عرقياً، فكانوا يرسلون بناتهم ونساءهم خادمات ووصيفات وراقصات وداعرات ومحظيات في قصور أولئك النبلاء، ويوصونهن بأن لا ترجع إحداهن قبل أن تنتزع من صلب أحد النبلاء قطرات من نطفته تهرب بها داخل أحشائها، علها بفضل تلك النطفة أن تفوز بلقب "الأمة التي تلد ربها أو ربتها"، ولعل ذلك الرب أو تلك الربة تكون أو يكون سبباً في تسلل أخواله إلى داخل قصر الحكم حتى ولو من الباب الخلفي، فيتحولون مع الزمن إلى حكام فعليين لتلك المدينة أو القرية حتى ولو من وراء الكواليس. وذلك ما حصل حرفياً في قصر سليمان بن داوود، والذي بدأت من عنده سلالة يعقوب تتلاشى من الوجود ليتحول اسم "بني إسرائيل" إلى مجرد اسم اعتباري أو وصف افتراضي يطلق على أبناء الحرام الكنعانيين الذين لم يتبق في عروقهم مع الزمن من الدماء الإسرائيلية الصافية ما يبلغ القلتين. ففي آخر أيام سليمان عليه السلام تحول هيكله إلى زقورة بابلية تحتوي على نسخ طبق الأصل من جميع الأصنام التي حطمها جده إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وتوزعت تلك الأصنام الكنعانية في كل ركن من أركانه حتى صار اسم "يهوه" أقل الأسماء ذكراً في ذلك الهيكل.
وعندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليعيد إحياء تلك الملة، فقام بترميمها وتنقيتها وإرجاعها إلى أصلها الإبراهيمي الصافي؛ انقض أحفاد أولئك الكنعانيون أنفسهم عليها بنفس معاول الهدم القديمة، فكان أول ما قاموا به هو تأليه محمد صلى الله عليه وسلم ونفي صفة البشرية عنه ورفعه إلى مستوى الألوهية ومدحه بما لا يستحق وإطرائه بنفس الصفات التي أطروا بها عيسى بن مريم من قبله. أطلقوا عليه لقب "المصطفى" وهو لقب له دلالته الرمزية في الوثنية الحميرية حيث يرمز إلى إلههم بعل أو دموزي أو هبل أو أدد أو هداد أو حورس أو أدونيس -سمه ما شئت- وهو الإله المخلص أو المنقذ، زوج الإلهة عشتار الذي ضحى بنفسه من أجلها ومن أجل البشرية، وهو الإله الذي يقوم من الأموات على رأس كل ربيع لينقذ الأرض من الجفاف وينزل الغيث وينبت العشب والكلأ ويخصب الزرع وينضج الثمار، فهو الإله المنتظر الذي اختارته الآلهة واصطفته ليقوم بهذه المهمة التضحوية النبيلة، اصطفته ومسحته بمسحة الهداية والبركة، فهو المسيح والمهدي المنتظر والمصطفى المختار، وهي نفس الصفات التي أسقطها الأحبار الكنعانيون على شخصية المسايا التوراتية التي دسوها بين نصوص التوراة وأقحموها إقحاماً داخل نبوءات أنبياء بني إسرائيل وقدموها على أنها من عند الله بعد أن كتبوها بأيديهم ليفتروا على الله الكذب، لذلك فإننا نجد النسخة الكنعانية من التوراة التي يتداولونها اليوم بين أيديهم لا تعبر عن ملة إبراهيم بقدر ما تعبر عن وثنية حمير.
وبنفس الطريقة تعامل رهبانهم وقساوستهم مع شخصية عيسى بن مريم عليه السلام، حتى إذا جاء دور محمد صلى الله عليه وسلم نجدهم يصرون على تلقيبه بالمصطفى، وهو لقب لم يطلقه الله عليه قط ولم يخصه القرآن به في أي آية من آياته. إنهم لم يفعلوا ذلك حباً في محمد ولكن رغبة في تحويله إلى يسوع آخر أو بعل آخر أو هبل آخر أو وثن كنعاني آخر كما فعلوا بابن مريم من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم بريء منهم براءة الذئب من دم يوسف.
وبعد أن مرروا هذا اللقب على الناس دون شوشرة؛ شرعوا ينادون بقيامة محمد من الأموات، واجتثوا في سبيل ذلك آية قرآنية من سياقها وهي قول الله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)، ثم أمعنوا في تبعيل شخصية النبي بأن جعلوه وسيلة بين الناس وبين الله، ومنحوه حق الشفاعة في الدنيا قبل الآخرة، واتخذوا قبره عيداً ومشهداً ووثناً يعبد من دون الله، وادعوا بأنه يسمع الدعاء ويجيب النداء ويلبي الحوائج ويتوسط لهم عند الله في ما يسألونه عند قبره من مسألة، وأنه يحضر موالدهم ويبارك مجالسهم ويقوم بجميع ما كان يقوم به هبل وبعل ودموزي ويسوع وبوذا وغيرهم.
عندها لم يتبق من إكمال بناء مخططهم سوى التشطيبات النهائية؛ فدموزي لم يظهر في التاريخ قط كإله مستقل يملك وحده القدرة على تدبير الأمور دون عون من شريكته وعشيرته عشتار، فهي حزمة إلهية لم يحدث قط أن انفصلت في أي من الديانات الوثنية الكنعانية. وكما كان لا بد للمسيح من عذراء؛ كان لا بد للمصطفى من زهراء. بل إن الـ "زهراء" لتعبر عن شخصية عشتار ربة الـ "زهرة" أكثر من تعبير العذراء عنها. فعشتار لم تكن عذراء بل كانت زوجة، ودموزي لم يكن ابنها أو والدها بل زوجها، لذلك فإن شخصية دموزي أو بعل بدأت تتحول في الإسلام الكنعاني من محمد إلى علي، وبدأت صفات هبل تظهر لديهم في شخصية علي أكثر منها في شخصية محمد، بل إنهم أقنعوا علياً نفسه بشخصيته الجديدة عندما دفعوه للاحجام عن مبايعة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله وصلواته، مستغلين في ذلك سفاهة حلم علي وطيشه وحبه للسلطة والرياسة مع قصر نظره وقلة حكمته، بعد ذلك بدءوا يفخمون ويضخمون في شخصيته وشخصية زهرائه حتى رفعوهما فوق مستوى البشر، وأسبغوا عليهما من الصفات الإلهية ما لم يختلف قدر أنملة عن تلك التي كانت لعشتار ودموزي، ووضعوا في ذلك من الأحاديث التي كذبوا بها على رسول الله قدراً لا يقل عن تلك الأكاذيب التي حشوا بها التوراة في السابق وكذبوا بها على أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وبالتالي أصبح لديهم الآن نسل إلهي مقدس يمكنهم أن يمارسوا معه الآن نفس التقنية الجنسية القديمة.
فالآلهة لا تلد إلا آلهة، وزهراء البعل لا تلد له إلا بعولة صغاراً، وبذلك تحول الحسن والحسين إلى وثنين كنعانيين اختطفهما تجار حمير وطاروا بهما إلى زقورة بابل العراقية ليبدأ من هنالك مزاد الآلهة الجديدة. تكاثر تجار حمير حول فروج الحسن والحسين كما يتكاثر الذباب حول صحن من الحلوى المكشوفة، وسلطوا على تلك الفروج نسائهم وبناتهم يستحلبن منها أكبر قدر ممكن من النطف والحيوانات المنوية، حتى فاق عدد زوجاتهما الحميريات عدد محظيات سليمان بن داوود، ثم طارت كل حميرية إلى قومها بما تحمله في رحمها من غنيمة، لتبدأ سلسلة أخرى من السلالات الحميرية الإلهية في التناسل، فلم يمض وقت طويل حتى تحول بنو حمير عن بكرة أبيهم إلى سادة وأشراف، وأصبح تجار كنعان أنفسهم يحملون في عروقهم كافة الجينات المقدسة على وجه الأرض، جينات سليمان وجينات علي، وأصبحت قبيلة "آل النهاري" نفسها بعينها وسنها وشحمها ولحمها تحمل هي نفسها لقبين في نفس الوقت: لقب "بني إسرائيل" ولقب "آل البيت".
واليوم نجد بنات الأشراف من آل البيت الحميري ينتشرن بكثافة في أسواق جدة ومنتزهاتها وشاليهاتها ودرة عروسها مع حلول كل موسم صيفي يتوافد فيه شباب نجد على شواطئ بني حمير، نجد أولئك الشريفات يقمن بدورياتهن الراكبة والراجلة على طول شارع التحلية وعرضه بغية اصطياد السواح من أهل نجد واستمالة شباب الرياض بأي وسيلة، علهن يعدن في نهاية الموسم ببعض الغنائم في أرحامهن قد يكون لها شأن بعد ذلك في تعبيد الطريق لهن ولأهلهن نحو الأبواب الخلفية لقصر اليمامة.
بل بلغت الدياثة بأولئك الأشراف الكنعانيين أن أرسلوا بناتهم للدراسة في جامعة الملك سعود بالرياض، ولكنهم لم يودعوهن داخل السكن الجامعي، بل استأجروا لهن شققاً مفروشة ليحولنها إلى أوكار للدعارة، فيعملن من خلالها على اجتذاب المغفلين من الشباب النجدي المراهق لنفس الغرض والغاية. أما لو عثرت إحداهن من بين أولئك الشباب على شاب عدناني، أو يرتبط بصلة القرابة أو النسب مع آل سعود، فإنها عندئذ ستعمل المستحيل حتى تستلب منه تلك النطفة المقدسة التي لا تقدر بثمن، بل إنها ستلجأ إلى جميع الوسائل بما فيها السحر حتى تحصل على لقب "الأمة التي تلد ربتها وربها"، فهي تعلم أن والدها لم يرسلها إلى الرياض لتأتيه بشهادة علمية، بل بنطفة عدنانية.
إن أهم الركائز التي ترتكز عليها الوثنية الكنعانية هي السحر والتنجيم وعبادة الكواكب، وذلك يرجع للطبيعة التمدنية والتحضرية التي طبعت عليها الشعوب الكنعانية منذ بداية ظهورها على سطح هذا الكوكب، فالمدني كائن مادي عملي لا يعترف إلا بقانون المصلحة والمنفعة الآنية، أخلاقه تجارية، وكذلك عقيدته وفكره ونفسيته وأيديولوجياته العامة، مبدأه المقدس هو مبدأ هات وخذ، أمسك لي وأقطع لك. وهذا النوع من الكائنات لا ينتظر منه الإيمان بالمعاني المجردة والأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والمفاهيم التضحوية كالكرم والجود والنخوة والمروءة والصدق والإخلاص وحفظ العهد وصيانة الذمم والأمانة والعفاف وعزة النفس، فهذه أمور لا تزيد في رصيده البنكي بقدر ما تنقص منه، ولا تضيف إلى حياته متعة مادية بقدر ما تضع فوق كاهله من التزامات تجاه الغير. الدين والعقيدة بالنسبة له ليست سوى عقود تجارية؛ صفقات اقتصادية لا تحددها سوى دراسة الجدوى، والإله بالنسبة له ليس سوى بقرة حلوب ولود تعطيه أضعاف ما تأخذ منه، تتخمه بألبانها وأجبانها وسمنها وشحمها ولحمها وصوفها مقابل قربان تافه من أعشاب الأرض ومائها الآسن. الأخلاق والقيم والمبادئ السامية بالنسبة للمدني هي ترف فكري لا مكان لها إلا في المناسبات الخطابية، والمعاني المجردة كالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والمروءة وغيرها هي بالنسبة له ضروب من الدروشة والغباء، وأدوات لمضيعة الوقت والجهد، فلا يجوز تداولها إلا في أوقات الفراغ. والإله الذي يدعو إلى مثل تلك المعاني هو بالنسبة للمدني إله الدراويش والمغفلين، هو إله من الممكن احترامه أو الشفقة عليه، ولكن من الغباء عبادته، ومن غير المجدي اقتصادياً تقديم القرابين إليه. إن المدني لا يحتاج إلى إله يعبده ويحترمه ويقدسه لذاته، ولكن إلى إله يستغله ويستفيد منه اقتصادياً، هو لا يحتاج إلى عقيدة يؤمن بها عن قناعة ويعتنق مبادئها وأفكارها اعتناقاً فلسفياً مجرداً يستند إلى قناعة منطقية عقلانية أو مرامي أخلاقية سامية، بل كل ما يحتاجه المدني هو مارد محبوس داخل مصباح علاء الدين أو عفريت من خدام خاتم سليمان. إن إله المدينة هو الإله الذي يدفع كاش، هو ذاك الذي تظهر أرباح عبادته مباشرة في كشف الحساب، وهذا النوع من الآلهة لا يمكن العثور عليه إلا لدى كهنة عشتار.
إن عبادة الكواكب -باختصار- هي تلك التقنية التي يتم من خلالها تطويع القوى الكهرومغناطيسية التي تنبعث من الأجرام السماوية وتوجيهها توجيهاً هندسياً لإحداث شغل ميكانيكي يؤثر تأثيراً مادياً ملموساً على الإنسان وبيئته، وهي العملية التي يطلق عليها اصطلاحاً "السحر"
إن الساحر أو الكاهن هو في نظر المدني أكثر قداسة من الله، والصلاة لأشخاص الكواكب وهياكلها هي بالنسبة له أعظم فائدة وأجدى نفعاً من عبادة الله، فالله لا يدفع كاش، بل إنه يدخر لعباده من الأجر والثواب في الآخرة أضعاف ما يعجل لهم به في الدنيا، وهذا النوع من الاستثمار لا يتناسب مع الثقافة المادية النفعية للمجتمع المدني. إن أكثر ما يجتذب المستثمر المدني هي صفقات الربح السريع والآني والمباشر، صفقات الربح المادي الكامل والمحدد والمعلوم، لذلك فإن عبادة الكواكب هي أكثر الأديان رواجاً في مجتمع المدينة.
إن المدني لا تعنيه شخصية الإله بقدر ما تعنيه المردودات المادية العملية المباشرة لعبادته، هو لا يعبد هبل لأنه يحترم هبل بل لأن هبل دفع له مقداراً من الكاش لم يحصل على مثله من الله، وإن قداسة الساحر في المدينة تنبع من قدرته الخارقة على التنفيذ الفوري والعملي والملموس لمطالب زبائنه ورواده مهما كانت طبيعة تلك المطالب والرغبات، في الوقت الذي لا يضمن فيه أولئك الزبائن نفس القدر من السرعة والعملية في استجابة دعواتهم التي يرفعونها إلى الله.
إن السحر والمدنية توأمان سياميان لم يحدث أن انفصلا على مدار التاريخ، إن أول مدنية في التاريخ لم تنشأ إلا على أكتاف السحر، فالسومريون لم يكونوا سوى سحرة ومشعوذين، وحكام المدن السومرية لم يكونوا سوى كهنة لمعابد الكواكب والأجرام السماوية، ولم تكن المدن السومرية سوى فاتيكانات لأولئك الكهنة، فقبل شروعهم في بناء أي مدينة من مدنهم كانوا أول بناء يشيدونه هو زقورة تلك المدينة، أي معبد كواكبها، وكانوا يختارون له أعلى تلة في المدينة، ويشيدونه كأفخم وأضخم وأقوى بناء فيها، ثم بعد ذلك يتم بناء بقية المباني والمساكن في محيط ذلك المعبد بحيث لا يزيد ارتفاع أي منها عن ارتفاع الزقورة.
أما التصميم الهندسي للمعبد فكان يتخذ شكل المخروط أو الهرم الناقص (مقطوع الرأس) وهو شكل له دلالته السحرية الرمزية في عملية توجيه الطاقة الكونية وتجسيدها، وكذلك هو حال الرموز الهندسية والتماثيل والمجسمات التي تتوزع بطريقة مقننة ومدروسة في أركان المعبد وزواياه، وعلى أسواره وسطوحه. أما طقوس العبادة في المعبد فهي عبارة عن حركات وإيماءات وإشارات رمزية وممارسات جنسية نوعية تتداخل مع تلاوات طلسمية معينة في أوقات محددة لتتناغم مع المنظومة السحرية الكونية فينتج عنها شغلاً حركياً ما، أما المثير للدهشة فهو أنه كان بإمكانهم تخزين تلك الطاقة الحركية السحرية بغرض استخدامها لاحقاً خارج المعبد، وكانت وسائل هذا التخزين هي الأكثر إثارة للدهشة، كانوا يخزنونها في عبارات طلسمية معينة، أو في رموز وأشكال هندسية محددة، وكانوا يعتقدون أن لكل لفظ من تلك الألفاظ والعبارات الطلسمية أو شكل من تلك الأشكال والرموز الهندسية خادم من الجن يملك القدرة على تفريغ تلك الطاقة وتجسيدها في شغل حركي أو شكل مادي محدد إذا ما تمت تلاوة تلك الطلاسم واستخدام تلك الرموز بالطريقة الصحيحة.
التعليقات (0)