تنويه:
نشر المقال في صحيفة القدس العربي / أدب وفن بعنوان " لو كنت أدونيس لفعلتها " إلاَّ أن النسخة الحالية تتضمن بعض التعديلات التي حال الوقت دون إدخالها على المادة قبل النشر في القدس.
لا يتوقف الشاعر والمفكر السوري أدونيس عن كونه مثيراً للجدل سواءً بطروحاته الفكرية التي قدمها في مؤلفاته بدءا من "ديوان الشعر العربي" إلى "الثابت والمتحول" أو عبر تصريحاته الإعلامية بين الفينة والأخرى، والتي قد لا تبدو جديدةً إذا ما تم إرجاعها إلى السياق الفكري الذي دأب أدونيس على إنتاج جمله المعرفية ومواقفه الثقافية وفق ثيماته.
إلاًّ أنّ ما قد يغري المتابع للشأن الثقافي هنا أن يمارس شكلاً أولّيَّاً من أشكال التحليل النقدي لمواقف عشرات المثقفين من تصريحات أدونيس الأخيرة والتي تحدث فيها عن انقراض الحضارة العربية. وربما يجدر بنا الاستدراك والتفكير ملّياً فيما أطلقنا عليه ("مواقف" العشرات) والتي تبدو أقرب إلى كونها انفعالات لا تستوفي شروط الموقف إلاَّ إذا اتفقنا على طابعها "الجماهيري" بالمعنى السايكولوجي، يمكنا حينئذٍ أن نعاينها في إطار الموقف الجمعي بما يتضمنه مصطلح الجمعي من أفخاخ لست بصدد رصدها.
وبحسب جورج طرابيشي في "التحليل النفسي لعصاب عربي جماعي" فإنَّ هذه الجماهير المثقفة تتبنى خطاباً ارتدادياً يتجلى في احتمائها بمظلة التراث في مواجهة حاضرٍ جارح أبرز سماته في موضوعنا هي استقالة "الخطاب الثقافي العربي" من نطاق الفعل التاريخي وانكشاف العجز المتفاقم عن ردم الهوة الحضارية وتراكم الرضّات الجارحة. يمكن التدليل على ذلك من خلال تتبع الحبر الذي سال والساعات التلفزيونية التي كرّست للبحث في "انتقاد" الفعل الأدونيسي في حالات أقرب إلى السطحية والطفولية منها إلى الممارسة النقدية المتأنّية.
لا يمكن لأدونيس أن يجلس مسترخياً في قصّابين إلى جوار أمه العجوز معتكفاً يأكل "البرغل بالحمًّص" وهو صاحب المشروع الحداثي - بغض النظر عن رؤيتنا لهذا المشروع - إلاَّ إنَّه مشروع مؤسس يرتكز إلى رؤية بحثية تنفر مما هو ماضوي وسلفي وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية التراث الذي تنبع منه، مزاوجةً إياه بالتراث الإنساني العام، حيث يغدو الحلم الأدونيسي "حداثة الإنسان" لا "حداثة الشيء"، لذلك فهو لا يكف عن العبث بأعشاش الدبابير انطلاقاً من وعيه بالدور الرّياديّ للمثقف ومن أهميته (أي أدونيس) الأيقونية الطابع في راهن الحالة الثقافية.
بالتأكيد لا يتعلق الأمر بموضوعة "قتل الأب " فالأمر هنا مختلف لجهة أنَ منتقدي أدونيس هم أكثر "أبوية" منه حين يسوقون اعتراضاتهم "الأخلاقوية" و"الثقافوية " والموسومة "بحرصهم" على سمعة الثقافة والأمة و"بعتبهم" على أدونيس، وهو "الكبير" و "العاقل". ألا ينطوي الأمر على وصاية معلنة وعلى حسرة مضمرة تتلخص في ترك الطابق مستوراً؟
بيدَ أنّ مشارب أخرى كانت أكثر وضوحاً وقطعانية (من القطيع لا القطيعة) حين نعتته بالمهزوم حضارياً وبالمأخوذ ثقافياً والمتزلّف إلى نوبل .. إلى آخره مما تنوء بحمله قواميس رطاناتهم المكتنزة بقوالب محنطة من البلاغات والإقصاءات المهترئة التي كشفت حجم الجرح الذي نكأه الأخير وقدْرَ العنصرية التي تستحوذ على لا شعورنا الثقافي، خصوصاً وأنه قد اتخذ من كردستان العراق مكاناً لبث تصريحاته واضعاً نفسه في المرمى المباشر لجماعة "لماذا الآن ولماذا كردستان"! بينما مضى آخرون في اتهام تصريحات أدونيس بالكولونيالية وتبنيه صراع الحضارات مستفيدين من مساحات تمنحها صحف لم تتجاوز أزماتها الأيديولوجية، ومبشّرين بولادة النهضة والتنوير العربيين وهو ما نسمعه منذ النهضة البائدة، حيث لم يوفر شاعر سوري الأكراد ـ في معرض انقضاضه على أدونيس ـ واصفاً ما قد يعتبرونه نواة لحلمهم القومي "بمحمية أمريكية" لا أكثر! وهكذا نلاحظ كيف تختلط الأمور وتتشاكل في إطار الحالة الهذيانية والهيجانية.
المحبط في الأمر أن الرجل يأتيهم بأفكار فلا يلقى منهم سوى إنشاءً سطحياً وعلكاً ولوماً وتخندقات لا يمكن فهمها سوى بوضعها في إطار العصابية الجمعية والتي لا تفضي سوى عن قراءات عاطفية وغير منصفة لفكر الرجل ومواقفه التي ملّ وهو يكررها. وقد شاهدنا ذلك في مناسبة قريبة حين أطلّ على أثير فضائية المشرق عبر مداخلة هاتفية كي يشرح لمقدمة البرنامج وضيفيها الأديب خيري الذهبي والروائية سمر يزبك أنه حين تحدّث فيما تحدّث إنّما عنى مؤسسات لا أفرادا وأنه حين عبّر عن رؤيته لدمشق كمدينة "مكتملة الأفق" لم يصدّر حكم قيمة بقدر ما كان يدلّل على ضآلة الأفق المتاح لجهة اكتمال المشهد بإحكام مقارنة ببيروت المستعصية على الإغلاق أو الإتمام. بالتأكيد لم تبرئه توكيداته من تنطعات خيري الذهبي وأستذته التي لزمها الكثير من التماسك حينذاك. مع شديد الاحترام لشخص الرجل إلاً أنّه لم يبدو منصفاً ولا عقلانياً إذْ أسّس فرضيته انطلاقاً من رفضه تقبُّلَ رأي آخر لا يرى في دمشق كحالة أو كمحيط ثقافي مدينة جديرة بالغزل، عكس ما دأب الكتّاب على الاتكاء عليه في مروياتهم! حتى غدى شاعر من القامشلي في أقصى الشمال الشرقي السوري على سبيل المثال أو ربما من صعدة في اليمن يتغزل بدمشق قبل أن يزورها! فما بالك باكتناه المدينة وفك أقفالها التي يبدو أن الذهبي يحتكر امتلاكها بينما لم يلامس أدونيس هذه المفاتيح كما قال!
أمَّا سمر يزبك فقد تخلّت عن تضامنها المضمر مع أدونيس في تلك الحلقة لتبث خيبة أملها في النهاية من أن "أدونيس" قد تورّط في "المعمعة" إذْ نعت الكتّاب والمثقفين العرب بأنهم الشريحة الأكثر سوءاً حين يتم الحديث عن أزمة الحضارة العربية، ولا أعتقد أن هذا رأي أدونيس فقط، فمعظم الكتاب العرب يرددون هذا الرأي خصوصاً وأنه لا يتعلق بهم شخصياً! (ينصح هنا بمراجعة رواية السوري فواز حداد الأخيرة "المترجم الخائن " والتي قد تساعد في تقبل رأي أدونيس في الكتَّاب العرب عموماً والسوريين على وجه الدقة في فضاء الرواية).
سيكون عليه أن يردّ ويجيب يا سمر، فهو ليس كائن فضائي كما أنّ ردّه يعكس اتساقه مع مشروعه الفكري والثقافي إذ يخاطب كائنات تراثية وقابعة في الماضي لكنها إمّا تنكر هذه الحقيقة عن قصد، أو أنها لا تعيها والأمر سواء. لربما يقدِمُ أدونيس على أخطاء في معرض ردوده، وقد ينزلق إلى المستنقع الذي يطيب لآخرين المكوث فيه، وربما متعة أن يشاركهم إياه من يرونه "نجماً". لكنّه من غير المتوقع أنْ يركن إلى مصيرٍ نخبوي تقليدي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ وسياقات الحالة الأدونيسية؛ والتي هي أيضا يجب ان تكون موضع نقد لا تمجيد، لكننا نركز على تسجيل اعتراض على تأويلات جائرة تتلقفها المنابر المجوفة كمادةٍ دسمة.
لم يكن ماقاله الرجل محبطاً بحسب ما رأته يزبك بقدر ما بدا إقراراً بواقع الحال وترفّعاً عن الإنكار الزائف والكسول الذي يأتي على المثقف كما تأتي النار على الهشيم.
وجاء الضيف الأخير عبر الهاتف لينطبق عليه المثل القائل "إجا ليكحلها عماها" بيير أبي صعب وعبر لعثماته المرتبكة ونكوصه القومجي غير المفهوم ليقول بأن "أدونيس نبي" ويجب على النبي أن يكون كلامه محسوباُ! "أدونيس غلّط"!!...إلخ من جمل اصطفت وتداعت دون أن تأتي بما يشكّل رأياً معرفياً أو ثقافياً.
ملخّص القول أن الجميع يريد من الرجل أن يتحنّط وأن يدخل الجوقة بهدوء، هل هي جوقة أم قطيع؟ يحتمل كلا الأمرين تفكيراً مليّاً، أليس كذلك وهم يطالبونه تارةً ويرجونه تارةَ أخرى (بحسب مواقعهم في التراتبية الثقافية والإعلامية) بالتخلّي عن أساس الفعل الثفافي وجوهره النقدي؟ المهم أنه علق! ولكن شيئاً من الحظ يقف إلى جانبه حيث أن منجزه الثقافي والشخصي إن شئنا يمنحه امتياز التعالي على الجماهيرية وإمكان القسوة على إرهاصاتها المازوشية، ما يفتقده غالبية منتقديه.
لن تنتهي المسألة عند هذا الحد بكل تأكيد نظراً لسببين رئيسيين على الأقل، أولهما هو الخواء الذي يطبع المشهد الثقافي منذ عهد ليس بالقريب، وثانيهما رمزية أدونيس في هذا المشهد الطفولي والضغائني، وقد يمكن إضافة ثالثٍ نافل يتمظهر في إعلام مجوّف يبحث عن صيف ساخن وسط ركود عالمي.
إبراهيم قعدوني شاعر من سوريا
التعليقات (0)