كلمة لا بد منها
ليس سهلا أن تكتب عن زميل رافقته سنوات عديدة في العمل، وربطتك به أواصر صداقة متينة، والأصعب أن تكتب عنه بعد رحيله المفاجئ عن دنيانا، ومع ذلك سأحاول – قدر الإمكان - أن أكون موضوعيا، وأن أفيه حقه فأكتب عن نتاجه الأدبي للأطفال، معتمدا على استقراء مؤلفاته لهم.
سيرة سلمان فراج وإنتاجه
ولد سلمان فراج في قرية الرامة في الجليل عام 1941، درس في مدارسها، وأنهى المرحلة الثانوية عام 1959، ثم التحق بدار المعلمين العرب في يافا وتخرج منها عام 1962.
عمل في التدريس في قرية نحف أولا، بعدها انتقل لبلدته الرامة ليعلم في المدرسة الابتدائية، ومنها في المدرسة الثانوية.
عام 1978 عين مفتشا للغة العربية، بالإضافة إلى عمله في المدرسة الثانوية، وفي عام 1983 تفرغ للتفتيش وترك التدريس في الثانوية.
في أثناء عمله التحق بجامعة حيفا وحصل على اللقب الأول عام 1972 في موضوعي اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط.
عام 2002 حصل على اللقب الثاني في الأدب العربي من جامعة حيفا.
واصل العمل مفتشا مركزا للغة العربية في المدارس الدرزية والمختلطة ومحاضرا في الكلية العربية للتربية في حيفا حتى خروجه للتقاعد عام 2007.
توفي سلمان فراج في 18.7.2007.
كتب سلمان فراج للكبار البالغين وكتب للأطفال الصغار، فقد كتب الشعر والقصة والدراسة.
وقد صدرت له الكتب التالية:
1. نقوش عبر الإطار- (مجموعة شعرية) 1992.
2. طيري يا طيارة – (قصة للأطفال) 2000.
3. عدال – (مجموعة شعرية) 2001.
4. الدروز في إسرائيل (ترجم الكتاب عن العبرية بمشاركة فايز عزام)
5. كلام للبيع – (مجموعة قصصية) 2003.
6. حكايات هيا -1- (شعر للأطفال) 2003.
7. حكايات هيا – 2 - (شعر للأطفال) 2003.
8. حكايات هيا – 3 - (شعر للأطفال) 2003.
كما نشر سلمان فراج عددا من المقالات والدراسات في الصحف والمجلات المحلية.
كذلك شارك في تأليف وإعداد العديد من الكتب المدرسية في موضوع اللغة العربية للمدارس في المدارس الدرزية والمختلطة.
مع مؤلفات سلمان فراج للأطفال
ستتناول هذه الدراسة المتواضعة بالدراسة والتحليل مؤلفات سلمان فراج للأطفال المذكورة أعلاه.
ولكن قبل أن نستقرئ النصوص ونحللها للوصول إلى بعض سمات أدب سلمان فراج للأطفال، نطرح تصورا عاما حول طبيعة أدب الأطفال وماهيته، وحول أهمية هذا الأدب ودوره في تنشئة الأطفال.
أ. أدب الأطفال هو أولاً وقبل كل شيء أدب وفن
إن العمل الأدبي الجيد، سواء كان للكبار البالغين أم للأطفال الصغار، حريص على توفر المعايير الفنية الجمالية فيه. فلكل لون من الألوان الأدبية معاييره ومواصفاته وخصائصه. فللشعر الجيد مقاييسه، وللقصة الفنية عناصرها، وللمسرحية الناجحة مقوماتها، وهلم جرا..
ولكن أدب الأطفال، بالإضافة إلى ذلك، يمتاز بضرورة مراعاة جمهور المتلقين الأطفال من حيث مستواهم العقلي والنفسي واللغوي، وأديب الأطفال الناجح يحاول تحقيق التوازن والاندغام بين العملية الإبداعية الفنية والعملية التربوية النفسية (أبو فنه 2001).
لهذا السبب يشكل أدب الأطفال ظاهرة مركبة ترجع للازدواجية الكامنة فيه فهو - أي أدب الأطفال - حريص على توفر البعد الفني الأدبي من جهة، وعلى البعد التربوي - النفسي من جهة أخرى. وعن هذه الإشكالية تحدث أديب الأطفال السوري عزيز نصار واصفاً تجربته حيث قال: " حاولت إقامة التوازن بين العملية الإبداعية والعملية التربوية ، فهما جناحان ، إذا افتقدنا أحدهما هوى الأدب الطفلي، فلا يغني جناح عن آخر." (نصار 1982).
إذن لا بد من توفر المعايير الفنية الجمالية في أدب الأطفال مهما كانت المضامين والقيم رفيعة وهامّة، فأدب الأطفال في الأساس فن وإبداع. وهذه شهادة أخرى لأديب الأطفال والباحث في أدب الأطفال عبد التواب يوسف حيث يقول: "إن كتب الأطفال يجب أن تتحول إلى نوع من الفن الخالص. ورغم أنني رجل تربية في الأساس، إلا أن إخلاصي للفن يحتم علي أن أقف ضد تحويل كتب الأطفال إلى منابر للوعظ والإرشاد" (يوسف 1992).
وبكلمات أخرى: أدب الأطفال الجيد لا يقتصر على المضمون من أفكار وقيم، بل هو كذلك يتمثل بالشكل من لغة وأسلوب وخيال وعناصر فنية مختلفة، والمضمون والشكل دائما متلاحمان يصعب الفصل بينهما.
وعلى ضوء ذلك، قد تكون الكتابة للأطفال والفتيان أصعب من الكتابة للكبار البالغين بسبب الإملاءات والقسريات التي تتطلبها المرحلة العمرية للمتلقين الأطفال، فبالإضافة إلى الموهبة الأدبية يحتاج أديب الأطفال إلى الاطلاع الواسع في مجال علم النفس والتربية ليعرف الخصائص النفسية والعاطفية والعقلية واللغوية للأطفال والفتيان.
ب. أهمية أدب الأطفال ودوره في تنشئة الأطفال
يشارك في عملية تنشئة الطفل عدة أطراف أو وسطاء:
الأسرة- الوالدان، الجيران، جماعة الأقران، المدرسة، أماكن العبادة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.
ويحتل الأدب مكانة بارزة في عملية تنشئة الأطفال، فهو يستطيع: "أن يلبي احتياجاتهم النفسية، ويسهم في إشباع اهتماماتهم العقلية، ويربي أذواقهم، ويصقل مشاعرهم وإحساساتهم، ويمكنهم من التصدي للحياة ومتغيراتها بايجابية ووعي" ( أبو الرضا 1990: 7).
وهناك من يغالي في أهمية أدب الأطفال ودوره في تكوين شخصية الطفل وبلورة اتجاهاته السوية، ويستشهد بعبارة الشاعر البلغاري ران بوسيليك الذي قال في هذا الصدد: " الأدب للأطفال كحليب الأم والهواء النقي اللذين لا بد من توافرهما " ( كنعان 1995: 192).
وعن أهمية كتاب الأطفال، قال الكاتب الفرنسي فرنسيس فيدال: " إن كتّاب الأطفال يمكن أن يغيروا ذوق العالم – بل العالم نفسه" (الشماس 1996: 30).
ويتضاعف تأثير الأدب في الأطفال بسبب حساسيتهم وقابليتهم الشديدة، ولان الأدب الجيد يعتمد على الأسلوب غير المباشر وعلى الإيحاء. فعن طريق النموذج والقدوة والتقليد، وعن طريق التوحد والتماهي، يُذوت الأطفال القيم ويمتصونها، بحيث تسهم في تكوين شخصياتهم واتجاهاتهم في المستقبل.
أبرز سمات أدب سلمان فراج للأطفال
كتب سلمان فراج نصوصا أدبية للجمهورين: الكبار الراشدين والأطفال الصغار. وقد حرص في نتاجه الأدبي جميعه على مراعاة المعايير الفنية سواء في شعره أو في قصصه، ولكنه كان يعي جيدا أن الكتابة للأطفال تختلف عن الكتابة للكبار، لذلك أبتعد في أدبه للأطفال عن الموضوعات المجردة، وعن الغموض والتناص، وعن الأسلوب المكثف الثري بصوره ومجازاته!( يمكن الرجوع لكتب سلمان فراج للكبار للوقوف على تلك الخصائص).
وبعد القراءة المتأنية لأعماله الأدبية للأطفال، وبعد استقراء تلك النصوص وتحليلها يمكن ملاحظة السمات التالية لأدب سلمان فراج للأطفال:
بروز الاتجاه الواقعي .
التركيز على الأطفال - خاصة البنات.
إعلاء قيم الإبداع والابتكار.
تأكيد العلاقات الاجتماعية والأسرية الحميمة.
الالتفات لجمالية اللغة والأسلوب.
بروز الاتجاه الواقعي
في مؤلفاته للأطفال يتجه سلمان فراج للاغتراف من الواقع المعيش، يستمد موضوعاته من هذا الواقع، ويتخذه مسرحا لأحداث قصصه وشخوصه.
والاغتراف من الواقع لا يعني نقل ذلك الواقع كما هو بشكل تسجيلي "فوتوغرافي" ونسخه بل هو- كما يقول أحد النقاد: " إدراك جوهره ومعالجته في تنور الفن ليخرج رغيفا ناضجا قابلا للتذوق" (معماري 2007).
الأديب الواقعي لا يلتزم بالواقع بحذافيره، بل "يحور ويزيد وينقص ويختلق ويعيد التكوين ليأتي بواقع ليس نسخة أمينة للواقع الحقيقي، بل هو محاكٍ له وممكن الوجود والتصور" (الأصفر1999).
ففي مؤلفات سلمان فراج للأطفال تتجلى الواقعية في الموضوعات التي تدور حولها الأحداث، وفي الشخصيات وفي المكان والزمان...
فقصة "طيري يا طيارة" تروي حكاية الطفلة نانا التي "تأخذ" طيارة أخيها فادي الورقية، وتصعد للسطح لتطيّرها... وفجأة، وهي في غاية السعادة، تهب ريح شرقية شديدة، فتعاني الصغيرة صراعا مريرا: هل تدع الطائرة تفلت من يديها فيغضب أخوها صاحب الطائرة، أم تتشبث بها فتعرض نفسها لخطر السقوط عن السطح؟ وأخيرا يأتي الخلاص فينقذها أبوها من هذه الورطة.
وفي هذه القصة تفاصيل كثيرة ترتبط بالواقع المعيش وبحياة أطفالنا المألوفة في أيامنا كاللعب والمذاكرة ومشاهدة حلقات "الميكي ماوس"!
وتأتي "حكايات هيا" المختلفة مستمدة أحداثها وشخوصها وأجواءها من واقع حياة أطفالنا المعاصرة سواء داخل جدران المدرسة أو في البيت مع الأهل أو مع الأصحاب والألعاب والهوايات والحاسوب!
إن هذا التوجه للواقعية - في رأينا - يسهم في خلق التفاعل بين الأطفال المتلقين والقصص المكتوبة، ويعمل على زيادة تكيفهم للواقع، ويقربهم من بيئتهم ومجتمعهم، فلا يشعرون بالغربة ولا الاغتراب!
التركيز على الأطفال (البنات خاصة)
قيل: "الطفولة عالم أثيري شفاف، تتشكل مفرداته من البراءة والنقاء والبهجة والأحلام" (عيسى 2008: 11).
وكتب محمد قرانيا: " يتمتع الطفل بحاسة الاندهاش التي لا مثيل لها لدى الكبار" واستطرد موردا قولا لبابلو نيرودا: "إذا فقد الشاعر الطفلَ الذي يعيش بداخله، فإنه يفقد شعرَه" ( قرانيا 2003: 7).
ويبدو أن سلمان فراج اطلع على مثل هذه الآراء وآمن بها، لذلك كانت جميع مؤلفاته للأطفال تتمحور حول الأطفال وعالمهم الطفولي، فالشخصيات الرئيسة في جميع القصص والحكايات أطفال صغار- وجلهم من الإناث/البنات- وإن وجدت شخصيات من الكبار الراشدين فهي شخصيات ثانوية قريبة من الأطفال ، جاءت لتسهم في التعرف على الأطفال ولإبراز مشاعرهم وأحاسيسهم، أو لتقدم الدعم والتعزيز للصغار للخروج من مأزق أو لممارسة هواية محببة!
الشخصية المركزية في قصة "طيري يا طيارة" هي الطفلة "نانا" وجميع أحداث القصة تدور حول تطييرها طائرة الورق وصراعها مع الريح الشرقية الشديدة حتى ظهور الأب وتخليصها من المأزق، وهناك إشارة إلى أخيها الطفل فادي الذي "أخذت" طائرته من غرفته بلا موافقته!
وفي "حكايات هيا" نجد أن الطفلة "هيا" هي الشخصية المركزية في جميع الحكايات، وأحيانا يرافقها أطفال صغار آخرون مثل صديقتها "دنيا" أو "سوسن"، وقد ترد شخصيات من الكبار الراشدين كالأم أو المعلمة ولكن أدوارها- كما أشرت – ثانوية.
ومما يلفت النظر في القصص والحكايات التي كتبها سلمان فراج للأطفال إعطاء مساحة واسعة للإناث على حساب الذكور، وقد يكون الدافع التحرر من الآراء النمطية المسبقة التي تكرس دونية المرأة/الأنثى، وترفع من مكانة الرجل/الذكر، ولا شك أن أدب الأطفال له دور بارز في ترسيخ القيم وتذويتها، خاصة لدى المتلقين الأطفال، وهذا ما وعاه الأديب سلمان فراج.
إعلاء قيم الإبداع والابتكار
يتحدث الباحث حسن شحاتة في كتابه القيّم: " أدب الطفل العربي – دراسات وبحوث" عن أهمية أدب الأطفال كوسيط تربوي في تنشئة الأطفال وبلورة هويتهم وشخصيتهم فيقول: " إن أدب الأطفال يوفر سياقا نفسيا اجتماعيا يراعي سمات الإبداع وينميها خلال التفاعل والتمثل والامتصاص من حيث استثارة المواهب، ومحاولة تنمية هذه المواهب عن طريق تحقيق جو من التسامح والدفء العاطفي والحب والديمقراطية" (شحاتة 1994: 12).
ويفصل د. شحاتة حديثه بالتطرق إلى نوعين من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية: نوع يرتبط بثقافة الذاكرة، ونوع ثان يرتبط بثقافة الإبداع.
النوع الأول يركز على حشو الذاكرة بالمعلومات بدون إعمال الفكر والنقد، ولا يتيح الحرية للحوار والنقاش والإبداع ... بينما النوع الثاني يدعو للبحث وإعمال الفكر بالتحليل والتعليل والتفسير والموازنة والإبداع والتحرر من عبودية المواد وقدسيتها... (ن.م.).
والقراءة المتأنية المتعمقة لمؤلفات سلمان فراج للأطفال تكشف عن محاولة جادة لتقديم أدب يبرز العديد من صفات ثقافة الإبداع كالمغامرة، المبادرة، التعبير الإبداعي عن الذات بالرسم والغناء والكتابة، حرية الاختيار، الثقة بالنفس وإبداء المواقف والمشاعر.
فهذه "نانا" الصغيرة في قصة "طيري يا طيارة" تبادر وتقتحم غرفة أخيها فادي لتأخذ طائرته الورقية وتصعد للسطح لتطيرها بكل جرأة وثقة، فتعيش في أجواء من السعادة، ينطلق خيالها ليحلق عاليا مع الأحلام ومع الطائرة الورقية المحلقة في الأعالي!
وفي سلسلة "حكايات هيا" نقرأ أكثر من نص ترتبط أحداثه وموضوعاته بقيم الإبداع والابتكار:
فالطفلة هيا تمارس هوايات الإبداع والابتكار وحيدة منفردة أحيانا، ومع الآخرين أحيانا أخرى.
في حكاية "أرسم وأتمتم" تمارس الصغيرة هواية الرسم، ونجد أن هذه الهواية تستحوذ على مشاعرها، وعندما تمارسها تنسى كل شيء، فلا تحس بالجوع ولا بالعطش، ولا تشعر بمرور الوقت، ولا تسمع النداءات والأصوات، ويبدو أن الانسجام مع الهواية وممارستها والاستغراق فيها، تتيح للصغيرة تحقيق ذاتها في هذه المرحلة العمرية المبكرة!
وفي حكاية "الوجه" تمارس الصغيرة هيا مع أمها لعبة ممتعة فيها الكثير من الإبداع والابتكار:
فالصغيرة هيا مع أمها تعملان "وجها" وتركبان فوقه شعرا وعينين وأنفا وفما وأذنين... وهذا العمل تطلب استخدام مواد مختلفة، والقيام بفعاليات متنوعة من صبغ وتلوين وقص وإلصاق حتى تم عمل الوجه الجميل الحلو الذي حقق الفرح والسعادة للصغيرة المبدعة هيا!
وفي حكاية "أبني بيتا" تمارس الصغيرة هواية البناء والهدم المسلية؛ فتبني بيتا من القطع الخشبية الملونة، ويكون لهذا البيت باب وشبابيك وقنطرة وقباب، وله سور وبرج ودرج.. وبعد إتمام عملية بناء البيت تقوم الصغيرة البريئة بدفع البناء وهدمه، " وبرمشة عين سحرية، تقع القطع الخشبية"!
وفي حكاية "عندي حاسوب" تمارس الصغيرة هيا مع صاحبتها سوسن اللعب بالحاسوب الجديد؛ فترسمان الأزهار والأشجار والعصافير والفراشات، وتلونان ما ترسمان... ثم تؤلفان قصة "شرشور الشرير" الذي يقطف الأزهار ويشمها ويرميها، فتأتي نحلة وتلسعه فتضحك الصغيرتان "من هذا الشرشور الشرير..!".
يلاحظ أن ما ورد في القصص والحكايات المذكورة يبرز بشكل واضح أنها تنتمي لما يعرف بثقافة الإبداع لا ثقافة الذاكرة؛ فالصغار لا يلتزمون بأنماط السلوك التقليدية المألوفة التي يفرضها الآخرون – من كبار وغيرهم- بل يتمتعون بالثقة بالنفس، ويجرؤون على المغامرة، ويمارسون هوايات متنوعة مثل: الرسم والغناء والبناء والكتابة الإبداعية.. ومثل تلك الفعاليات والهوايات تسهم في صقل شخصيات الصغار، وتشكل روافد غنية تغذي تلك البراعم الغضة لتنمو وتترعرع في مسيرة الإبداع المباركة المنشودة!
تأكيد العلاقات الاجتماعية والأسرية الحميمة
ذكرنا أهمية أدب الأطفال ودوره في عملية التنشئة الاجتماعية، فهو كما يقول أحد الباحثين: "أدب الطفل ليس مجرد تسلية، مع أن دوره كتسلية مهم جداً، فهو تثقيف للطفل وفي ذات الوقت وسيلة تساعدنا على بناء شخصية الطفل المتكاملة، ولو طرأ على شخصية الطفل أي عارض أو مشكلة نفسية اجتماعية، يمكننا أن نوظف الأدب ليساعدنا في حل هذه المشكلة" (عيسوي 2007).
هذا الدور المؤثر الفعال لأدب الأطفال لم يغب عن سلمان فراج في كتابته للصغار، من هنا راح يضمن قصصه وحكاياته لهم قيما ومثلا ايجابية بطريقة غير مباشرة، بعيدا عن الوعظ والتعليم.
في قصة "طيري يا طيارة" نتعرف على العلاقات الأسرية الحميمة الدافئة، فنانا الصغيرة "لا تخاف" من أخيها فادي، لذلك سمحت لنفسها أن تدخل غرفته وتأخذ طيارته الورقية لتلهو بها، ورأينا كيف كانت حريصة على تلك الطيارة وعدم التفريط بها لئلا يغضب أخوها حتى ولو تعرضت حياتها للخطر!
وفي اللحظة الحرجة عندما واجهت نانا السقوط عن السطح بفعل الريح الشرقية الشديدة، يظهر الأب الحاني المنقذ، فيلف بساعده نانا ويحملها إلى بر الأمان.. وتأتي كلماته المطمأنة- بدون توبيخ وتقريع- الموجهة للابنة الغالية:
"فحمدًا لله!
وحذارِ ... حذارِ
لعب الأطفال مليح في الساحة يا نانا
لكن ليس على سطح الدار!".
وفي حكايات هيا نستشف العديد من القيم الاجتماعية والإنسانية الحميدة التي يجدر بأبنائنا التحلي بها، من بين تلك القيم نذكر:
الصداقة، الإيثار، المحبة والترابط الأسري..
في حكاية "هيا ودنيا" نتعرف على علاقة المحبة بين هيا ومعلمتها، كذلك نستشعر المحبة والصداقة المتينة التي تربط بين هيا وزميلتها دنيا، فهي تقاسمها التفاحة التي تضعها أمها في "شنطتها"، والأهم: هيا تتعاطف مع صاحبتها دنيا التي لا تحظى من أمها بمعاملة منصفة مثل معاملتها لأخيها.
وفي حكاية "الوجه" نلمس مشاعر المحبة والتفاهم بين أفراد الأسرة، فأم هيا تشارك صغيرتها اللعب والابتكار، وهما تعملان معا عملا إبداعيا في تشكيل وجه... !
وفي حكاية "عندي حاسوب" تبرز العلاقات الاجتماعية والأسرية الحميمة، فالوالدان يشتريان حاسوبا خاصا لهيا، فتفرح هيا ومعلمتها بذلك!
وتتحلى هيا في هذه الحكاية بقيمة الإيثار والبذل، فهي تشارك صديقتها سوسن اللعب في الحاسوب والرسم والكتابة الإبداعية الممتعة.
الالتفات لجمالية اللغة والأسلوب
هناك شبه إجماع بين الأدباء والباحثين حول ضرورة ملاءمة أدب الأطفال في مضمونه وأسلوبه لإدراك الأطفال وخصائصهم النفسية والعقلية واللغوية.
وإذا تجاوزنا قضية المضمون – حيث تطرقنا إلى جوانب من ذلك سابقا – فإن قضية اللغة والأسلوب تعتبر مهمة في نجاح النصوص الموجهة للأطفال.
تنعكس قضية اللغة والأسلوب في: الألفاظ والتراكيب، وفي بناء الجمل وتركيبها وفي الأساليب الأدبية- الفنية المستعملة.
فعلى صعيد الألفاظ والتراكيب اللغوية: هناك ضرورة لمراعاة لغة الطفل وقاموسه اللغوي حسب مراحل العمر والنمو، ويتمثل ذلك في استخدام الألفاظ والتراكيب السهلة وتجنب الغريبة غير المألوفة منها، مع الإقلال من المفردات والتراكيب المجازية.
وعلى صعيد الجمل وتركيبها: استخدام الجمل القصيرة أو المتوسطة الطول، وتجنب الجمل الطويلة المركبة. وهناك من يدعو إلى تغليب الجمل الاسمية المبدوءة بالمسند اليه- الاسم- على حساب الجمل الفعلية المبدوءة بالمسند- الفعل- خاصة في النصوص الموجهة للأطفال في مراحل الطفولة المبكرة، وأن لا يكون تباعد بين ركني الجملة، كذلك أن لا تكون جمل اعتراضية.
وعلى صعيد الأساليب: تحري الوضوح والدقة، وتجنب الإسراف في الزخرف والتكلف في الأسلوب، والتقليل من استخدام أسلوب التلميح والمجازات الغامضة والكنايات البعيدة، كذلك المزاوجة بين أساليب الخبر وأساليب الإنشاء كالجمل التعجبية الدالة على الانفعال والنداء والاستفهام وغير ذلك.
ومما يضفي على النص الحيوية والحركة وجود المقاطع الحوارية والتخفيف من السرد الزائد (شحاتة 1994: 93-142، أبو فنه 2001: 22-23).
ويبدو أن سلمان فراج في مؤلفاته للأطفال قد أولى مسألة اللغة والأسلوب عناية خاصة، فتجربته الإبداعية في الكتابة للكبار- شعرا ونثرا- واطلاعه الواسع على النظريات والدراسات الأدبية المتعلقة بأدب الأطفال، جعلته حريصا على توفر العناصر الفنية الجمالية في مؤلفاته للأطفال.
فليس صدفة أن يكتب سلمان فراج القصص والحكايات الشعرية للأطفال، فهو يعي أهمية الإيقاع والموسيقية لدى جمهور الأطفال الصغار الميالين بطبيعتهم إلى النغم والموسيقى.
من هنا جاء التزام سلمان فراج بالبحور الشعرية وبالقوافي في قصة "طيري يا طيارة" وفي "حكايات هيا" كلها.
قصة "طيري يا طيارة" جاءت على وزن واحد هو تفعيلة "فعلن" وهي تفعيلة بحر "المتدارك".
حكاية "هيا ودنيا" جاءت على وزن واحد هو تفعيلة "مستفعلن"، وهي تفعيلة بحر "الرجز".
حكاية "أرسم وأتمتم" جاءت على وزن واحد هو تفعيلة "فعلن"، وهي تفعيلة بحر "المتدارك".
بقية حكايات هيا – الوجه، أبني بيتا، عندي حاسوب- جاءت على بحر المتدارك (تفعيلة "فعلن").
هكذا نرى أن حرص سلمان فراج على توفر الإيقاع والموسيقى في مؤلفاته للأطفال قد تحقق من خلال التزامه بالبحور الشعرية، وقد اختار بحرين من البحور الصافية التي تعتمد على تكرار تفعيلة واحدة، وكان البحران المستعملان هما: المتدارك والرجز، وهما من البحور الخفيفة التي تصلح لشعر الأطفال.
أما القافية، وفي جميع القصص والحكايات، فجاءت متنوعة لتتيح للشاعر مزيدا من المرونة وحرية الحركة لنقل الأحداث والتعبير عن المواقف والمشاعر المختلفة.
ويلاحظ، أيضا حرص سلمان فراج على توفر الإيقاع والموسيقى في نصوصه للأطفال من خلال التكرار، سواء تكرار ألفاظ وكلمات، أو تكرار عبارات وتراكيب، وهناك أمثلة عديدة للتكرار الوارد في النصوص مثل:(من قصة طيري يا طيارة)
تكرار ألفاظ: (صارت، صارت )، (فرحت، فرحت)، (طيري، طيري)، (لفت، لفت)، (خطوة، خطوة)،....
تكرار تراكيب وعبارات
(ما أحلاها! ، ما أحلاها!)، (يا رب!، يا رب!)، (ماذا تفعل؟، ماذا تفعل؟)، (ما أحلى... ما أحلى!)، ( حمدا لله!، حمدا لله!).
ونجد الكثير من التكرار بأنواعه في حكايات هيا أيضا.
ولتحقيق المزيد من الإيقاع والموسيقى في نصوصه يعمد سلمان فراج إلى وسائل وطرائق مختلفة مثل: اختيار الألفاظ البسيطة السهلة، والجناس في الكلمات نحو: (شرشور الشرير)، (طيري يا طيارة)،.. وقد يستمد بعض الألفاظ ذات النكهة المحكية الدارجة نحو: ("رخَت" يدها)، (تزعل مني)، (شنطتي)، (حكت عني..)، (هي...هي... هوب).
ومن الأساليب التي تقرب النصوص للصغار لجوء سلمان فراج إلى استعمال الجمل الإنشائية كالتعجب والنداء والاستفهام مما يضفي على النصوص الحيوية ويبعدها عن الرتابة والأسلوب الخطابي المباشر.
ورغم محاولته الجادة لملاءمة نصوصه للأطفال في الوضوح والبساطة، إلا أنه أحيانا يأتي بصور فيها تشبيهات قد تلائم المتلقين الكبار نحو:
يقول عن الطائرة: (صارت ترقص كالجنية)، ( صارت تتلوى كالحية)، (تتلوى كالأفعى).
ويخاطب الأب أبنته: (لو لم آت الآن لطرت مع الريح كريشة عصفور وتحطمت...)
من هذا العرض نخلص إلى القول: حققت كتابات سلمان فراج للأطفال العديد من المواصفات والمعايير التي تؤهلها لتتبوأ مكانة مرموقة في أدب الأطفال العربي، فقد جمعت بين المعايير الأدبية الفنية والمعايير النفسية التربوية؛ لذلك لا غرابة أن يقرأها الأطفال الصغار، وأن يحبوها ، وهذا ما نلمسه في استطلاعات الطلاب في مشروع "مسيرة الكتاب" الذي تشارك فيه مدارسنا منذ عدة سنوات، واختيارهم لهذه المؤلفات، بحيث أدرجت قصة "طيري يا طيارة" وقصص "حكايات هيا" ضمن أكثر الكتب المحببة والمفضلة لديهم.
قائمة المراجع
المراجع الأولية
1. فراج 2000
سلمان فراج. طيري يا طيارة (قصة للأطفال). مركز أدب الأطفال. حيفا 2000.
2. فراج 2003
سلمان فراج. حكايات هيا -1- (شعر للأطفال). أ- دار الهدى. كفرقرع 2003.
3. فراج 2003
سلمان فراج. حكايات هيا – 2 - (شعر للأطفال). أ- دار الهدى. كفرقرع 2003.
4. فراج 2003
سلمان فراج. حكايات هيا – 3 - (شعر للأطفال). أ- دار الهدى. كفرقرع 2003
المراجع العامة
1. أبو الرضا 1990
سعد أبو الرضا. النص الأدبي للأطفال – أهدافه ومدارسه وسماته. منشأة المعارف. الإسكندرية 1990.
2. أبو فنه 2001
محمود أبو فنه. القصة الواقعية للأطفال في أدب سليم خوري. إصدار الكلية الأكاديمية للتربية في إسرائيل. حيفا 2001
3. الأصفر1999
عبد الرزاق الأصفر. المذاهب الأدبية لدى الغرب – مع ترجمات ونصوص لأبرز أعلامها. اتحاد الكتاب العرب. دمشق 1999.
4. شحاتة 1994
حسن شحاتة. أدب الطفل العربي: دراسات وبحوث. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية. القاهرة 1994.
5 . الشماس 1996
عيسى الشماس. القصة الطفلية في سورية. دراسة تحليلية للقيم التربوية. منشورات وزارة الثقافة. دمشق 1996
6. عيسوي 2007
صباح عيسوي. "حوار عن أدب الطفولة - الشخصيات المثالية تحبط الأطفال". حاورها: سلام نجم الدين شرابي. موقع"أمان" http://www.amanjordan.org
7. عيسى 2008
فوزي عيسى. أدب الأطفال – الشعر- مسرح الطفل – القصة – الأناشيد. دار المعرفة الجامعية. مصر 2008.
8. قرانيا 2003
محمد قرانيا. قصائد الأطفال في سوريا. اتحاد الكتاب العرب. دمشق 2003
9. كنعان 1995
أحمد كنعان. أدب الأطفال والقيم التربوية. دار الفكر. دمشق. ط1 1995
10. معماري 2007
وليد معماري. "فرخ البط القبيح". الأسبوع الأدبي. العدد 1051 . اتحاد الكتاب العرب. دمشق 2007 .
11. نصار 1988
عزيز نصار. "تجربة وأفكار أخرى". الموقف الأدبي. العدد 210-208. دمشق 1988
12. يوسف 1992
"مقابلة مع عبد التواب يوسف". أجراها: محمد قنديل. العربي، أكتوبر1992.
د.محمود أبو فنة
التعليقات (0)