مواضيع اليوم

أدبٌ بلا أدب

سلمان عبدالأعلى

2012-01-02 13:15:50

0

 

أدبٌ بلا أدب

بقلم: سلمان عبدالأعلى

يحظى الأدباء والمهتمون بالأدب بمكانة مرموقة في مجتمعاتهم، نظراً لإحساس المجتمع الذي ينتمون إليه بأنهم يمثلون النخبة في الفكر والثقافة و... ولهذا يعتقد الكثير من أفراد المجتمع «الذين يجهلون طبيعة هذه الصنعة» بأن الهوة التي تفصل بينهم وبين الأدباء كبيرة وكبيرة جداً، ليس فقط في المجال الأدبي، وإنما يتعداها إلى غيرها من مجالات الحياة الأخرى، وهذا الاعتقاد قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، كما أنه أيضاً لا يمكن أن يعمم على كل من يسمون بالأدباء.

فليس كل الأدباء متمكنون ومنفتحون على المجالات الحياتية الأخرى، كما أنه ليس كل من أطلق عليه لقب الأديب هو فعلاً أديب متمكن من الأدب، فالكثير من الناس أصبح له طموح لأن يسمى بهذا المسمى لينال نصيبه من المكانة والاحترام الذي يحظى به الأدباء، فهو يريد أن يقاسمهم هذه المكانة دون أن يكون في استطاعته أن يشاطرهم في ما يقدمونه ويبدعونه.

وربما تكون المشكلة الكبرى ليس في هؤلاء الطامعين، وإنما في مجاملة غيرهم لهم، سواءً من عامة الناس أو من الأدباء أنفسهم، فالبعض من الأدباء يجامل في وصف بعض الإنتاجيات المحسوبة على الأدب، ويبالغ في وصفها وتمجيدها وإن لم يكن معجب بها فعلاً، وقد يكون سبب ذلك هو فقدانه للشجاعة، فهو لا يجرأ لإعلان رأيه بصراحة، لأنه قد يكون على علاقة متميزة بهذا الشخص، ولا يريد أن يبدر منه ما يعكر صفوها أو قد يكون مستفيد من هذا الشخص ومن دعمه له ولا يريد أن يخسره بذلك أو لأي سبب آخر.

ما يهمنا هو أنه لهذه الأسباب أو لغيرها يكون بعض الأدباء منحاز وداعم ومجامل لهؤلاء المتطفلين مما يجعلهم - أي بعض الأدباء - لا يتورعوا أحياناً في وصف أحد هؤلاء بالأديب وإن كان نتاجه ركيكاً وضحلاً، وهذا بطبيعته مما يسهم في تشويه سمعة الأدب والأدباء في آن واحد، حيث يؤدي لاختلاط الحابل بالنابل كما يُقال، فلا يعرف حينها الأديب من غير الأديب.

إن من المؤسف حقاً أن يصبح الأدب ألعوبة بيد البعض بسبب المجاملات غير المحمودة، مجاملة الأديب نفسه فيما يكتب عن غيره، ومجاملة غيره له فيما يكتبون عنه، ونلاحظ هذا جلياً في وسائل الإعلام، إذ ما إن يكتب أحدهم قصيدة أو نصاً أدبياً وينشره على الملأ حتى نرى أصحابه والمحيطون به والطامعون في مرضاته يتسارعون لمدحه لإعلاء شأنه، مع أنهم ربما يكونون غير مقتنعين أصلاً بما قدمه!

ولهذا نرى التسرع في إطلاق الألقاب على بعضهم، فما إن يصدر أحدهم إصداراً أو يشارك في بعض الوسائل الإعلامية ببعض المشاركات حتى يصبح في نظر البعض أو يروج له على أنه من الأدباء الكبار المشار لهم بالبنان!! إذ أنه يُعرض أحياناً وكأنه أستاذ متمرس في هذا الفن، مع أنه قد يكون ممن يجهل أساسياته ومبادئه فضلاً على أن يكون ملم به أو متمكن منه.

ونتيجة لذلك نرى أدباء الإعلام إن صح التعبير قد ازداد عددهم في هذه الأيام، لأن هدفهم ليس تقديم نتاجاً أدبياً متميزاً، بل هدفهم هو ظهوراً وشهرةً إعلاميةً مميزة، ولهذا نرى جهودهم تنصب في خدمة نتاجهم الهزيل، وذلك عبر نشرها والترويج لها في وسائل الإعلام دون كلل أو ملل، إذ أنهم لا يدخروا جهداً في إبراز أنفسهم وفي عرض صورهم وأخبارهم بمناسبة وبغير مناسبة، فهم مهتمون بهذا الشأن أكثر من أي شأن آخر، وقد نلتمس لهم العذر ولا نلومهم، لأنه ليس في مقدورهم فعل أكثر من ذلك!

إن أدبُ هؤلاء المتطفلة إن صدق على ما يقدمونه مسمى الأدب، هو أدبٌ بلا أدب أو أدبٌ يحتاج إلى أدب، لأنه مبني على جهود إعلامية مصطنعة أكثر من كونه معتمد على الإبداع الأدبي المتميز.

ولا يظن البعض بأنني ضد الظهور في الوسائل الإعلامية أو ضد توظيفها والمشاركة فيها، فهذا الأمر مطلوب ومهم، وبدونه لا يمكننا التعرف على الأدباء ولا على إنتاجهم، وإنما كلامي هو أن لا يكون الاهتمام بهذا الجانب هو الطاغي على الاهتمام بالشؤون الأدبية الفعلية، «أي أن لا تكون الشغل الشاغل»، وأن لا يكون مدى الانتشار والظهور الإعلامي هو المعيار الوحيد لإثبات التميز الأدبي.

هذا بالنسبة للمتطفلين على الأدب، أما بالنسبة للأدباء أنفسهم، فإن كثيراً من أدبهم في الكثير من الحالات هو بحاجة أيضاً إلى أدب، لأنه يتعالى على المجتمع وينظر له نظرة دونية، فبدلاً من تحسس آلامه ومعانات أفراده نجده يتجه نحو تجاهلها والاستعلاء عليها والاستخفاف بها.

ولهذا نرى بعضهم يتطرق لمواضيع بعيدة كل البعد عن هموم الواقع ومعاناته، فبدلاً من أن يكون ملامساً لهموم الناس ومحاكياً لمشاكل المجتمع نراه مقتصراً على التغني بالأطلال دون أن يتعرض لآلام الواقع ومراراته، فهو يريد أن يعيش فقط في الخيال وللخيال دون أن يكون له دور فعلي في إبراز المشاكل الذي يعاني منها المجتمع، ومن المفترض أن يكون للأدباء دور بارز وفعال في إبراز هذه المشاكل ليتصدى المتصدون فيما بعد لمعالجتها.

ومن صور هذا الاستعلاء والابتعاد عن الواقع ما نشاهده من بعض المحسوبين على الأدب، إذ أنهم كثيراً ما يتحدثون مع الناس بكلام لا يفهمونه، وللأسف بأن بعض الناس يقيم قيمة كلامهم ويرى أهميته إذا كان غامضاً وعصي على الفهم، فالبعض هكذا يقول: أن الأديب أو الشاعر أو... الفلاني ألقى قصيدة جبارة أو محاضرة قيمة أو... ولو سألته عن ماذا تحدث؟ وماذا فهمت منه؟ وما الذي استفدت؟ لرأيته يتلكأ عن الإجابة، لأنه لم يفهم كلامه جيداً حتى يستطيع أن يجيب!

لذا نجد بعض دعاة الثقافة يستغل هذا الجانب، ويتعمد الإكثار من استخدام المصطلحات التي تجهلها العامة، فهو يخاطب الناس ببعض هذه المصطلحات وإن كان يتكلم مع أناس محدودي الثقافة، وذلك لكي يبين لهم مدى علمه الغزير وثقافته الواسعة!!

فبدلاً من أن يقول ما وراء الطبيعة أو الجوانب الغيبية نراه يستخدم مصطلح الميتافيزيقيا، وربما يتكلم عن الطبقة البرجوازية وأثر البيروقراطية على الأعمال وغيرها من المصطلحات التي يستخدمها البعض وهو يتكلم مع أناس جاهلون بها دون أن يشرح لهم معانيها، لأن هدفه من هذا الاستعراض هو إثبات تميزه الشخصي عليهم، أو أنه يلجئ لاستخدام بعض المصطلحات العلمية أو بعض المفردات العربية غير المتداولة والمألوفة لدى الناس للغرض ذاته!

أتذكر أنني كنت حاضراً في إحدى الاحتفالات الدينية واستمع لقصيدة لشاعر مشهور جداً، وكان هذا الشاعر قد أكثر من استخدام المفردات المجهولة من قبل أكثر المستمعين، وبعد انتهاءه منها، تكلم أحد زملاءه الشعراء مخاطباً الحاضرين قائلاً: أنا أعلم بأن الكثير لم يفهم كلمات القصيدة، ولكن أقول لكم: كثيراً ما طُولب الشعراء بالنزول لمستوى المجتمع، وأنا هذه المرة أطالب المجتمع بالرقي لمستوى الشاعر!!

لقد قالها بلهجة استعلائية واضحة دون خجل، ناسياً المقولة التي تقول: «خاطب الناس على قدر عقولهم»، وناسياً كذلك بأن هذا الحفل هو حفل شعبي في إحدى القرى وليس في جامعة أو نادي أدبي أو ما شابه، ولهذا نقول: بأن هذا الشعور الذي يجعل صاحبه يتعالى على المجتمع ويتناسى همومه وآلامه حتى وإن كان من الأدب أو بسبب الأدب فإنه محتاج إلى الأدب!!

ولقد أشار الدكتور علي الوردي في كتابه أسطورة الأدب الرفيع لهذا المعنى، حيث قال: «ومن المؤسف أن نجد بعض أدبائنا لا يزالون يعيشون بعقولهم في عصر الوراقين والنساخين. إنهم يريدون من الأدب الرفيع أن يكون أرفع من مستوى الجمهور. فإذا امتنع الجمهور عن شرائه أخذوا يشتمونه ويصفونه بالغباء، بينما هم أقمن بهذا الوصف منه» [1] .

مهما يكن، فإن من الموارد التي تثير فينا الاستغراب من بعض الأدباء أو الشعراء ما يحدث عندما يتوفى أحد الشخصيات البارزة «سواءً من علماء الدين أو من غيرهم»، حيث يسارع بعضهم في رثاءه وبيان فضله، وبيان مدى الحزن والألم الذي ألم به بسبب ارتحال هذا الإنسان العظيم عن هذه الدنيا، ولا يكتفي بأثر ذلك على نفسه فقط، وإنما يصور أن الكون قد تأثر لفقده أيضاً، إذ تغيرت بعض ملامح الحياة، فالشمس قد كسفت لفقده والقمر قد خسف، وأن توازن العالم لم يعد على طبيعته المعهودة، ومع ذلك تفاجئ عندما تعلم بأن الكثير من هؤلاء الشعراء لم يكونوا على صلة بالمتوفى، فلم يجالسوه ولم يحتكوا به، وربما لم يعرفوه قبل إعلان وفاته!!

أما من ناحية الألفاظ والأفكار التي يأتي بها الشعراء فحدث ولا حرج، فالشعراء في الكثير من الحالات لا يحاسبون على أقوالهم، تحت ذريعة أنه «يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره»، مما يعطيه ميزة على غيره، فأنت وأنا وأي شخص في الوجود ما إن نتفوه بكلمة هنا أو هناك إلا ويحاسب عليها وبالخصوص إذا كانت مرتبطة بالدين والاعتقاد، أما الشعراء ففي الكثير من الحالات فلا، لأنهم مستثنون من ذلك كله!

ومما يدلل على ذلك ما شهدته بنفسي في إحدى الندوات الشعرية، فقد ألقى أحد الشعراء قصيدة يرثي فيها السيدة فاطمة الزهراء ومن ضمن القصيدة حوار حزين بين أمير المؤمنين الإمام علي وسيفه ذو الفقار، إذ كان الشاعر يلوم الإمام علي ويوبخه بكل شدة على عدم قيامه ودفاعه عن السيد فاطمة الزهراء ومع ذلك لم يستنكر أحداً من الحاضرين على ذلك، مع أن هناك تواجد من قبل بعض رجال الدين، فهل يا ترى يعد هذا عملاً مقبولاً؟!!

أنا أعلم بأن هناك من سيقول بأن هذا خيال شاعر وليست عقيدة أو دين، وأن أحد أركان الشعر هو الخيال، وقد يقول آخر مبرراً أيضاً بأن الشعر أعذبه أكذبه، ويجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره وغيرها من العبارات التي تردد دائماً.

ولهؤلاء أقول: صحيح أن الخيال أحد أركان الشعر، ولكن استنكارنا ليس على الخيال في حد ذاته، وإنما على الألفاظ والطريقة «نوعه وكيفيته»، فللشاعر الحق في أن يمارس الخيال، ولكن في حدود معينة لا يصح له تجاوزها، حاله حال غيره من عامة الناس، فليس مبرراً أن يتم التطاول على مقام أمير المؤمنين تحت ذريعة الخيال الشعري!!

ختاماً أقول: لا أريد أن أركز رمحاً في خاصرة الأدب، وإنما أريد أن أكشف عن وجود جرحاً نازفاً فيه، وذلك لكي يتم تضميده واتخاذ ما يلزم في حقه، فاللغة وإن كنا حريصين عليها ينبغي أن نتعامل معها كوسيلة وليست كغايةً في حد ذاتها، فمع حرصنا على الخيال والصياغات الإبداعية والجمالية، ينبغي أيضاً أن نهتم بالمعنى والمضمون الذي تؤدي إليه هذه الألفاظ والصياغات.

------------------------------------

[1] راجع كتاب أسطورة الأدب الرفيع للدكتور علي الوردي ص 261 الطبعة الأولى لشركة دار الوراق للنشر المحدودة 2009، كما أود التنويه بأن استشهادي بهذا الكتاب لا يعني بأنني أتفق مع جميع ما جاء فيه من آراء.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !