أدبيات الإنفصال
... أوراق مبعثرة
(حـلقــة1)
كلمة حق لم يراد بها باطل صرح بها "سيلفاكير ميار دينق" رئيس حكومة الجنوب و نائب رئيس الجمهورية . وذلك حين أوصى إخوانه الجنوبيين بالتصويت للإنفصال وإلا فإنهم سيظلون مواطنون من الدرجة الثانية في سودان المليون ميل مربع الحالي ..... وفي حقيقة الأمر لم يكن سيلفا كير يكذب أو يحرض أو يدعي بما ليس واقع .. بل هي الحقيقة الناصعة البياض التي يجب أن يعترف يها العربي خاصة والشمالي عامة ؛ قبل أن يعيها الجنوبي ويدرك تماشيا مع ذلك أن لها أسبابا وجذورا عميقة جوهرية كثيرة لا يمكن القفز فوقها أو معالجتها عبر نضال الإنترنت والمنابر الخطابية أو بقرارات حكومية وإتفاقيات سياسية على نسج نيفاشا ..
وأن على الجنوبي إذا صوت للإنفصال أو الوحدة على حد سواء؛ فإنه عليه أن يدرك أنه يصوت إلى جانب ذلك على إبتلاع هذه الحقيقة التي سيستمر إحساسه بعلقمها.
وأما الأسباب فهي كثيرة تتلخص أهمها على النحو الآتي:
1) سياسة الاستعمار البريطاني "الناجحة" في إغلاق الجنوب وضرب ستار حديدي غير مرئي بينه وبين الشمال لا لشيء سوى لمصلحة الصليبية العالمية التي رأت أن أبناء الجنوب يجب أن يكونوا مرتعا خصبا للتبشير المسيحي وحده .... ثم أنهم فوق ذلك لم يكتفوا بتنصير الجنوبي فحسب بل ضغطوا في إتجاه وضعه عن عمد تحت وابل من غسيل المخ اليومي لغرس كراهية الشمالي والعربي في نفسه وذلك على إعتبار أن الشمالي والعربي بطبيعة السياق قد إسترق وإستعبد أجداده.
2) كان لسياسة إغلاق الجنوب أن أثرت كثيرا على مسيرة التنمية فيه بكل جوانبها الإقتصادية والتنويرية والثقافية وبحيث إقتصر التعليم على يد المستعمر البريطاني في عددية قليلة جدا منتخبة معظمها من أبناء زعماء القبائل والكجور ، ووفق سياسة الانتخاب الطبيعي بحيث لا يتاح مجال في التعليم داخل الكنائس سوى لمن لديه الرغبة والإستعداد العقلي والنفسي .
3) كان لسياسة الإغلاق والستار الحديدي التي كرستها سلطات الإحتلال البريطاني للسودان أن منعت أي نوع من التواصل الفكري والاجتماعي بينه وبين الشمال فاحتفظ الجنوبي بعاداته وتقاليده وثقافته الوضعية الوثنية دون أن يتمكن من تشذيبها ووضع الخرافات الملازمة لها عن كاهله ..... وبالتالي فإنه حين نال السودان إستقلاله فوجيء الشمالي والجنوبي على حد سواء بأنهما على طرفي نقيض في كل ما يتعلق بالمفهوم العام للحياة وبكل جوانبها . وكان للتمرد الجنوبي الذي إنطلقت شرارته بسرعة أثره الرئيسي في توسيع الشرخ بين الشمال والجنوب.
4) كان ولا يزال للتفاوت الدراماتيكي في الشكل واللون والديانة والعادات والتقاليد الدور الرئيسي في عدم اختلاط الدماء عن طريق التزاوج بين الجنوبي والشمالي اللهم سوى زيجات غير جادة لبعض التجار والجنود الشماليين الذين أقاموا فترة من حياتهم هناك ثم سرعان ما عاوا لممارسة حياتهم الإجتماعية الطبيعية وسط أهلهم في الشمال بعد إنتفاء سبب تواجدهم في الجنوب .... وفي الوقت الذي قد يلحظ وجود زيجات نادرة بين جنوبيين مسلمين وفتيات "شماليات غير عربيات" ؛ إلا أنه لا توجد زيجات لجنوبيين من فتيات عائلات تنتمي عرقيا وعلى نحو موثق معترف به كابراً عن كابر إلى "قبائل عربية" معروفة كالجعليين والشايقية وهلم جرا ،وذلك لعدة أسباب ليس أقلها النظرة الدونية الاجتماعية التي ينظر بها العربي سليل قحطان وعدنان في الشمال نحو الجنوبي الزنجي عند محك مزج الدماء والإعتراف يه حسيب نسيب أو بأهله أعماما وعمات لأولاد البنات داخل الأسرة والعائلة والقبيلة ..... بالإضافة إلى أنه لا يعقل أن تتزوج مسلمة من عابد للقمر أو الكجور والنار والأرواح الشريرة أو حتى مسيحي .... بل وحيث لا ترضى حتى السودانية الشمالية المسيحية المنحدرة من أصول غير سودانية مصرية كانت أو شامية أو إغريقية بالزواج من رصيفها المسيحي الجنوبي تحل له أعرافه وتقاليده الجمع بين 24 زوجة في حبل واحد وبغض النظر عمتا إذا كان وثنيا أو مجوسيا أو مسلما أو بطريارك ....... وبالطبع فقد أدى كل ذلك إلى نشأة وتراكم أحقاد في نفسيات الجنوبي ضد العربي على وجه خاص لا يمكن ولا يجوز التقليل من خطورتها وجديتها وشأنها ... ثم للأسف الشديد لا يمكن الوعد بإمكانية إيجاد حلول واقعية لها .... لاسيما وأن كل من يحاول أن يتصدى نظريا لهذه الحالة الاجتماعية من أبناء العرب (ولا نقول الشمال) فإن الرد سيأتيه سريعا بأن يبدأ بنفسه إذن ويعالج المسألة عبر تزويج بناته وشقيقاته من جنوبيين على شاكلة سيلفا كير وبافان أموم و جون وجيمس وبيتر..... أو عبد الله دينق.
5) عدم مشاركة الجنوبي للشمالي كمجموعات وقبائل في النضال الوطني خلال تاريخ السودان القديم والحديث والمعاصر معا منذ نشأة ممالك نبتة مرورا بمروي وسوبا والسلطنة الزرقاء والثورة المهدية ومؤتمر الخريجين .... أو مشاركته على نحو جوهري فعال في إستقلال 1956م .... كل هذا النضال عبر سنوات طويلة كان فيها الجنوبي حبيس الغابة والسحر وطلاسم الكجور أدى إلى عدم وجود روابط تاريخية يمكن التعويل عليها مثلما هو الحال بين مختلف القبائل الشمالية ولاسيما تلك التي تمازجت دماؤها خلال فترة السلطنة الزرقاء والمسبعات والثورة المهدية ....... ومن ثم فلا يعقل أن نأتي عام 1956م بثلاثة أو أربعة كومبارس ذوي ياقات بيضاء من أبناء الجنوب نضعهم في الواجهة جوار عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والأزهري والمحجوب لمجرد إستيفاء فورمات إعلان الإستقلال ؛ وتصديق إدعاءات "سياسية" تزعم أنه بالإمكان مزج الجنوب مع الشمال في نسيج نضالي وطني أو إعتراف إجتماعي داخل إطار وطن واحد ؛ في الوقت الذي لا توجد فيه أية عوامل أو جذور عميقة أو سطحية مشتركة بين الجانبين .... وهو الشيء الذي جعل دمج أرض وشعب الجنوب مع الشمال بعد الإستقلال كمن يحاول جاهدا لصق كيانين مختلفين بصمغ هشاب عربي رديء الصناعة.
(يتبع حلقات أخرى إنشاء الله)
التعليقات (0)