أدبيات الإنفصال .. أوراق مبعثرة
حلقة (8)
لماذا يَحـْـفـَى الجنوبي للإحتفاظ بمواطنة الشمال؟
كان أنصار الإنفصال في الشمال يظنون في البداية أن الجنوبي من خلال تردده جيئة وذهابا واللف والدوران حول خيار الإنفصال عن الشمال إنما يتصرف ويفكر على طريقة "من ترغب في النكاح وتخشى الحَـبَـلْ".
سيلفاكير ميار ... رئيس حكومة الجنوب .... يرغب في فصل الجنوب عن الشمال والإحتفاظ للجنوبي بحقوق المواطنة الشمالية في آن واحد .... أو بمعنى أن يطال بلح الشام وعنب اليمن .. ويا بلاش
كل الأقاليم والأقليات التي تختار حق تقرير المصير لا تثير مسألة حق المواطنة في علاقتها مع الدولة الأم التي إنفصلت عنها بمحض إرادتها ..... هكذا راينا الحال في كافة القارات اليابسة والجليدية .. وهكذا يفترض العقل والمنطق.
ولكن ما أن بدأت مفاوضات حكومة الخرطوم مع حكومة جوبا بشأن ترتيبات ما بعد الإنفصال سواء تلك الفاشلة التي جرت في القاهرة أو تلك التي يعد لها في أديس أبابا .... ما أن بدأت هذه الفعاليات حتى بدأت "جـقـلبة" الجنوبي تخرج إلى العلن دون خجل ودون مواربة بل وفي تناقض غريب مثير للقلق والشك .....
لماذا يتمسك الجنوبي بالإحتفاظ بحق المواطنة في الشمال رغم أنه يملأ الدنيا صراخا وعويلا ودموعاً على لسان جميع قادته وعلى رأسهم "سيلفاكير ميار ديت" بأن الجنوبي يعامل معاملة المواطن من الدرجة الثانية في الشمال ؟
إذا كان زعماء الجنوب يرددون هذه الإكليشيهات صباح مساء مرورا بالظهيرة ؛ فلماذا يترجون ويقبلون الأيادي ويلحسون الأحذية الآن ، ويوسوسون لحكماء أفريقيا وأجاويدها وللرئيس أوباما . ويردحون في القاهرة وأديس أبابا والخارجية الأمريكية ومفوضية الإتحاد الأوروبي في سبيل الحفاظ على حق المواطنة للجنوبي في الشمال؟
ذكور جنوبيون يمارسون الرقص لإستمالة إناثهم وإثارة إعجابهن
لماذا يتباكى الجنوبي وتحفى قدميه من أجل أن يبقى مواطنا شماليا في الوقت الذي ينفصل فيه شعبا وأرضا عن الشمال؟
هل المسألة لعب عيال أم سذاجات أدغال؟
أي تناقض هذا وأي قــرف سياسي ؟
هل تمارس الحركة الشعبية لتحرير (جنوب) السودان هذا العهر السياسي ضمن مهام مرتبطة بتخطيط تخريبي واسع النطاق تم الإعداد له بعناية في داخل دهاليز وكالة الإستخبارات الأمريكية (CIA) . ومناط بها تنفيذه في أرض الشمال بالإضافة إلى أحلام ذاتية ترغب الحركة الشعبية في تحقيقها داخل أرض الشمال لجني مكاسب عدة أم ماذا ؟
آخر ما تم رميه من بياض في طرف حكومة الخرطوم بعد عزلها المحكم عن العالم هو وعد الرئيس الأمريكي أوباما لها بأن يضمن للشمال قسمة البترول وتسوية مريحة لأبيي مع دولة الجنوب الوليدة مقابل أن يقبل الشمال بمنح الجنوبي حق المواطنة ..... ويا بلاش .....
ومنذ متى تفي الولايات المتحدة بوعودها وتعهداتها تجاه الدول العربية والإسلامية بل ودول العالم الثالث كافة؟
وهل السودان بأفضل من فلسطين والصومال والعراق ولبنان والشيشان وباكستان وأفغانستان؟
ربما لو صمدت الخرطوم أكثر في وجه هذه الإغراءات لتنازل أوباما وهيلاري كيلنتون ومنحاها المزيد من المغريات والوعود المجانية الجوفاء على قناعة أمريكية ثابتة مجربة وسابقة مع شعوب أخرى في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا الشرقية بأنه لن يتحقق منها شيء في النهاية........ سيظل أوباما يسوف ويناور ويؤجل على الطريقة الأمريكية حتى تنتهي فترة حكمه أو ربما قبيل ذلك حين يتحول إلى بــطــة عــرجـــاء ........
ثم يقفز الحزب الجمهوري للسلطة من جديد ، وتلحس أمريكا في عهدهم كل وعود الحزب الديمقراطي السابقة وفق سياسة "التدمير الخلاق" ، ونظريات نمطية حفظناها عن ظهر قـلب وخبرناها جميعا من قبيل "رسم خريطة طريق" و "إعادة ترتيب الأوضاع" .. و "ضرورة تحسين الخرطوم لسجلها في مجال حقوق الإنسان" ..... و "تبني النهج الديمقراطي والعلمانية" .... وحتما "تسليم الرئيس عمر البشير نفسه طواعية لمحكمة الجنايات الدولية " .. وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من شروط تعجيزية تضعها الإدارة الأمريكية عادة حين ترغب في التنصل بشــرف من وعودها لشعوب العالم الثالث...... وكل من لا يعجبه فليشرب من المحيط الأطلسي .. وماذا عساه أن يفعل في مواجهة الولايات المتحدة؟
يريد منا أوباما إذن ؛ أو الأمريكان في الحقيقة أن نقنع بوعود الأبالسة المؤقتة الزائلة في مقابل حصول الجنوبيين الأجانب بعد الإنفصال على مقعد دائم في التركيبة السكانية للشمال تمنحهم حق الفيتو ضد كل خطط وبرامج التطوير الإجتماعي والسياسي والثقافي المرتقبة .....
ولكـــن لمــاذا كـــل هــــذا ؟
يمكن تلخيص أهم الأسباب الخفية على النحو الآتي:
1) تلغيم الشمال بقنابل عقائدية وعرقية شتى معقدة موقوتة يتم تفجيرها واحدة تلو الأخرى بحيث تضمن لتحالف الصهيونية والصليبية العالمية والمحافظين الجدد الحق في التدخل الدائم في شئون الشمال الداخلية ، على واقع من الحدس بأن شعب الشمال العربي المسلم بعد إنفصال شعب الجنوب عنه سيسوده الإنسجام والتناغم الثقافي والتلاحم العرقي . وبما يعني الإستقرار وتماسك النسيج الإجتماعي ونهضة غير مسبوقة لهذا الشعب بعد أن يتخلص من "ورم المخ" الذي ظل قابعا داخل رأسه منذ عام 1955م وكان يعوق وحدته وإحساسه الوطني ، ويشل تفكيره وتحركاته وإنطلاقاته نحو آفاق المستقبل الزاهر في كافة المجالات التي تنشدها الشعوب.
2) تضمن الحركة الشعبية من خلال وجود الجنوبي بصفته مواطن في الشمال .. تضمن لنفسها تبعية وطابورا خامسا وخلايا تمرد نائمة في داخل الشمال تستطيع إثارتها ومساومة حكومة الخرطوم بها والضغط عليها مستقبلا عند نشوب أي خلافات ... لاسيما وأن نشوب الخلافات السياسية والدموية بين الشمال والجنوب بعد الإنفصال أو بين الجنوبيين أنفسهم داخل الجنوب ستظل أمرا لابد منه وحتى يستقر الجنوب إن أراد الله له إستقرارا في المستقبل المنظور. .... وحيث لا يفوتنا التنويه بأن الحركة الشعبية تتوجس خيفة وتشك في نوايا الخرطوم بإثارة النعرات القبلية والدينية في الجنوب بعد إنفصاله.
3) تدرك الحركة الشعبية التي تريد الإنفراد بحكم شعب الجنوب المتخلف .. تدرك أن الحنوبيين المقيمين حاليا في الشمال قد حصلوا على كثير من التنوير التعليمي والثقافي والإجتماعي والسياسي والديني خلال تواجدهم وسط مجتمع الشمال المتطور مقارنة بمجتمع الجنوب الشديد التخلف ..... ومن ثم فإن الحركة الشعبية تتخوف من عودة هؤلاء إلى الجنوب . وما يؤدي إليه ذلك من تنوير متعدد التوجهات وأفكار مستحدثة وقناعات مركبة . وعلى نحو يحول دون إستفراد قادة وكوادر الحركة الشعبية لأنفسهم بالحكم والثروة لعقود قادمة دون منافس أو رقيب ومسائل ....
.............................
مطلب الحركة الشعبية بأن يحتفظ الجنوبي المقيم في الشمال بحق المواطنة وإزدواجية الجنسية أمر غريب لا يمكن لعاقل أو مجنون في الشمال أن يقبل به جملة وتفصيلا ........... فهل بعد أن رضي شعب الشمال بتحمل كل التضحيات الجسام في سبيل الخلاص من مشاركته للجنوبي المتمرد الإنفصالي المزعج في وطن واحد ..... هل يعقل أن يرضى بالعودة مرة أخرى إلى مربع التمرد رقم واحد وصفر اليدين كذلك ؟
إذا كان الجنوبي منذ عام 1955م وحتى تاريخه (مدة 55 سنة) قد ظل عاكفا داخل الجنوب " بعيدا عن الشمال" على التمرد والكراهية والحقد تجاه الشمالي ؛ فإن منح الجنوبي حق المواطنة في الشمال وإزدواجية الجنسية بعد الإنفصال ؛ يعني بكل بساطة نقل التمرد الجنوبي من داخل حدود أرض الجنوب إلى داخل وعمق أرض الشمال برضا الشمالي وأريحيته ومحض إرادته ..... ويعني كذلك إستمرار إستمتاع الجنوبي بخيرات الشمال دون مقابل أو إضافة حضارية من جانبه ...... وحق علينا عند ذلك أن يصفنا الناس في الخارج بأننا وبلا منازع "بـلـهــاء القــارة السـوداء".
التعليقات (0)