أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة
حلقة (7)
هـل يُـكَـاكِـيءُ الجنوبي في الخرطوم ويَـبـِيـض في جـوبا ؟
رشحت الأنباء مؤخرا عن عقد إجتماعات ماراثونية حثيثة بين وفدين من حزب المؤتمر الوطني (الحاكم في الشمال) والحركة الشعبية (الحاكمة في الجنوب) تجري في مقر الاستخبارات المصرية بالقاهرة لبحث ترتيبات ما بعد إنفصال الجنوب عن الشمال .....
وبغض النظر عن المحاذير التي يسوقها العديد من المراقبين الشماليين حول هذه المفاوضات كون أن راعيتها مصر وجهازها الإستخباراتي يجعل الشكوك تحوم حول ما إذا كانت هناك طبخة مصرية جديدة كي يشرب السودان مقلب جديد شبيه بغيره من المقالب التي عهدها السودان (دون أن يعلن التوبة النصوحة) من الحكومات المصرية منذ عام 1821م ولا يزال ... وحيث لا يفتأ ساسة السودان يشربون المقلب تلو المقلب بسبب طيبة القلب تارة واللهث خلف اللذات والمصالح الشخصية تارة ؛ أو عدم الخبرة تارة أخرى نتيجة الإكتفاء بإرسال أشخاص تعوزهم الكفاءة والتخصص المطلوب في طبيعة ما هم مقدمين عليه من مفاوضات .. ولعل طبيعة الوفد الهزلي الذي قامت حكومة إبراهيم عبود بإرساله لمفاوضة الحكومة المصرية حول تقسيم حصة البلدين من مياه النيل ونصيب السودان من كهرباء السد العالي وما جرى خلال تلك المفاوضات من مآسي ومضحكات مبكيات .. لعل في ذلك خير معين ورافد لهذه الشكوك التي تحيط بما يجري طبخه في الخفاء هذه المرة فيما يتعلق بتوقعات دفع حكومة الخرطوم وشمال السودان بالتالي فاتورة ضخمة مثقلة بالتبعات والخسائر كرها أو طوعا وعن طيب بلاهة لمصلحة مصر وجنوب السودان المقبل على الإنفصال والذي تدعمه الولايات المتخدة وإسرائيل والفاتيكان على حساب الشمال المسلم.
الرئيس إبراهيم عبود (1958م - 1964م)
ومن جهة مصر فإن المسألة أولا وأخيرا ترتبط بهدفين إستراتيجيين يحكمان علاقتها بشمال السودان منذ 7000 عام قبل الميلاد
1) ضمان حصتها في مياه النيل أو زيادة.
2) الإبقاء على ما تبقى من السودان ضعيفا متخلفا معزولا منهك القوى يرزح تحت وطء خلافاته وحروب عصاباته الداخلية وعلى نحو يبقيه في حاجة إلى مصر وتابع لها تحت عيونها على مر الأزمنة ومدى العصور وحتى لا يكرر التاريخ نفسه ويخرج عليهم بعنخي إن لم يكن ترهاقا جديد.
وأما الهدف التكتيكي الآخر الذي تفرضه معطيات الحقبة فهو قطع الشوط إلى ما لا نهاية في سبيل إرضاء الولايات المتحدة وتحالف المحافظين الجدد وإسرائيل والصليبية العالمية حتى تضمن الحكومة لنفسها مزيد من المعونات الإقتصادية والسلعية المتمثلة في القمح مفتاح إستقرار مصر وتماسك نسيجها الإجتماعي ......................
أما من جهة الحزب الوطني الحاكم في الخرطوم ؛ فلا شك أنهم ووفقا للنظرية السودانية النمطية لا يزالون يظنون أن السودان لا يمكن أن يتنفس إلا من خلال مصر. وأن بإمكان حكومة القاهرة أن تخرج الحكومة السودانية الحالية من عزلتها العالمية وتكسبها ود أو على الأقل سكوت الولايات المتحدة والصليبية والأمم المتحدة بالتبعية. وأن يتغافل الغرب الأوروبي عن موضوع المحكمة الجنائية التي لا ندري من هو المدبر الحقيقي لها وراء الستار..... ولكن وعلى أية حال فإن الدور الذي لعبته القاهرة لإجهاض سلام الدوحة الخاص بإقليم دارفور ينبغي أن تضعه الخرطوم جيدا في الحسبان عند تقييمها لنوايا القاهرة الحقيقية بعيدا عن المجاملات والضحك على الدقون والحركات أو الكلمات المعسولة والترضيات والتنازلات خلال السهرات الحمراء في ليل القاهرة و لحمها الأبيض الذي يسبي القلوب والشهوات المتعطشة وياكل بعقول أعضاء الوفود السياسية السودانية الزائرة منذ الأزل حلاوة.
وحبذا لو كانت الخرطوم أكثر حصافة فإمتنعت من حيث المبدأ إرسال وفدها إلى القاهرة أو أن تجري المفاوضات مع الحركة الشعبية في القاهرة .....
ومن جهة أخرى فلا أدري ماهو المغزى أن يجتمع شريكا حكم السودان في عاصمة دولة أخرى للتفاوض وهما في حالة سلام ووئام وشركاء ؟ هل هي نيفاشا جديدة أم هل يعتقدان أنهما حماس والضفة؟ ..... أمر غريب مثير للشبهات من الأساس.
ثم أن المؤشر على غفلة الخرطوم في الرضا بإرسال وفدها إلى القاعرة هو أن علاقتها بالقاهرة ليست في أفضل حالاتها الآن بسبب مشكلة حلايب ودور القاهرة في إجهاض مباحثات سلام دارفور التي تجري في الدوحة ..... وليت حكومة الخرطوم إن كانت لا محالة فاعلة بخوض مفاوضات مع الحركة الشعبية لترتيب أوضاع ما بعد الإنفصال ... ليتها أصرت على عقدها في عاصمة عربية أخرى كالدوحة أو الجزائر مثلا .....
....................
الجنوب بدوره بات يبدي شطارة منقطعة النظير في ظل الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت القاهرة السباقة بالمسارعة منذ أمد إلى إحتضان زعيمها جون قرنق وفتح المكاتب والمقرات السياسية لها في العديد من المدن على حساب الميزانية المصرية ولا تزال .....
ومن ضمن ما تفتقت عنه الذهنية والعقلية الذكية للحركة الشعبية هو طرحها أغرب ما عرف الوجود منذ أن هبط آدم عليه السلام إلى الأرض. ويتلخص هذا الطرح الذكي الخبيث الذي باتت تسانده القاهرة في أن يمنح الجنوبيين المقيمين حاليا في الشمال الجنسية المزدوجة فيصبح الجنوبي وفق ذلك في الجنوب جنوبي وفي الشمال جنوبي أو بما يتيح له ولباقان أموم وغيرهم من شلة المشاكسين منذ عام 2005م أن يكاكئوا في الخرطوم ويبيضوا في جوبا ...... ويا بلاش .... وربما لو وافق وفد المؤتمر الوطني على هذا المقترح الذكي الخبيث الذي يخفي من ورائه للشمال الهوائل . ربما لن يدانيه من الهبل والعبط وقلة الخبرة وسوء التقدير سوى قصة ذلك الصعيدي الذي إشترى الترماي في ميدان العتبة بالقاهرة.
إن على حكومة الحزب الوطني أن تكون حديدة الذاكرة فتسترجع الآتي:
1) أن الجنوبي المقيم في الشمال قد منح صوته للحركة الشعبية خلال إنتخابات رئاسة الجمهورية ولم يمنحه للحزب الوطني.
2) أن وجود جنوبي مزدوج الجنسية في الشمال بعد الإنفصال سيعني بكل بساطة تواجد حيوي للحركة الشعبية مهدد للأمن الوطني الشمالي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
3) أن الحركة الشعبية لا يمكن الوثوق أبدا من نواياها المبيتة تجاه الشمال فنظرية باقان أموم وزمرته المشابهة لنظرية الأمن المصري تنبني بكل شفافية على ضرورة إغراق الشمال في أتون حروب أهلية داخلية وقلاقل تحد من قدراته مستقبلا . وتحول دون تدخله في شئون الجنوب أو تفرغه لصد أطماع الحركة الشعبية في ضم جبال النوبة والنيل الأزرق وأبيي إلى ممتلكاتها دون جهد يذكر. وبمثل ما فعلت الحكومة المصرية في حلايب مستغلة عزلة السودان بعد موقفها الغير موفق أو المحسوب من الغزو العراقي للكويت.
4) إن من أكبر الأدلة على مراوغات الحركة الشعبية وسوء نواياها المبيتة ؛ أنها وقبل الإنتخابات العامة والرئاسية الأخيرة كانت تؤكد أن عدد الجنوبيين في الشمال لا يتجاوز نصف مليون .. فما بالها الآن تعترف ضمنا بأن عددهم لا يقل عن 2.5 مليون نسمة؟
5) أن الشمال ليس في حاجة إلى هؤلاء الجنوبيين جملة وتفصيلا.
6) أن عدد الشماليين في الجنوب قلة لا تتعدى المئات ، ومعظمهم تجار شنطة (جلابة) . وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى جنسية جنوبية ؛ لاسيما وأنه يتوقع أن تطالهم المذابح وتطال ممتلكاتهم علميات النهب والسلب والحرائق عقب إعلان إنفصال الجنوب عن الشمال مباشرة مثل ما جرى لأمثالهم من تجار عبر تاريخ التمرد العسكري الذي نشب في الجنوب منذ عام 1955م
.............................
لا يعرف على وجه التحديد ماذا يخبئ القدر للشمال من قلاقل مستقبلية وأنهار دماء وتوترات عنصرية لو تم تمرير مطلب الحركة الشعبية بضغوط من مصر والولايات المتحدة يمنح وفقها الجنوبي حق التمتع بإزدواج الجنسية في الشمال والجنوب على حد سواء . وحيث لا ينتظر أحد حصيف أو أهبل عاقل كان أو مجنون أن لا يحتفظ الجنوبي بولائه لبلده وبني جلدته في الجنوب لاسيما وأنه سيظل يحمل الجنسية الجنوبية إلى جانب الشمالية .... وحيث من الطبيعي أن تفلح الحركة الشعبية في تنظيم صفوفها داخل هذه الكتلة الضخمة من السكان الموالين لها وتجعل منهم طابور خامس ورأس حربة حقيقية قاب قوسين أو أدنى من قلب الشمال النائم.
ومن نافلة القول أنه من خلال تواجد الجنوبي المزدوج الجنسية بعد الإنفصال سيكون ذريعة لتدخل حكومة الجنوب في شئون الشمال ولو عبر البكاء والعويل والحملات الإعلامية المنظمة المدروسة التي تديرها لها مكاتب العلاقات العامة العالمية واللبنانية لتحريض منظمات حقوق الإنسان المتحفزة والفاتيكان والإتحاد الأفريقي ضد حكومات الشمال وفبركة الإتهامات الجزافية بإضطهاد العرب والمسلمين للأفارقة الجنوبيين والمسيحيين ... وبدلا من أن تنجو الحكومة السودانية من شباك المحكمة الجنائية وسيفها كما تظن عبر إنصاتها للحكومة المصرية ووعودها البراقة ؛ ستجد هذه الحكومة نفسها غارقة أكثر وأكثر في جنايات أكبر وأكثر بالمثنى والثلاث والرباع .........
غريب أن حكومة المؤتمر الوطني الإسلامية (المؤمنة) تنسى وتتناسى في خضم كل هذا التوهان وتسليمها لحيتها لحكومة القاهرة كي تتلاعب بها .... تنسى أو تتناسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" .... ما بالها تنسى أو تتناسى وقد أصبحت اللدغات أكثر من مئتين.
وصدق المولى عز وجل عند قوله من سورة الأعلى : [فذكـّر إن نفعت الذكرى(9) سيذكر من يخشى (10) ويتجنبها الأشقى (11)] ...
(سبحان الله)
التعليقات (0)