أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة
حلقة (18)
كـفَـانـَا قَــــرَفْ
يبدو أننا أبتلينا حقا بما يمكن تسميته بمحارق الوعود التي أضاع مثلها أرض الأندلس وأرض وشعب فلسطين. وهاهي تطل براسها من جديد في السودان .... فبعد "وعد بلفور" فوجئنا اليوم بإطلاق "وعد مندور" الذي قد يهدد هو الآخر بزعزعة الأمن القومي الشمالي في العمق. وربما بضياع الشمال وعرب الشمال لاحقا.
مندور المهدي
"وعد مندور" الذي تمثل في التصريح الذي أدلى به مؤخرا الدكتور مندور المهدي نائب المؤتمر الوطني خلال اجتماع لأحزاب الوحدة الوطنية . والذي وعد فيه فلول الجنوبيين في الشمال المؤيدين للوحدة بمنحهم جنسية الشمال على أن يعمل هؤلاء على إعادة الوحدة بين الشمال والجنوب لاحقا ...... هذا التصريح يعيد للأذهان نفس المنحى والمذهب والأوهام وأحلام زلوط التي ذهب إليها المصريون تجاه بعض المهمشين والمترددين وباعة الولاءات على الأرصفة من ساسة السودان عشية وعقب التصويت لصالح إستقلال السودان عن مصر الذي إتخذه أعضاء البرلمان السوداني .... وهو مذهب أثبت فشله فيما بعد بالطبع ، ولم يؤدي سوى إلى خسائر تكبدتها الخزانة المصرية على هيئة رواتب وهدايا عينية وعقارية ولحم إنس مما يشتهون ؛ ذهبت جميعها أدراج الرياح في ظل صرامة القانون الدولي والحقوق المترتبة على عضوية الأمم المتحدة ، لاسيما وأن الوحدة أصعب دائما من الإنفصال . بل ولا يوجد شعبين في العالم أعادا الوحدة بينهما بعد الإنفصال.
ومن البديهي لو تم الوفاء بهذا الوعد أن يصبح كل جنوبي مقيم في أرض الشمال مؤيد تلقائيا للوحدة وملكي أكثر من الملك، طالما أن مصلحته الآنية تقتضي ذلك ... ومن غير المعقول أو المنتظر أن يستبدل الجنوبي عن رضا وطيب خاطر أضواء الخرطوم بظلام جوبا وفردوس الشمال بسعير الجنوب ومجاعاته وحروبه وأمراضه.
ثم أن إنفصال الجنوب عن الشمال لم يأتي من فراغ. ولكنه نتيجة حتمية لفشل الشعبين الشمالي والجنوبي الذريع في التمازج والإندماج . وحتى الإعتراف بإنسانية الآخر ناهيك عن القدرة على التعايش السلمي بينهما. وقد أثبتت السنوات التي تلت تطبيق إتفاقية نيفاشا إستحالة نمو شراكة حقيقية بين الشمال والجنوب من القاع وحتى القمة.
الآن يجب وضع النقاط فوق الحروف والتنويه بأن الجنوبي السياسي الذي غاب عن ساحات التمرد منذ عام 1955م وجاء إلى الخرطوم تائبا في المظهر مذعورا في الجوهر من ملاحقات فرق الإغتيال التابعة للأنيانيا ثم جون قرنق. وركن إلى التنبلة والحياة الرغدة السعيدة الوادعة الناعمة وسط زجاجات الويسكي النقي وأرطال البيرة الكحولية في الفندق الكبير وفندق الإكسلسيور وصالة جيمس بالخرطوم على حساب دافع الضرائب الشمالي الضائع وسط ألاعيب الساسة الشماليين.... هذا الجنوبي الذي يتحدث عنه د.مندور لم يكن في يوم من الأيام من دعاة الوحدة إن لم يكن من دعاة الإنفصال . ولكنه بائع ولاءات متجول إستغلالي مادي وصولي يلعب على الحبلين وكل الحبال . ويستغل حالات التمرد المزمنة لبقية أهله من العسكريين في الجنوب ليتاجر بها وسط أمانات أحزاب الشمال وأزقة القصر الجمهوري وشوارعه الخلفية ، وسفارات السودان في عواصم الغرب.
ثم أن هذا النوع من الساسة والتكنوقراط الجنوبي هو كرت خاسر في الجنوب وكرت خاسر في الشمال. ولكن إستخدمته حكومات الشمال منذ فجر الإستقلال لتجميل وجهها بإشراكهم كوزراء في ما كان يسمى بوزارات الجنوبيين التقليدية المهمشة مثل الثروة الحيوانية والصناعة .... وهلم جرا .
وإذا كان دعاة الإنفصال من الجنوبيين تجار تمرد. فإن دعاة الوحدة منهم ليسوا سوى تنابلة مرتزقة وباعة ولاءات لمن يدفع أكثر (من شنغهاي إلى شنغهاي) أو على نحو منتظم دون إنقطاع.
والرضيع قبل الحابي من أطفال السودان قبل الصبيان والشباب والكبار لا يخفى عليهم أن السياسي والعسكري وزعيم القبيلة والكجور الجنوبي منذ الأزل يبيع ولاءاته في الجنوب وفي الشمال بالمال. وأنه تابع لمن يدفع ومتمرد على من لا يدفع.
وأود أن اذكر د. مندور بقوله تعالى من الآية رقم (4) في سورة الأحزاب : "مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍۢ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ" ....
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" فهل نسي د.مندور إسلامه ومثله الأعلى هنا أم ماذا؟ ... أم هي هكذا السياسة والمصالح السياسية التي تتقلب بين أصبعين من أصابع الإنسان؟
.... بل وأسأله هنا سؤال بديهي بسيط أرجو منه الإجابة عليه ولو بينه وبين نفسه مفاده أنه إذا كان هناك جنوبي مؤيد للوحدة اليوم ؛ فمن يضمن لنا أن يخرج من صلب هذا الجنوبي أو من رحم تلك الجنوبية غدا من يؤمن بالوحدة والسودان الواحد والتعايش السلمي مع الشمالي داخل العمق الشمالي هذه المرة وليس الجنوب البعيد كما كان في السابق؟ ..... وهنا تكمن الخطورة في "وعد مندور" الذي يمس الأمن القومي الشمالي بشكل مباشر.
.............
من الذي يضمن لنا أن لا يحمل هذا الجنوبي أو أبنائه وبناته وأحفاده جواز سفره الشمالي غدا ليشنع بنا وبتطبيق الشريعة الإسلامية في المحافل الدولية؛ بعد أن يبيع نفسه لأوكامبو وأمثال أوكامبو ومن هم وراء أوكامبو . وتتلقفه منظمات حقوق الإنسان والمخابرات الأمريكية والإسرائيلية وحتى إستخبارات الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب والمحافظين الجدد والصليبية العالمية. ويدعي مثلما كان يفعل جون قرنق لتسويق تمرده بأنه يتعرض للإضطهاد الديني في الشمال ويحرم من الصلاة في الكنيسة ، ويعاني أهله من الإستعباد وبطش تجار الرقيق العرب ..... أو يدعي تعرض الجنوبي في الشمال للإبادة الجماعية؟
............
وبالطبع فلسنا هنا بمجال تكذيب العالم له أو تصديقه لحججنا وبراءتنا عبر إعلامنا الهزيل وبعثاتنا الدبلوماسية المغلوب على أمرها في الخارج .... بل ونرى الرئيس عمر البشير نفسه أدرى من غيره بمثل ما يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه المزاعم الكاذبة والتي تم على أساسها توجيه إتهامات له ومطالبته بالمثول أمام المحكمة الجنائية ..... فهل نسي د. مندور هذا أيضا وهو يبذل لملايين الجنوبيين المقيمين في الشمال وعـــده؟
................
يقول المثل الشعبي "أقطع العِرق وسيّح دمه" .... فهل يريد د.مندور أن يترك في جسد الشمال بقايا سرطان جنوبي وتـنابـلة كسـالى مدمني خمر وسهر ورقص يعتاشون كعادتهم على حساب دافع الضرائب الشمالي فيتزاوجون ويتناسلون فيما بينهم ويتكاثرون لا محالة غدا فيشكلوا لنا بعد سنوات بؤرة تمرد داخل العمق الشمالي ومجالنا الحيوي؟
ويا بلاش حين يصبح الجنوبي في الشمال جنوبي وفي الجنوب جنوبي ....
إذا كان التمرد الجنوبي قد ظل منذ عام 1955م وحتى الإنفصال عام 2011م يراوح مكانه محصورا داخل حدود أرض الجنوب .. فإن تطبيق " وعد مندور" يعني ببساطة تطوير التمرد وتشعيبه بنقله هذه المرة إلى داخل العمق الشمالي وإشعال أتون حرب أهلية داخل الشمال ووسط أهله غدا . وسيكون هؤلاء أو أبنائهم أو أحفادهم رأس حربة وكتيبة متقدمة لدولة الجنوب وحركتها الشعبية الحاكمة التي تشربت العداء المزمن التقليدي للشمال والشماليين مع الوضع في الإعتبار عدم إمكانية حسم مشكلة أبيي بالتي هي أحسن أبدا أو بما يعني ضرورة تعميد هذه الأرض بدماء الطرفين وحتى يتحقق النصر والغلبة لأحدهما في النهاية.
.............
لقد ظل السياسي الجنوبي طوال عقود يعتاش في ربوع الشمال ويكسب رزقه الحرام من وعاء وقـرعة وجراب أنه جنوبي .... يجد في الشمال (ومن فؤاد ترعاه العناية) الرعاية والأمان والوظيفة المضمونة والمنح والهبات والعطايا والأراضي بل والمنازل المجانية .... فهلا جاء الآن الوقت لإيقاف كل هذا الهدر والهزر مع تباشير يوم 9/1/2011م . وكفانا بذلك قرفا على قرف وقد تعبنا وسئمنا وطمت بطوننا من كل ما يجري. وآن لنا كشعب ولهذا الوطن أن يعيش ساعات يومه الأربعة وعشرين في هدوء وينتج أبناؤه بجد دون إلتفات للوراء. وبعيدا عن إستغلال الجنوبي لنا متأرجحا بين الإنفصال والوحدة . أو إستغلال الغير لنا وتدخله في شئوننا الداخلية والإساءة لنا في المحافل الدولية والرأي العالمي العام بسبب هذا الجنوبي الذي يمثل بالفعل جسما غريبا على الشمال لا يمكن إبتلاعه أو هضمه بأية حال من الأحوال وخير لنا أن يكون جارا من أن يكون شقيقا وشريكا في بيت واحد.
.................
وإذا كان هناك من ساسة الشمال الوحدويين من يرغب في مكافأة الجنوبي الذي يؤيد الوحدة . فلا مانع من منحهم (وعلى أضيق نطاق) مزايا نوعية في جانب إقامات على كفالة وزارة الخارجية كلاجئين يتم تجديدها كل فترة زمنية رهنا بحفاظهم على هذا الولاء للشمال . مع ضرورة الأخذ في الإعتبار عدم تقديم إمتيازات خاصة لهم مثل ما كان عليه الحال في السابق . وعلى نحو جعلتهم هم وأبناءهم يعيثون في الأرض فسادا سواء في مجال الوظيفة العامة والخاصة وأنظمة التعليم الجامعي التي كانت تستثني أبناءهم من ضرورة الحصول على نسب ومجاميع عالية تؤهلهم لدخول الجامعات والمعاهد العليا وكليات حساسة مثل الطب والهندسة على حساب الشمالي سيد البلد ومواطنه الأصلي رغم حصول هذا التلميذ الشمالي بكده وتعبه وعرق جبينه على نسب ومجاميع عالية ، وضمان ولاءه الطبيعي لوطنه على العكس من الجنوبي الذي سيتم تجنيسه وفق "وعـد مندور" المخيب للآمال. .... والذي نتمنى أن يظل مجرد إجتهاد شخصي عاطفي بذل في مكان ولحظات مجاملة حماسية وأن لا يجد طريقه إلى النور..
التعليقات (0)