أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة
حلقة (15)
تاريخ العلاقة بين الشمال والجنوب
[ الجـزء الثانـي ]
ملخص الحلقة (14) :
خلصنا في الحلقة السابقة إلى أن الخديوي إسماعيل أغا باشا وجراء ضغوط أوروبية عليه لمحاربة تجارة الرقيق قد إضطر (عام 1869م) إلى إصدار أوامره بإحتلال أراضي خط الإستواء (جنوب السودان الحالي وجزء من يوغندا) وضمها إلى الأملاك المصرية ..... وأوكل تنفيذ هذه المهمة إلى الرحالة البريطاني السير صموئيل بيكر الذي سبق له أن قام بإكتشاف بحيرة البرت .....
وقد نص فرمان التعيين على تحديد مدة أربع سنوات لإكمال تنفيذ هذه المهمة إعتبارا من تاريخ 1/4/1869م .... فغادر بيكر مصر (بعد الإنعام عليه برتبة فريق ولقب باشا) متوجها للسودان من ميناء السويس المصري بتاريخ 5 /12/1869م.
السير صموئيل بيكر
الشيء المثير للتساؤل هو أن مناطق الإستوائية كانت حينذاك لا تزال مؤجرة إلى تاجر الرقيق المصري الشهير "السيد أحمد العقاد" نظير مبلغ سنوي يدفعه لحكمدارية الخرطوم ..... فهل كانت الخديوية في القاهرة لا تعلم بما يجري في الخرطوم أم أن فرمان إسماعيل باشا بتعيين بيكر لفتح الأقاليم الإستوائية كان لمجرد القفز فوق الحقيقة وذر الرماد فوق عيون الغرب الأوروبي؟
وبالعودة إلى السير صموئيل بيكر في مهمته الموكلة إليه فقد سجل التاريخ أنه أفلح في شق طريق في بحر الزراف ووصل حتى قوندوكرو فرفع عليها العلم المصري . ثم تعمق بيكر بجيوش الخديوية حتى وصل إلى مشارف بحيرة فكتوريا وأعلن ضمها رسميا لممتلكات الخديوية المصرية . لكنه مع مرور الوقت أثبت فشله وقدرته على الإستمرار في إخضاع تلك المناطق من يوغندا الحالية ، فعاد إلى الخرطوم بعد إنتهاء مدة مهمته وكان ذلك بتاريخ 1873م ثم رحل إلى القاهرة وقدم إستقالته فقبلت.
الجنرال غوردون باشا
تعيين غوردون باشا حاكما على بلاد الإستوائية:
بعد قبول إستقالة صموئيل بيكر وبناء على ترشيح بريطانيا لغوردون باشا فقد سارع الخديوي إسماعيل باشا إلى إستدعاء غوردون من لندن وتعيينه حاكما على ما سمي وقتها ببلاد "خط الإستواء" ... وكان غوردون وقتها يحمل رتبة الكولونيل في الجيش الإنجليزي.
إن من أهم ما يستدعي النظر في تعيين غوردون باشا هو صيغة الفرمان الخديوي الذي صدر بتعيينه ... وهو نص طويل يحدد مهام غوردون وميزانية إدارته ..... ولكن الجانب الأهم في ذلك الفرمان هو الإعتراف الضمني فيه بأن الجنوب الحالي يعتبر إقليما منفصلا عن الشمال السوداني . .... وهذه هي الفقرة الخاصة بهذا المعنى في هذا الفرمان الذي أصدره ديوان الخديوي إسماعيل باشا بتاريخ 19/2/1874م برقم 91 سايرة :
[إنه بحسب المشهور فيكم من اللياقة والأهلية قد عيناكم مأمورا على جهات خط الإستواء التابعة للحكومة وصار فرز هذه الجهة من تبعية حكمدارية السودان وصارت قائمة بنفسها غير تابعة الحكمدارية إنما كافة لوازماتها التي يقتضي الحال لتداركها من طرف الحكمدارية هذه يجري تداركها بمعرفة الحكمدار وصرف ثمنها من طرفه مقابله محاسبة المالية بذلك كما أمرنا الحكمدار المومي إليه بأمرنا الصادر في تاريخه.]
والذي يفهم من صيغة هذا الفرمان الذي جاء على الطريقة التركية في صياغة اللغة العربية .. يفهم منه أن غوردون باشا سينفرد بحكم بلاد خط الإستواء بشكل مستقل عن سلطات الحكمدارية في الخرطوم . بل ويعمل على تصفية كل إرتباط إداري لحكمدارية الخرطوم ببلاد خط الإستواء .. وكذلك يكون لإقليم خط الإستواء إدارته المالية المنفصلة. ولكن يحق لغوردون باشا في حالة الحاجة أن يسحب أموالا بإسم حكمداريته في خط الإستواء من خزينة حكمدارية الخرطوم والتي بدورها تستعيض لاحقا ما دفعته له من وزارة المالية المصرية في القاهرة.
وعلى كلٍ فقد توجه غوردون باشا إلى قوندكرو بعد وصوله للخرطوم فحط به الرحال هناك في منتصف أبريل عام 1874م وشرع في تنظيم البلاد وإقامة نقاط التفتيش لمحاربة تجارة الرقيق وبسط الأمن على طول مجرى النيل من نقطة إلتقاء نهر السوباط مع النيل الأبيض إشمالا إلى بحيرة فكتوريا جنوبا . ثم نقل عاصمته من قوندكرو إلى اللادو في نوفمبر 1874م.... وظل على رئاسة حكمدارية خط الإستواء بوصفها من أملاك الخديوية المصرية حتى سنة 1876م فقدم إستقالته وحل محله أركان حربه الكولونيل الإنجليزي "بروت" . ثم سرعان ما قدم هذا إستقالته فحل محله أمين بك الطبيب النمساوي الأصل فظل حكمدارا حتى قيام الثورة المهدية.
إقليم بحــر الغـزال:
في الجانب الشرقي من جنوب السودان الحالي كان هناك إقليم بحر الغزال الذي تولى الزبير باشا رحمة فتحه بمبادرة شخصية منه. وأنشأ فيه مملكة جعل عاصمتها "ديم زبير" أعلن عنها رسميا عام 1865م ودانت له إلى جوار بحر الغزال أجزاء واسعة من بلاد "النم نم" (أفريقيا الوسطى حاليا) ...
والزبير باشا رحمت لمن لا يعلم من العرب كان قد بدأ حياته العملية تاجرا جلاّباً في مجال سن الفيل (العاج) وريش النعام وعسل النحل الذي يجلبهم من الجنوب ويبيعهم في الشمال ؛ ثم يعود للجنوب محملا بمنتجات الشمال فيقايضها هناك بمنتجات الجنوب . وهكذا حتى توسعت تجارته ثم كوّن لنفسه جيشا قويا قام بتسليحه بالأسلحة النارية وصمم لتجارته وأملاكه إستحكامات عسكرية قوية فكان ذلك من أهم أسباب نجاحه وسطوته .. وعلى الرغم من إتهام الغرب وجمعيات محاربة الرق في بريطانيا له بالمتاجرة في الرقيق ؛ إلا أنه ينكر ذلك بشكل غير مباشر في مذكراته ويركز على أنه ليس سوى تاجر عادي وملك عصامي.
وعن أصوله العرقية (وعلى عادة عرب السودان وأبناء أشرافهم وعائلاتهم العريقة في توثيق وحفظ أنسابهم وصيانتها والإحتفاء بها) يقول الزبير رحمة في مذكراته أن إسمه الكامل هو الزبير بن رحمة بن منصور بن علي بن محمد بن سليمان بن ناعم بن سليمان بن بكر بن شاهين بن جُميع أبن جمّوع بن غانم العباسي (نسبة إلى بني العباس) وأن أجداده العباسيين قد هاجروا إلى مصر من بغداد عام 1278م فوجدوا فيها الفاطميين فلم يطب لهم المقام بها . فغادروها إلى السودان فسكن بعضهم النيل وذهب آخرون إلى دارفور وودّاي . وأما الذين سكنوا نهر النيل فقد تشعبوا فيما بعد إلى قبائل متعددة فكان في جملتها قبيلة الزبير باشا المعروفة بقبيلة "الجميعاب" نسبة إلى جدهم الكبير جُميـع ويقطن هؤلاء على ضفاف نهر النيل شمال الخرطوم ما بين جبل قـرّي وجبل الشيخ الطيب.
الزبير باشا رحمة ملك بحر الغزال 1865- 1875م
ولد الزبير باشا في جزيرة واوُسِّي شمال الخرطوم يوم 8/7/1831م وبعد أن بلغ السابعة من عمره ألحقه والده بمدارس الخرطوم ثم إستقـل بأعماله التجارية بعد أن تزوج وبلغ عمره 25 سنة. وفي سن السابعة والعشرين سافر صديق عمره وإبن عمه المدعو "محمد عبد القادر" إلى بحر الغزال ملتحقا بخدمة التاجر المصري "علي أبو عموري" فلحق به الزبير باشا وإنضم إليه هناك نهاية عام 1856م .... وما زال يتبع طموحاته الخاصة بذكائه الوقاد وشخصيته القيادية المميزة حتى كان له ما أراد من الجاه والثروة والنفوذ ثم السلطة فأسس لنفسه مملكته الخاصة به. وقد حرص خلال ذلك على إرضاء وكسب ود وسكوت الخديوية المصرية في القاهرة والباب العالي في الإستانة (بتركيا) وكبار المستشارين في بلاطها بإرسال الهدايا والأتاوات السنوية مع مواظبته على دفع الضرائب للخزينة المصرية ، فأنعمت عليه الخديوية المصرية بلقب باشا.
ظل حكم الزبير باشا لإقليم بحر الغزال مزدهرا منذ عام 1865م إلى عام 1875م . وكان قد صدر في تاريخ 1873م فرمان رسمي من الخديوية المصرية في القاهرة بتعيينه حاكما على بحر الغزال إعترافا منها بواقع الأشياء على الأرض. ثم ما لبث أن تم توجيه الدعوة إلى الزبير باشا لزيارة القاهرة والباب العالي في الإستانة فغادر الزبير عاصمة ملكه المسماة "ديم زبير" عام 1875م متوجها إلى القاهرة التي وصلها في 10/6/1875م وقابل بعدها الخديوي إسماعيل باشا الذي رحب به وأفرد لإقامته سراية من سرايا العباسية ..... ثم مالبث أن إكتشف الزبير باشا أن أمر إستدعائه لمقابلة الخديوي إسماعيل في القاهرة إنما كان تمهيدا لإبقائه في مصر إلى الأبد بعد تسريب حكمدار السودان وقتها "إسماعيل باشا أيوب" مكاتبات إلى الخديوي إسماعيل يطعن فيها بإخلاص الزبير باشا ويشير إلى طموحاته وكاريزميته القيادية ويتهمه فيها بالسعي إلى الإستقلال بحكم السودان عن مصر ..... وهكذا إنتهى عهد الزبير في بحر الغزال.
قبل سفر الزبير باشا إلى القاهرة قام بتوكيل أحد قادته الدناقلة وإسمه "إدريس أبتر" على حكم وإدارة بحر الغزال . فظل حاكما لها حتى عودة غوردون باشا للمرة الثانية إلى السودان عام 1877م فقابل سليمان بن الزبير وولاه بحر الغزال .ولكن سليمان بن الزبير إختلف مع "إدريس ابتر" وأراد محاكمته متهما إياه بالفساد وخيانة الأمانة ففر "إدريس أبتر" إلى الخرطوم واستطاع الوشاية بسليمان بن الزبير عند غوردون باشا . فقام غوردون بتعيين إدريس أبتر حاكما على بحر الغزال فرفض سليمان بن الزبير التخلي عن ملك أبيه لإدريس أبتر فكان أن جرد إليه غوردون جيشا بقيادة جسي باشا فدخل معه في عدة وقائع عسكرية حتى نجح في مايو 1879م بإلحاق الهزيمة به وإحتلال "ديم الزبير" ..... وبذلك إنتهى عهد ملك عائلة الزبير باشا لبحر الغزال وبدأ فصل جديد .
تاريخ غوردون باشا في السودان:
تجدر الإشارة هنا إلى أن غوردون باشا قد جاء للسودان ثلاث مرات وليس مرتين كما يتخيل البعض من غير المتعمق في تاريخ السودان. وأما تفصيل حضور غوردون للسودان فقد كان على النحو الآتي:
المرة الأولى:- ما ين عامي 1874م إلى 1876م حاكما لإقليم خط الإستواء.
المرة الثانية:- ما بين عامي 1877م إلى 1879م حاكما عاما للسودان المصري وإقليمي خط الإستواء وبحر الغزال ودارفور وسواحل البحر الأحمر وهرر.
المرة الثالثة:- عام 1884م حاكما عاما للسودان وحتى مصرعه داخل سرايا الحاكم العام (القصر الجمهوري حاليا) في الخرطوم بتاريخ يناير 1885م.
لحظة مصرع غوردون باشا في الخرطوم على يد مجموعة من الثوار المجاهدين لتحرير السودان
بحر الغزال بعد سليمان الزبير 1879م – 1884م:
بعد إحتلال جسي باشا لبحر الغزال قام بتعيين ساتي بك مديرا عليها ثم أعفي ساتي بك لاحقا وتم تعيين الإنجليزي "لبتون بك" بدلا عنه فظل حتى عام 1884م. وهو التاريخ الذي إحتلت فيه قوات المهدي عليه السلام بحر الغزال.
المحصلة:
يفهم من كل ما تقدم أنه لم يكن للجنوبي حتى عام 1884م دور جمعي مؤثر في داخل أراضيه ، ناهيك عن دور مؤثر في عموم السودان وهمومه الوطنية . وأن محور العلاقة التي نشأت بينه وبين الشمال حتى الأسكندرية لا تعدو أن تكون علاقة مصالح تجارية بحتة من سن فيل وريش نعام وعسل نحل ورقيق ..... بل وسيظهر لنا جليا في الجزء الثالث من حلقات هذا العنوان أن الجنوبي لم يساهم بأية مظاهر جدية في إستقلال السودان عن الخديوية المصرية بقدر ما كانت ثورات قبائل الجانقيه (الدينكا) في بحر الغزال مصدرها إتصالهم بالإمام المهدي عليه السلام ، ولكنها برغم ذلك ظلت قائمة على التمرد الداخلي الخاص بمصالحهم وتواجدهم في حدود أراضي قبيلتهم ، دون إنشغال بما يجري في بقية أنحاء الجنوب أو كافة أنحاء السودان الأخرى من شمال وشرق وغرب....... أو بما يؤكد أن مواطنة الجنوبي كسوداني فاعل لم يجري تعميدها حتى تاريخه بدماء شهداء ومناضلين لأجل إستقلال السودان عبر العصور. ؛ وبمثل ما يحفظ التاريخ لقبائل الشمال الأخرى الذين ساهموا كافة وقدموا القدر الوافي من القادة تلو القادة والكتائب تلو الكتائب للإستشهاد بالآلاف العديدة دون إنقطاع في ساحات النضال الوطني...... إنه من المثير للشفقة أن يجعجع البعض بأن البطل علي عبد اللطيف كان جنوبي الأصل ..... فهو بذلك كأنه يأخذ بالشـاذ الذي ينفي القاعدة. إذ نحن هنا نتحدث عن سيرة وتوجه جمعي لشعب بأكمله وليس ومضات فردية لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة التربية والبيئة الشمالية الوطنية الصالحة التي نشأ فيها علي عبد اللطيف كفرد لم يرى الجنوب هو أو أبيه طوال حياتهما وحيث توقفت علاقته بالجنوب عند مقدار أن أجداده ينحدرون منه ، ثم لم تتكرر هذه الومضة الإستثنائية مرة أخرى مقارنة بتضحيات قيادات ومجاميع القبائل الشمالية.
(يتبع إنشاء الله)
التعليقات (0)