أدبيات الإنفصـــال .. أوراق مبعثرة
(الحلقة الأخيرة)
الرقم (24)
غـــووبا أم جـوبا مالـِـك عليّ ؟
أخطأ الراحل المقيم المطرب أحمد الجابري رحمه الله في النطق الصحيح لإسم "غووبا" في تلك الأغنية المعروفة أصلا بعنوان "يا منى عمري وزماني" . فردد الجابري الإسم كأنّ المقصود به مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان المجاورة .. وعلى دربه سار الكبار والمقلدين من مطربي هذا الزمان التعيس. وسرنا نحن خلفهم نقلدهم وننطقها "جوبا مالك علي" ... ولو سكتنا على هذا الأمر فحتما سيسير أبناءنا وبأتي أحفادنا غدا على نفس المنوال غير ملومين ؛ ولا غرو فإننا لو دخلنا "جحر ضب" لدخلوا وراءنا فيه.
المطرب الراحل أحمد الجابري
أما الراحلة منى الخير فلم نعثر لها على أغنية تقول كلماتها "جوبا مالك علي؟" في ما تبقى من مكتبة الإذاعة السودانية . ولكن عثرنا على الأغنية الأصل وهي بعنوان "يا منى عمري وزماني" كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الريح. والذي قيل أنه نظم هذه القصيدة الغنائية في منى الخير نفسها تأثرا بالصداقة البريئة ، ومشاعر الألفة والمودة التي كانت سائدة بين أهل الفن والطرب في ذلك الزمان الأخلاقي والإجتماعي الصحي الجميل.
المطربة الراحلة منى الخير
الملفت للنظر أن كلمات هذه الأغنية تظل دائما بعيدة كل البعد عن المعنى الذي يذهب إليه جل العامة من أهل السودان ويظنونه . فهي لا تمت لمدينة جوبا عاصمة الدولة المشار إليها أعلاه بصلة سواء من قريب أو من بعيد . ولأجل ذلك فلا بد من مراجعة ثقافية فكرية تاريخية جغرافية متعمقة لهذه الأغنية تبعد عنها شبهة التعلق بما لا صلة لنا به ، ولا طائل من الوقوف عنده ، وإضاعة الوقت في محبته والتغني به أو ترديد إسمه . بل وحتى الإبقاء عليه في العقل الباطني والظاهري والخاطر.
الشاعر عبد الرحمن الريح رحمه الله
ترصد هذه الأغنية إعجاب وعلاقة إجتماعية متجانسة قل نظيرها في العديد من البلدان والمجتمعات المتشابهة ؛ طرفيها أبناء الوطن الأصليين من جهة ، ومن ساكنهم وعاشرهم من الأجانب من جهة أخرى ، الذين إلتفت إليهم الخليفة عبد الله التعايشي رضي الله عنه وأرضاه بتلك النظرة السودانية الفطرية الحانية تجاه من يبادلنا السلم والأمان ؛ فأقطعهم من فسيح جنات أرض أمدرمان حيا كاملا أسماه حي المسالمة. وبسط عليهم حمايته ورعايته الكريمة. ثم وبمرور الزمن وبالألفة والمعاملة الحسنة إندمج هؤلاء بالمجتمع العريض وأصبحوا سودانيين يأكلون الكسرة والمُلاح ويشتهون الـرّوب ؛ عليهم ولهم ما على ولأهل البلاد .
ولا شك أن الجدل سيظل محتدما حول المسمى أو النطق الحقيقي للفتاة "غووبا" التي قصدها الشاعر هنا . فهي ربما تكون "جووبا" أو "غووبا" وهو إسم لفتاة ربما كانت إغريقية أو ارمنية في الأغلب الأعم ؛ لاسيما وأن ولع السودانيين ببنات الأرمن والأغاريق كان ولا يزال مرصودا من خلال التاريخ العاطفي لأفندية العاصمة المثلثة وكبريات مدن الأقاليم قبيل وبعد الإستقلال ..... وحيث لا تزال أغنية "لي في المسالمة غزال" و "زهرة روما" وقصائد أخرى كثيرة ( لم بنجو من نظمها حتى شعراء بمقام التجاني يوسف بشير) ؛ ماثلة في الأذهان وقد بوصلت جميعها إتجاهات ذاك الولع والدهشة بألق وسفور وحسن فتيات الأغاريق والإيطاليين والأرمن سواكنات السودان.
ولو عرجنا بشكل خاطف بالتحليل أو المبضع إلى كلمات الأغنية الأصلية ؛ وهي "يا منى عمري وزماني" للراحلة منى الخير ، لا نسمع ولا نرى ولا نشم ولا نلمس فيها ترديدا لإسم "جوبا" أو بما يوحي ويتصل بها من مخلوقات. بل على العكس من ذلك نراها ترتبط إرتباطا وثيقا بأرض الشمال وبقطاع عريض متجذر من أهله هم أبناء عمومتنا وعقاب أجدادنا من أبناء قبيلة المحس في الخرطوم ؛ وأعني بهم أهل البراري الأعزاء . وكذا نرى فيها تشديدا جاء كأنه على سبيل سبق الإصرار والترصد من لـدن الشاعر بقوله "والديرة ديرتنا" و "البراري سكنتنا".
تقول كلمات الأغنية هنا:
يا منى عمري وزماني
قلبك ليه نساني؟
يا مالك أواني
مين غيرك أذاني؟
+++++++
الريدة ريدتنا
والمحبة حقتنا
الديرة ديرتنا
والبراري سكنتنا
+++++++
ذكراك في لساني
ما بنساك ثواني
يا مالك أواني
مين غيرك أذاني؟
تلك كانت على لسان منى الخير . وأما الجابري فقد كانت كلمات أغنيته التي جارت كلماتها أغنية "يا منى عمري وزماني" وحاكتها في اللحن والأداء أكثر تحديدا وشحنا بالرمز والصريح من القول . وبما لا يدع مجالا للشك بأن المقصود من موضوعها إنما هن بنات المسالمة البيض الحسان ؛ اللواتي تزينت بهن ضفاف النيلين ونهر النيل ...... وشتان ما بين " بياض" المسالمة و " قراقيـر" جـوبـا.
نمضي مع هذه الأغنية إذن بالشرح والتحليل ؛ وبما يزيل عنها الصدأ والشبهات وهي التي تقول:-
يا غـــووبا مـالــك عـليّ ؟
قطــار شــلـت عـيني
الريـــدة ريـدتـنـا
والمحـبـة حقـتــنا
وروهــوا الأكـيــدة
المسـالمــة حـلـتـنا
++++++++
هـاجـرانـي أهـدابـا
وأنا قلبي ما تـابـا
أنا حالـف بــزورا
الفي بحــري أحبابا
++++++++
في خـــدك الشــامة
هي أجمــل علامة
شوفوا الإبتسامة
زي فاتـن حمامة
الإشارات والمواقع الجغرافية في هذه الكلمات تنفي أية علاقة بين هذه الأغنية ومدينة جوبا وأهلها . فلا الريدة ريدتنا ولا المحبة محبتنا بقدر ما كانت الحروب والحقد والدماء والتشاكس والرفض والإقصاء والإلغاء دأبنا وسيرتنا.
ثم وبكل تأكيد لم تكن المسالمة في يوم من الأيام حلة أو مسكنا للوافدين الجنوبيين ؛ والأمر لا يحتاج إلى إطالة هنا أو تفسيرٌ للماء بالماء.
ثم تمضي الكلمات فتقول "أنا حالف بزورا" .. "ألفي بحري أحبابا" . وهو توثيق لطيف لواقع إجتماعي كان في ما مضى أكثر وضوحا ، وهو تركز أشقاءنا المولـّـدين من مسلمين وأقباط في مدينة بحري حتى عهد قريب.
ثم يأتي مفصل آخر من مفاصل مقصد هذه الأغنية المجني عليها والمفترى على مقاصدها ومعانيها حين تشير إلى "في خدك الشامة" .. " هي أجمل علامة" ولا نرى في مدينة جوبا وكل من ينتمي إليها ما يمكن أن يتصف بالشامة في خده كأجمل علامة .. اللهم إلا إذا كانت هذه الشامة بيضاء اللون كاللبن الحليب.
وأما الضربة الفنية القاضية ؛ فقد أتت في مسك الختام بقوله "شوفوا الإبتسامة" ... "زي فاتن حمامة" ..... فأين مدينة جوبا وأهلها من خلقة فاتن حمامة أو إبتسامة فاتن حمامة؟ .... مع الوضع في الإعتبار تاريخ نظم الشاعر لهذه الأغنية.
على أية حال ؛ وإلتماسا للعذر لمطرب معجبون به ؛ فإن أغلب الظن أن الجابري قد تحرّج من نطق إسم "غووبا" حتى لا يختلط الأمر فيظن البعض أنها "القووبا" التي ينطقها العامة "غووبا" .... ذلك المرض المعدي الذي يصيب فروة الرأس، والذي كان "قبل تاريخ إنفصال الجنوب عن الشمال شعبا وأرضا" من بين أكثر الأمراض الجلدية المنتشرة في السودان.
النهاية
9/7/2011
التعليقات (0)