أخيراً جاء مسعود
1
ساحه المبنى التجاري تعج بالناس، وأنا صرت من طول الممارسه أعرف مَن منهم سيكون زبونا ومن لن يكون، ومنذ ان لمحت عيناي هذين الشابين توقعت أنهما ليسا من هذا الصنف ولا من ذاك، شيء ما شدني لأن لا أدعهما يغيبان عن عيني رغم الزحام ورغم انشغالي الذي لا يتيح لي التوقف عن تسخير عيني ويدي وكل انتباهي للزبائن.
منذ أطلا كانا مختلفين، إنهما غريبان لا شك. لعلهما يدخلان المبنى لأول مره... فلم ألمحهما من قبل، وأنا أميّز الوجوه الجديده بنظره خاطفه على الرغم من كثره الوافدين.
إنهما يمشيان متقاربين، وتبدو عليهما الدهشه والاهتمام وكثره التلفت والتحديق حولهما، لكن لا يبدو أن ذلك ناجم عن انبهار بعظمه المكان أو عدم الخبره بفخامه المجمعات التجاريه، فما دهاهما إذن ؟! آه لقد لمحاني ، إنهما يتوقفان عن المشي ويحدقان بي ... يتهامسان ... يتابعان السير ولا يكفان عن الالتفات إليّ ...
ها هما يتهامسان ... ينظران نحوي باهتمام ... ألمح في نظراتهما نا يبعث بي الإحساس بأنهما مهتمان بي أو ربما بما أقوم به ، إنني لا أرتاح لهذا الاهتمام أبدا لأنه لا يشير الى الرغبه في الشراء كما تعودت ان أتقراها في عيون الزبائن ... وألمح في فضولهما ما يشبه العداء أو ربما يشبه المساءله على نحو ما، أشعر بنوع من الارتباك.
يا إلهي ! أين ذهب مسعود؟! صار لا يطيق البقاء هنا، في البدايه كان لا يفارقني.
يقترب أحد الزبائن، يملؤني إحساس من الاطمئنان، لأنشغل بتلبيه حاجته قبل أن يصل فأنا أفهم ما يريده زبائني قبل أن يعلنوا عما يريدون.
- شالوم نوره، بيته زعتر بِبَكَشا...، يترقق الرغيف على ذراعي في لمح البصر، أُلقيه على الصاج الغازي، ينضج بسرعه، أنزعه عن الصاج، أطرحه على "الطبليه" الخشبيه عن يميني، أصب عليه قليلا من زيت الزيتون ، أدهن الزيت على الرغيف، أرش قليلا من الزعتر وألف الرغيف وأرفعه للزبون.
- أهلا مار حايم، بكشا، تفضل. يأخذه ويعطيني الثمن، يمضي، أدس الثمن في كيس الغله، أطفئ الغاز.
أحس برهبه ما، لعل هذين الشابين يحومان هكذا من أجل الكيس ، فربما انتبها الى أن الغله جيده هذا اليوم، إذن سأضع الكيس تحت فخذي وسأريهما كيف تدافع المرأه حتى ولو كانت من مثل حالتي ...!
آه أين أنت يا مسعود ...؟ يا "مسخوط" ... أين تقلعت؟! لا يحلو لك التسكع إلا بعدما يأخذ الزبائن حاجاتهم ويخلو المكان لمن هب ودب؟ ...
ها هما يعبران إلى الناحيه الأخرى، لا يكفان عن الالتفات إلي... يتوقفان أمام دكان الأحذيه في نهايه الساحه، يتهامسان باهتمام زائد. أنا مقتنعه هذه المره باني مثار تهامسها... الملعونان. على كل حال لن يغيبا عن عيني ولن يكون لهما ما يريدان.
القعده على "الطراحه" أتعبت مفاصلي، وجمدت رجليّ الممدودتين،... لأحرك بدني إذن، بل لأقف، ها أنا أنتصب، أسوي هندامي وأراقبهما، كيس الغله في يدي .. ، آه ... حسنا انهما يرتبكان... يدخلان الدكان..
2
تأخر "مسخوط" ...، يا لحظي معه!... صار مثل خلق الله ، مثل أصحاب المصالح، يترك محله متى يشاء ويعود متى يشاء، وأنت "يا بنت النَّوَر" تحمَّلي القرف ! كأني أنا المسؤوله وحدي ... ، يعني خدامه جنابه!... والله يا عمي صار وتصور! صحيح أنني لم أعد أخجل من "التفحيج" أمام الصاج ولا من العيون الزائغه طول الوقت ... وصحيح أنني لم أعد أخشى البقاء وحدي فقد ألفت المكان والناس، ولكنني حرمه والحرمه يقف الى جنبها رجل .. "لو صوره" ، هكذا قالت لي أمي عندما خطبني، و"ملعون الوالدين" لا يحس ولا يفهم !... كم فهمته ولا يفهم!... "بهيم"!.
"لوح"!... آه من حظي ! كم أنا معثره... ! الله يسامحك يا أمي! ... كيف أقنعتني يومها؟ ألم تلحظي أنه لا يحس؟ أيكفي أنّ عنده بيت "طز"! ورثه عن أمه؟ ألم تلحظي أنه بطال؟ كم جئتك "زعلانه" لأنه لا يعمل إلا بقدر "خبزنا كفافنا" ولا يهمه مستفبل الأولاد فأرجعتني اليه بحجه أن "الستره واجب" ؟ وهو لا يفهم... لا يفهم ان الحياه اليوم لم تعد كما كانت مجرد "كل واشرب" كما يقولون ... وكبرت العائله: أربع بنات وصبيّان لم نؤمّن لهم إلا "الأكل والشرب" ، والناس حولنا، آه... صرت أخجل من الناس وصرت أحسدهم، صرت لا أطيق نفسي بينهم، والنساء على الأخص عندنا لسانهن طويل، وأنا ما ذنبي؟ ... ما بيدي؟.
أشرتِ عليّ أن أصنع الخبز وأبيعه ... ، ثم صرنا نبيعه بالزعتر للمتنزهين على الشارع العمومي خارج القريه، وتحمس مسعود، وتحمست معنا وتحسنت الأحوال... آه كم فرحت يا أمي عندما اشترى مسعود سياره نحمّل عليها عده الخبز ونبحث عن الأمكنه التي تجلب الزبائن على الشوارع البعيده،... قالت لك أم حسين معرّضه:
- بنتك على الدروب، هذا غير مناسب، وفهمك كفايه. وقال أبو جودت :
- الطمع في الدين يا أم نورا، "تفحيج" النسوان على الشوارع أمر عظيم. وجئت الينا في المساء وبكيت وسببت الناس لطول ألسنتهم وقهقه مسعود وسب الناس ثم سرعان ما غفا وهو قاعد وراح يشخّر كالثور.
تتقدم امرأه، تقترب مني:
- بيتا مدام. ولكنني أحس بالملل، لا رغبه لي بالمزيد، أنا لست "حماره البيت" وحدي.
- خلاص بيتا اليوم، خلاص!... المسكينه تجفل، تهرول مسرعه، آه لو تعرف ما بي، لو تسألني لأحكي لها ... ظنتني قاسيه وهي لا تعلم أني أوهى من شالها الذي يتلوى على وقع خطواتها المتعثره بسببي.
3
الماره ينظرون إليّ باستغراب كأنما يتساءلون لماذا تقف هذه المرأه الغريبه هكذا؟ حتى الذين اعتادوا رؤيتي هنا ينظرون باستغراب...
أين اختفى المسخوط؟ نسي أن له حرمه "تفحِّج" أمام الصاج وحدها أمام خلق الله، وها أنا أقف لأريح مفاصلي فأبدو في عيونهم كالثور في الزّفه ... لأُسوِّ هندامي لعله يثير فضولهم، أمرر يدي على صدري.
- أي!... يا خيبتك يا حليله ذياب ابن مره! كيف لم أنتبه! أزرار ثوبي محلوله!
الزر الأول والثاني والثالث، ويلي ..! صدري مكشوف! لولا "الشلحه" لكانت فضيحه بجلاجل .. آه منك يا "سبع الرجال" !... الشلحه أحمش منك ... لو كنت هنا لنبهتني. كان اليوم زحمه وكنت أشتغل مثل "الفرنينه" فلم أنتبه لحالي ... لم أنتبه! سامحني يا ربي!.
يقع كيس الغله من يدي... أضم طرفي الثوب وأسحب الكيس بقدمي وأقرفص فوقه بين الحائط والصاج وأنتظر.
لقد تأخرت كثيراً يا ابن عمي تأخرت يا مسخوط ... لأُجل نظري عله قادم ... لا ... لا أثر له، إذن سأركز انتباهي على جهه المدخل، ها أنا أنظر جهه المدخل ... حركه الناس قليله، صارت قليله، لن أزيح وجهي لعل الشيطانين يفهمان أنني أنتظر رَجُلي...
... أخيرا ... آه .. كعادته ها هو يهلهل ببنطاله القصير حتى الركبتين وكرشه المنفوخ فوق ساقين رفيعتين معوجتين يكسوهما الشعر الأسود. إيه منك ومن قامتك! وتمشي مترنحاً بلا خجل؟
طبعاً بعد أن عبأت كرشك مثل كل يوم .. "أم علي تقلع وأبو علي يبلع" ماذا يهمك؟ على مهلك ... على مهلك يا قضيب القصب!
- أي! أي! ...
الشيطانان! يقتربان! ... يمران أمامي. يتمتمان. أجحرهما ... أحدهما يبصق بشده الى جهتي. عيناه تشتعلان غيظاً وتأنيباً. ينمل جلدي. أصرخ بثقه وحزم:
- عندي زوج أكبر من الفيل. انقلعا الى جهنم يا ... !
التعليقات (0)