أخلاق النبي محمد وعناية الله به . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
لا ريب أن الأخلاق النبوية هي الكمال البشري، وهذا يشمل جميعَ الأنبياء_عليهم السلام _، لكن أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي السقف الأعلى في البنيان الأخلاقي النبوي، وذلك عائد إلى صفاته الحميدة البالغة منتهى الإمكانيات البشرية، فلا يمكن لمخلوق من الملائكة أو الإنس أو الجن أن يرقى إلى كمال الصفات النبوية، وأقصى ما يمكن للناس أن يفعلوه في هذا السياق هو التشبه لا أكثر ولا أقل . وكما قال الشاعر :
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فــلاح
والنبوة _ بشكل عام _ هي منهجٌ أخلاقي إنقاذي لا سُلْطة استبدادية استهلاكية . لذلك كانت أخلاق الأنبياء في كل مراحل وجودهم هي الجاذبة للأتباع ، لما تحتويه من فضائل سامية ، وصفات راقية، تشد الآخرين، وتنتشلهم من صفاتهم المذمومة، لتضعهم في مستوى الرقي الأخلاقي الشامخ .
وبما أن الظواهر مهمة جداً لأنها الجزء المكشوف في التعاملات البشرية ، برز عمقُ شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، وامتلاكها لأدوات التأثير الجماهيري ، وسيطرتها على المحيطين بالأخلاق الحميدة لا بالتلويح بالعصا أو المال . فالإحسان إلى الرعية انعكس إيجاباً على مسيرة الدعوة الإسلامية ، عبر تعميق الانتماء إليها ، والتضحية من أجلها، ومما لا شك فيه أن إكرام الكريم بمثابة صك مُلْكيته ، لأنه سيظل شاعراً بالديْن في رقبته أبد الدهر .
وأهمية الأخلاق ترتكز إلى ظهورها العلني في المجتمع ، واحتكاكها مع شتى الطبقات المجتمعية المتفاوتة في العلم والثروة والنسب والمكانة الاجتماعية، فهي ليست أموراً باطنية خفية عن الأعين ، بل هي في صلب التعاملات العلنية على مرأى من الناس ومسمع ، والكل يلاحظونها ، ويعملون عقولهم في تصنيفها إيجاباً أو سلباً .
والمنهج الفكري للأخلاق يكمن في عمق تأثيرها في البيئة المحيطة والأفرادِ والجماعات . وهذه المنطقية التي تقود مسيرةَ التأثير من شأنها تكوين فكر اجتماعي متوازن يعمل على إنتاج منظومة من الإبداع البشري روحياً ومادياً . فالمنظومة الأخلاقية ليست ترفاً زائداً عن الحاجة أو مزايا لطبقة اجتماعية معينة دون أخرى . إنها نظام حياة متكامل وشامل .
ومن خلال الوعي الإنساني بأهمية المبادئ الأخلاقية في تأسيس طريق الدعوة ، وتعميق جذور الانتماء إلى المجتمع الإيماني المتماسك ، يتركز دور الصفات البشرية في نقل المعرفة الإيمانية إلى واقع ملموس ينقذ أبناءه ، ويمنحهم طوقَ النجاة من أجل الخروج من المأزق الوجودي الحرج الذي يضرب _ بقسوة _ الكيانَ الآدمي في كل أطواره وتحولاته .
إن منظومة الأخلاق لا ينبغي أن تنحصر في سياق الأفعال الاجتماعية التجريدية المفصولة عن التأثير الإيجابي في بيئتها ، بل يجب أن تنطلق نحو آفاق التغيير الحتمي باتجاه الأفضل .
لذلك كانت الأخلاق النبوية منهجاً متكاملاً ذا تأثير فعال في المحيطات ، وقد برزت التأثيرات الإيجابية على سلوك أهل الجاهلية ، فتحولوا من الكفر إلى الإيمان ، ومن التخلف إلى التقدم ، ومن قسوة الطباع إلى لين الصفات .
كما أن البيئة الاجتماعية انتقلت من الحياة البدوية الجاهلية إلى حياة مفتوحة على كل الإبداعات، وممزوجة بالنهضة الحقيقية الشاملة لكل جوانب الحياة ، والمستوعبة لكل طاقات الأفراد دون تمييز على أساس اللون أو القبيلة . وهكذا تعززت روح الانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية الكَوْنية في بذرتها الأولى ، ونواتها الأساسية المتماسكة .
وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أَدهشت العربَ في الجاهلية والإسلام، لما فيها من معانٍ سامية محببة للنفوس، كان لها بالغ الأثر في تجذير الثقة بالنبوة ، واعتبارها منهجاً خلاصياً ، وسفينةَ نجاة لا بد من الركوب فيها .
وهذا الأداء الأخلاقي منهجٌ متكامل لا رياء فيه ، وهو يرمي إلى صناعة المجتمع الإنساني عبر تحقيق المثالية الأرضية ضمن أقصى طاقة ممكنة ، وهنا يظهر الكمال النسبي الذي يجلِّل الفعلَ الحضاري للمؤمنين الحاملين لشرعية الطموح الإيماني في تأسيس مجتمع العدالة الاجتماعية الذي يبث المحبة في أوصال الأفراد والجماعات ، ويستأصل الكراهيةَ والعنصرية والعصبية القبلية .
وبما أن المشروعية الحضارية للمجتمع الإسلامي تنبعث من الخلق النبوي الشريف الذي ينير
الطريقَ أمام الأجيال لكي تتحمل مسؤولياتها المصيرية في إرشاد الخلق إلى خالقهم، وإعمار الأرض، وتحقيق مجتمع العدل والمساواة ، فإن الأخلاق النبوية ينبغي أن تتجلى في سلوك المؤمنين واقعاً ملموساً ، وليس شعاراتٍ محبوسة في حِبر الكتب .
فمن الضروري أن يتم ردم الهوة بين النظرية والتطبيق لئلا يشعر الفرد بانفصام الشخصية ، أو يضيع المجتمع في متاهة الأضداد . فكل خلق نبوي هو نظرية حياتية تطبيقية لها مسار واضح مضاد للمراوغة والخداع ، ولها غاية محددة . لذلك فخط السير الذي يسلكه المجتمع المؤمن لا غموض فيه ، ولا نفاق ، لأن نقطتي البداية والنهاية معلومتان .
والجدير بالذكر أن المجتمع الإسلامي الحقيقي السائر في ضوء منهجية الأخلاق النبوية ليس لديه ما يخفيه أو يخجل منه ، لأن الشمس لا تخجل من نورها الساطع ، والبحر لا يخجل من صوته الهادر .
لذلك فشخصية المسلم اندفاع منهجي بلا تهور ، وقوة جبارة في سبيل الحق بلا جرح مشاعر الآخرين . وكل عملية تستهدف بناء الشخصية الإسلامية لا بد أن تمر عبر منهاج النبوة الذي يربط الأرض بالسماء ، أما الاعتماد على قداسة الأفراد فلا يجدي نفعاً ، لأن الأشخاص يتغيرون ، ويغيرون أفكارَهم عبر أطوار حياتهم . والعاقل لا يأمن على حي فتنةً . والاعتماد على قداسة الدول لا يفيد ، لأنه لكل زمان دولة ورجال ، لذا فإن القداسة الفعلية التي تمتلك الشرعيةَ الحقيقية لا الشعاراتية لا تتجلى إلا في النُّبوة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الناس باحترام ، ويحسن الظن بهم ، وفي ذات الوقت ليس مغفلاً يُضحَك عليه بالكلام المعسول . وهذه نقطة غاية في الأهمية ، لأن الكثيرين يقرنون الاحترام بالغفلة ، فيظنون أن الرجل المحترم هو شخصية مغفلة مهزوزة ، يسحقه الناس أثناء سيرهم في المجتمع. وهذه نظرة قاصرة تم تكريسها بفعل بعض النماذج السيئة التي لا تمثِّل إلا نفسها . فالاحترام هو قوة المعنى، أن تكون وردةً لا يمكن سحقها تحت الأقدام ، فتوضع الأمور في نصابها ، فالكلمة في موضع الكلمة ، والسيف في موضع السيف .
وقد حاول المنافقون أن يضحكوا على النبي صلى الله عليه وسلم _ حسب اعتقادهم الفاسد _، لكنهم سقطوا في مأزقهم الوجودي الحرج ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم شامخاً لا يسمح لأحد أن يتجاوزه ، أو يستغفله .
قال الله تعالى : (( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذُن قُلْ أُذُن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم )) [ التوبة : 61] .
قال الطبري في تفسيره ( 6/ 405 ) : (( ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه [ ويقولون هو أُذُن ] سامعة يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدقه )) اهـ .
وهؤلاء المنافقون دائماً يحاولون الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحاولون أن يصطادوا في الماء العكر ، ماءِ وساوسهم ، وأفكارهم الشيطانية، وأفعالهم الخسيسة المنافية للمروءة . فهم ينطلقون من موقف مسبق رافض للحقيقة ، يرفض التسليم والإذعان للحق .
فقد أخذوا على النبي صلى الله عليه وسلم _ حسب رؤيتهم _ أنه يستمع إلى كل شخص فيُصدّقه ويقبل منه . وهم يقصدون بذلك أنه يسهل الضحك عليه ببعض الكلمات المنمّقة ، ويريدون رميه بالغفلة ، وعدم معرفة الرجال ، وانطلاء الحيل الكلماتية عليه ، وعدم تمييز الصالح من الطالح . وهذا قصور نظر منهم ، ووضع الأمور في غير نصابها .
لذلك ردّ الله عليهم بقوة : (( قُلْ أُذُن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم )) .
قال القرطبي في تفسيره ( 8/ 177) : (( أي هو أذن خير لا أذن شر ، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر )) اهـ .
فالنبي صلى الله عليه وسلم يستمع للجميع ، لكنه يميز الخبيثَ من الطيب ، ويحكم على الظاهر إلا إذا أخبره الوحي بخلاف ذلك ، وهو متمسك بالأخلاق الصافية النقية المستندة إلى الإيمان بالله تعالى ، وتصديق المؤمنين ، وعدم الطعن فيهم إلا بحُجة شرعية .
فليس من وظيفة النبوةِ التنقيبُ عن خبايا القلوب ، ورمي الناس بالشكوك والأوهام ، وتفتيت الجماعة المسلمة ، واعتماد القيل والقال منهجاً حياتياً . فهذا يتعارض تماماً مع سمو أخلاق النبوة ، ويتعارض مع الشخصية النبوية النبيلة .
فبعد النظر الذي كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم مرتكز إلى يقين ثابت ، ووضوح الرؤية الثاقبة . فلا تستفزه الأحداث الجسام ، أو تخرجه عن طَوْره ، ولا يهتز أمام الأزمات العاصفة . فهو الملاذُ الآمن عند اشتداد الخطوب ، وتأجج نار الفتن .
ومما يدل على ذلك امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، لئلا يقود هذا الأمر إلى تشتيت القوى المؤمنة ، وتفتيت أوصال الدولة الإسلامية ، وضرب الوحدة الاجتماعية الإيمانية، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )).
[متفق عليه. البخاري ( 4/ 1861 ) برقم ( 4622 )،ومسلم ( 4/ 1998) برقم ( 2584 ).].
وقد كانت الأخلاق النبوية تأخذ بأيدي الآخرين إلى النجاة، وتخرجهم من المستنقعات الكارثية التي يغرقون فيها . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أشد الحرص على إيمان الآخرين، ليس لمنفعة شخصية يجنيها من المؤمنين ، أو زيادة راتب شهري كلما جمع مؤمنين أكثر ، أو تجميع أتباع من هنا وهناك ليلعب دور الزعيم مستغلاً نفوذه لامتصاص موارد البلاد والعباد .
فقد كان حرصه نابعاً من حبه للناس، وإنقاذهم من النار الأبدية، لينالوا الفوز في الدارين. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : لقد قمتُ بواجبي ، وليذهب غير المؤمنين إلى الجحيم ، لقد حصلتُ على الجنة ، وليكن الطوفان من بعدي .
لم يفعل ذلك ، لأن أخلاقه السامية تدفعه إلى تعزيز الأخوة البشرية ، والحرص على إنقاذ الناس حتى اللحظة الأخيرة ، ومساعدتهم إلى أقصى درجات المساعدة ، لينالوا النعيمَ ، وينبذوا الشقاءَ . فلم تكن النبوة إلا خلاصاً للبشرة ، وليس لعنةً على الإنسانية ، أو حملاً ثقيلاً على كاهل المخلوقات .
قال الله تعالى : (( فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً )) [ الكهف: 6] .
أي لا تقتل نفسك يا محمد حزناً على عدم إيمان هؤلاء ، فما عليك إلا البلاغ، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها .
وهذا يعكس درجة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم إيمان البعض ، وحرصه البالغ على إنقاذهم ومساعدتهم، وعدم التخلي عن الدعوة مطلقاً، ومواصلة العمل الدعوي حتى اللحظة الأخيرة ، فربما يأتي شخصٌ إلى حظيرة الإيمان ، فالوصول متأخراً خيرٌ من أن لا تصل أبداً .
لذلك كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعكس حرصه على إيمان قومه ، والشفقة عليهم ، والرحمة بهم ، على الرغم من كل المعاناة التي لقيها بسبب عناد قومه وجهلهم . لكن السّيد الكريم يأبى أن يتخلى عن قومه مهما فعلوا من أعمال مشينة . فالشخصية النبوية هي ركيزة الحضارة البشرية ، لا تنساق وراء جهل الجاهلين ، أو استفزاز أصحاب العقول المشوّشة .
قال عبد الله : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه ، ويقول : (( رَب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )).
[متفق عليه. البخاري ( 6/ 2539 )برقم (6530 )، ومسلم ( 3/ 1417)برقم ( 1792 ).].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 150 ) : (( فيه ما كانوا عليه _ صلوات الله وسلامه عليهم _ من الحلم ، والتصبر ، والعفو ، والشفقة على قومهم ، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون . وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين،
وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أُحد)) اهـ .
وهذا الثبات في سبيل الدعوة ما كان ليتم لولا الثبات النبوي في العبادة التي تبث في النفس اليقين التام، والإصرار على إنجاز الأعمال الصالحة، وتماسك العزيمة، وعدم الضعف أمام الأزمات والمغريات .
ودائماً سوف تظهر في طريق الداعية صعابٌ كثيرة ، لأن الدعوة الإسلامية يتجلى منهجها في إحقاق الحق، ودحض الباطل،وتثبيت شرعية الحقيقة في المجتمع عن طريق تجذير العدالة الاجتماعية.
وهذه المبادئ السامية تشكل خطراً على الطواغيت أصحاب النفوذ والسلطة ، لذلك فإنهم يقاومون الدعوةَ الإيمانية بكل قوتهم ليس لأنهم يملكون منهاجاً أكثر فائدة للمجتمع من منهاج النبوة ، بل لأنهم يخشون فقدان مناصبهم ، ونفوذهم ، وأرباحهم المادية التي يحققونها عبر استنزاف الطبقات المتدنية في المجتمع مستغلين فقرها وجهلها . فالكفر _ في بنيته الأساسية _ عبارة عن تجارة رأسمالية لابتزاز الضعفاء عبر ترويج العقائد الضالة التي تضمن ديمومة سُلْطة رجال الوهم .
وهكذا يقوم الطواغيت في كل العصور بمحاولة وأد دعوة الحق في بدايتها ، وخنقِ مسيرة الحقيقة في مهدها ، لكي يظل الشعبُ قطيعَ غنم يساق كما يريد الراعي دون التفكير أو النقد أو الاعتراض .
فالمصالح الشخصية الضيقة لهؤلاء المتنفذين تدفع باتجاه رفض شمس الحق التي تفتح عيونَ الناس، وتجعلهم أكثر وعياً بمسارهم ومصيرهم . ومن خلال هذا التأصيل الدقيق تبرز علاقة الصراع بين رجال الحق المدافعين عن إنسانية الإنسان ، وحضارة المجتمع الكَوْني ، وبين الطامحين إلى تجذير استعباد الناس ، وحَيْوَنةِ الذات الإنسانية عبر حقنها بالشهوات الفجة اللامنطقية ، والاستهلاكيةِ المهووسة ، لكي ينحصر الفكر البشري في شهوتَي البطن والفَرْج دون الانتباه إلى القضايا الكبرى التي تمس وجودَ الإنسان على الكوكب، وتطرح الأسئلةَ المصيرية على نظام حياته. وكل ضعفٍ في الذات البشرية مرجعه إلى ضعف الاتصال بالله تعالى ، لذلك كانت العبادة هي الأساس المتين للانطلاق نحو بناء الفجر البشري وفق الصراط المستقيم .
قال الله تعالى موضحاً قوة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: (( الذي يراك حين تقوم ( 218) وتقلبك في الساجدين ( 219) )) [ الشعراء] .
والمعنى الإجمالي أن الله تعالى يراك حين تقوم إلى صلاتك بمختلف أحوالك من قيام وركوع وسجود . وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام ، فقد كان حريصاً على تسوية الصفوف ، وانتظام المصلين ، لكي يصلوا إلى الركوع والسجود خاشعين ، لا ينقصون شيئاً من الصلاة .
فعن أبي هريرة_ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( هل ترون قِبْلتي ههنا ؟ ، والله وما يخفى علي ركوعكم ، ولا خشوعكم ، وإني لأراكم وراء ظهري)) .
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 1/ 259 ) برقم ( 708 ).ومسلم ( 1/ 319 ) برقم ( 424 ).].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 149و150 ) : (( قال العلماء : معناه أن الله تعالى خلق له صلى الله عليه وسلم إدراكاً في قفاه يبصر به من ورائه . وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذا ، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع ، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به . قال القاضي : قال أحمد بن حنبل _ رحمه الله تعالى _ وجمهور العلماء : هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة )) اهـ .
والتصاق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ، والتصاق أمته به ، لا يمكن نفيه أو التقليل من شأنه . فقد قال الله تعالى : (( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )) [ الأحزاب : 6] .
وهذا القرب العظيم يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حريص على مصلحة أمته أكثر منها، ويعرف ما ينفعها وما يضرها أكثر من معرفتها لذلك. وهكذا كانت تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم دفعاً للحرج عن أمته، ودرءاً لكل مفسدة ، سواءٌ عُلِمَت حكمة الفعل النبوي أم لم تُعلَم . لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الأب لأمته ، والوالد الراعي لمصالحها ، والمدافع عنها في شتى المجالات .
كما أن نفاذ بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده بالوحي يجعله يرى الأمور من كل جوانبها وفق بعد نظر قد يكون خفياً عن صاحب العلاقة ، لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأمور تختلف عن رؤية الناس المحكومين بالظواهر غير العالمين بأبعاد القضية من كل جوانبها الظاهرة والباطنة لذلك يكون اختيار النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من اختيار الشخص لنفسه ، وأجدر بالاتباع والتسليم والثقة .
قال القاضي عياض في الشفا ( 1/ 47 ) : (( قال أهل التفسير : أي ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماض عليهم ، كما يمضي حكم السيد على عبده . و قيل : اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس )) اهـ .
وقد يتوهم أحدهم أن منهج النبوة يقوم على قواعد دولة دينية كهنوتية تحكم باسم رجال الدين الآلهة الذين ينوبون عن الله تعالى . أو أنه منهج رافض لاستخدام العقل ، ويعتمد على تغييب الوعي ، وتأسيس سلطات إقطاعية ابتزازية تصادر الحريات ، وتمنع الناس من نقد السلوكيات السلبية في المجتمع . وهذا كله مجانب للصواب ، ومصدره هو التأويل الخاطئ أو المغرض للنصوص الدينية . فالخضوع لتعاليم الله تعالى ، والاتباع الدقيق لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم لا يلغيان دورَ العقل ، لأن الفكر المؤمن المتحرر من أعباء الأسطورة الجدلية ، والأوهام الاجتماعية ، والتقاليد البالية ، هو منهاجٌ يمارس إعمال العقل ، وينتهج سبيل النقد المنطقي .
فالمؤمن حينما ينفذ أوامرَ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ينطلق من منهجية مبنية على توظيف العقل لا تغييبه . فالمسلم يعرف مصدر الأوامر ، ودورها في إنقاذ المجتمع ، والأسلوب السليم لتطبيقها واقعاً ملموساً بُغية إنقاذ الإنسان وما يحيط به . فالإيمان هو فعل عقلاني مبني على النصوص الدينية الشرعية، وهكذا تزول أية فرصة افتراضية لتعارض النقل مع العقل ، أو العكس.
فالنبي المرشِد الذي يدلك على الطريق الصحيحة لا يطلب منك أن تغمض عينيك ، بل يأمرك أن تفتحهما لتكتشف طريقك ، وتعرف المسار والمصير ، وكل هذه الأفعال لا يمكن إدراكها إلا بإعمال العقل ، والتفكير بأهمية المرشِد والطريق ونقطتَي البداية والنهاية .
وفي صحيح البخاري ( 2/ 845 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم : [ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ] ، فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دَيْناً أو ضياعاً _ عيالاً محتاجين _ فليأتني فأنا مولاه )) .
ووفق هذا المنظور الراقي يتعامل القائد مع رعيته ، حيث يرعاهم ، ويتابع شؤونهم أحياءً وأمواتاً ، ولا يفرض عليهم الضرائب لسرقتهم وتركيعهم ، أو يأمرهم بالهتاف له في مواكبه ليمارس شهوة السلطة على حساب شعب مسحوق منطفئ .
إن التصاق القيادة بالشعب لم يكن في المجتمع الإسلامي شعاراً إعلامياً براقاً تستهلكه وسائل
الإعلام الرسمية . بل هو واقع ملموس أمام العيان . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ من كوكب آخر ليكون غريباً عن البيئة الأرضية بكل إشكالياتها . ولم يجيء من الملائكة أو الجن ليكون غريباً عن طبيعة الجنس البشري ، وطريقةِ تفكيره ، وغرائزه . فقد جاء من بني البشر ، وهذه إشارة بالغة الأهمية إلى الالتصاق الوثيق بالإنسان بغض النظر عن طبقته الاجتماعية .
وهذا يدفع باتجاه بث الطمأنينة لدى المؤمنين لقناعتهم الأكيدة بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف طبيعتهم ، وأحلامهم ، ونقاط قوتهم وضعفهم . وبالتالي فهو الأقدر على إنقاذهم ، وبناءِ المجتمع الكوكبي السوي ، وإعادةِ بناء الإنسان بشكل يتجاوز كل الإشكاليات الاجتماعية ، والعقدِ النفسية ، وصراعِ الغرائز. وهكذا يتجذر مبدأ التوازن بين الروح والمادة الذي أسسه الإسلام كنظام حياة لا محيد عنه .
فلم يقم الدين الإسلامي بقمع الشهوات ، وإنما أدخلها في منظومة التوازن ، واختيارِ المكان الصحيح، والزمانِ المناسب. فعلى سبيل المثال حصر الشهوةَ الجنسية في إطار الزواج ، وشرّع الوسائلَ المستقيمة للإشباع الجنسي بين الزوجين ، ولم يأمر بالرهبانية ، أو اعتبار الجنس قذارةً أو غريزة حيوانية .
وشهوة التملك وجّهها في مسارها الطبيعي ، فأباح حريةَ التملك للأفراد دون الاعتداء على المصلحة العامة ، وحريةَ التعاملات التجارية المنضبطة بالحلال وعدم استغلال الآخرين . كما أمر بالزكاة لكي يستأصل الفقرَ ، وينقل الفقراء إلى طبقة الغنى وعدم الحاجة . وبذلك أسّس المنهج الاقتصادي المتكامل متجاوزاً الرأسمالية المتوحشة حيث الأغنياء يمصون دماء الفقراء، فيزداد الأغنياء غنى ، والفقراء فقراً ، ومتجاوزاً كذلك الاشتراكية حيث الملكية العامة، وقتل شهوة الإبداع الفردي، وإبادة غريزة التملك الشخصي، وطوابير الواقفين أمام المخابز ومراكز التسوق .
فالنبوةُ هي منهاج واقعي متكامل قائم على رعاية للناس والوقوف على مصالحهم ، وتحقيق أحلامهم . لذلك فالمؤمن مقتنع تماماً بأن له مرجعيةً يعود إليها ، وهي التي تمثِّله وتحافظ على شؤونه كلها. فالمرجعية النبوية هي مرجعية كل المؤمنين، حيث يطمئنون إليها ، ويحتمون بها في وجه كافة الأزمات . ومن هنا يتم فهم مبادئ الدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي دولة دينية بمعنى أن مرجعيتها الكتاب والسنة ، وكل مواطنيها إخوة في الإسلام ، حتى غير المسلمين لهم حق الإخوة في الإنسانية ، وحقوقهم محفوظة ، وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم في موضع الحفظ والصيانة ، وتسود الدولةَ العدالةُ الاجتماعية ، فلا شطط طبقي ، ولا سرقة الشعب باسم الدين ، ولا حكم طواغيت آلهة يعيشون على جماجم الشعب . كما أن الدولة الإسلامية قائمة على العمل بالعلم ، فهذا المبدأ هو أساس الحضارة .
أما الدولة الدينية بمعنى وجود سلطة كهنوتية قمعية لصوصية ، وحكم رجال دين آلهة يوظفون النصوصَ الدينية لسرقة الناس ، ومصادرة حرية التفكير الواعية ، فهي مرفوضة جملةً وتفصيلاً ، لأنها ضد مراد الله تعالى الذي أراد أن يكون عبادُه أحراراً متحرِّرين من سطوة الأساطير وحاكميةِ حراس الخرافات ، وسماسرةِ الدِّين .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد من رعاية المؤمنين تحقيق زعامة وهمية ، أو امتصاص أموال الناس بالباطل. فهو لا يأخذ أجراً على أفعاله الطيبة ، ولا يتقاضى راتباً شهرياً نظير خدماته في الدعوة ، فهو يحتسب أجره عند الله تعالى ، ولا ينتظر من المخلوقات جزاءً ولا شكوراً .
قال الله تعالى : (( قُلْ ما أسألكم عليه من أجر )) [ ص : 86] .
أي إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أجراً على الدعوة ، وإنما أجره على الله تعالى . وبذلك قد أغلق اللهُ تعالى البابَ على الكافرين ، وألزمهم الحجة ، ودحض باطلَهم . ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ أجراً دنيوياً على الدعوة ، لأتى الكافرون محاولين الطعن في النبوة ، فيقولون إن محمداً يطلب أموالاً نظير دعوته ، فلم تكن رسالته إلا مشروعاً تجارياً للسيطرة على أموالنا ، وأخذها دون وجه حق .
لكن الله تعالى أعلم بالنفوس البشرية وهو خالقها ، فأغلق هذا البابَ لئلا تظل هناك حُجة للمعارِضين ، وأيضاً من أجل توجه النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية إلى الخالق تعالى ، فلا ينتظر من الناس أجراً ، لأن الإخلاص النبوي متوجه إلى رضا الله تعالى ونعيمه الأبدي .
وهذا الإخلاص في العبادة دون الالتفات إلى متاع الدنيا الزائل يعكس شخصية النبي صلى الله عليه وسلم المتميزة ، ومدى صدق دعوته التي لم تكن بدعةً بشرية لجمع حطام الدنيا ، وأخذ أموال الناس .
قال الله تعالى : (( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً )) [ الفتح : 2] .
وهذا الغفران الإلهي الذي شمل حياةَ النبي صلى الله عليه وسلم من الولادة حتى الممات، هو عينُ الفضل الرباني، ومنحةٌ إلهية سامية يمن بها اللهُ على من يشاء من عباده . ولا ريب أن هذا الغفران هو الدافعية القوية التي تثبِّت النبوةَ المحمدية على الصراط المستقيم ، وتدفع بها إلى الأمام رغم كل الأزمات والتحديات .
ومع هذا لم يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النوم في بيته حينما سمع الآيةَ الشريفة التي تحمل بشارة الغفران، وقال إني ضمنتُ الجنة فلا داعي للعمل أو الدعوة، وليكن الطوفان من بعدي، فقد نجوتُ بنفسي .
لم يفعل هذا على الإطلاق ، بل ازدادت عبادته وإصراره على الدعوة شكراً لله تعالى على هذه المنحة الربانية العظيمة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يبتغي وجهَ الله تعالى بكل أعماله ، فلا يعمل طمعاً في الجنة ، ولا خوفاً من النار .
ونحن هنا لا نستهين بالنعيم أو العذاب . وإنما نقول إن الأعمال البشرية يجب أن تكون خالصةً لوجه الله تعالى ، لا وجه الجنة أو وجه النار . ومع هذا فنحن نطمع في النعيم الأبدي، ونخاف من العذاب الأبدي .
فعن المغيرة بن شعبة _ رضي الله عنه _ يقول : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه ، فقيل له : غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : (( أفلا أكون عبداً شكوراً ))
[متفق عليه. البخاري( 4/ 1830 )برقم ( 4556 )، ومسلم ( 4/ 2171 ) برقم ( 2819 ).].
وهذه الدرجة السامية من الشكر هي دلالة نبوية على عمق العلاقة بين العبد وربه . فالعبادة ليست وظيفةً حكومية حيث يسجل الموظف اسمه في سجل الدوام الرسمي ، وهو ينتظر على أحر من الجمر متى ينتهي الدوام ، ومتى ينتهي الشهر ليستلم الراتب الشهري ، وليست حركاتٍ ميكانيكية مفرغة من معناها. إن العبادة استمتاع بحب الله تعالى والتزام تعاليمه بكل دقة . وبذلك يصل الإنسان إلى مذاق حلاوة الإيمان ، ويخرج من مأزق العادة والروتين الوظيفي إلى فضاءات الإيمان المتوقد .
وصفاتُ النبي صلى الله عليه وسلم الراقية لا تنتهي عند حد معين ، بل هي متواصلة ، ومؤيدة بالوحي . قال الله تعالى : (( ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجراً غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم ( 4) )) [ القلم ] .
وقد اشتملت هذه الآيات الشريفة على صفات نبوية سامية . فقد نفى الله تعالى تهمة الجنون التي اخترعها مشركو قريش لكي يطعنوا في الدعوة ، ويوقفوا الرسالةَ النبوية _ وفق رؤيتهم القاصرة_ .
وتهمة الجنون لا تقوم على ركائز واضحة ، وأدلة منطقية . فالمجنون يكون كلامه مبعثراً يفتقد إلى التسلسل المنطقي ، وتكون حركاته طائشة ، وأفعاله لا تتحلى بالتوازن . وهذا غير موجود في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقارع الحُجة بالحجة ، ويمتاز بالفصاحة اللغوية ، والبلاغة البيانية ، ويتقن الخطابة في الجموع ، ويخاطب الروح والمادة معاً في خطاب متسق غير متناقض ، وكل هذا في ضوء التوجيه القرآني الذي تفوق على فصحاء العرب فما قدروا على مجاراة الخطاب القرآني .
كما أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم مستقيمة ومرتبة تعتمد على العقلانية المؤمنة والعاطفة النبيلة ، فلا يوجد في أفعاله طيش أو صبيانية ، ولا يوجد في كلامه تناقضات أو عدم انسجام . وهذا يدحض تهمة الجنون بكل سهولة، لكن الكفر عنادٌ . ومشركو قريش يعرفون في قرارة أنفسهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مجنوناً، لكن الذي لا يملك الحُجة، ولا يقدر على مواجهة المنطق بالمنطق ، سوف يلجأ إلى الشتائم والاتهامات الباطلة لإخفاء ضعفه الشخصي ، والتشويش على مسار الدعوة . فمن لا يقدر على مواجهة الشمس سوف ينسحب إلى الظلام ، ويتهم الشمس بنشر الظلام .
وينهمر الفضل الرباني على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجره دائم غير ممنون ، أي غير منقطع . بل متواصل في حالة رقي تمتاز بالاستمرارية . وهذا يعكس الوضع المميز الذي تتمتع به الشخصية المحمدية ، وسمو رتبتها . ولم يأت هذا الأمر من فراغ . فالأخلاق النبوية السامية جاءتها إشادةٌ قرآنية خالدة : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) .
ومن الواضح أن الخطاب القرآني هو المدافع القوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجه خصومه الذين يتربصون بالدعوة . فقد قال الله تعالى _ مثبِّتاً الشخصية النبوية على طريق الرسالة السماوية ، ونافياً تهم الكافرين التي تلقى جزافاً دون أدلة مُعتبَرة _ : (( إنه لقول رسول كريم ( 40) وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون (42) )) [ الحاقة] .
فقد أكد الخطابُ القرآني على كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً كريماً لا شاعراً أو كاهناً . فالشاعر الذي يرمي إلى تنميق كلامه وجعله موزوناً، فيصنع القصائد في المناسبات المختلفة ، ويخلط الحق بالباطل، والواقع بالخيال ، طريقه مختلف عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبلِّغ كلامَ الله تعالى بلا زيادة أو نقصان .
والكاهن يحاول استغلال جهل الناس وابتزازهم للحصول على المنافع المادية بواسطة الخديعة ، حيث يقدم نفسه كعالم بالغيب ، وما سيحدث في المستقبل . لذا فإن همه هو تحقيق مكاسب شخصية دون التفكير في إنقاذ البشرية ، أو صناعة مجتمع السعادة، والعدالة الاجتماعية، وإعمار الإنسان والبيئة .
والدعاوى إنْ لم تُقيموا عليها بيِّناتٍ أبناؤُها أدعيــــاءُ
(( والكهانة صورة الجاهليِّ المقيدة بدوائر تغييب الوعي اعتماداً على استشراف الغيب . فالتنظيم العشوائي يفرض نمواً تكوينياً على مستويات الخلل التخصصي . ولهاث الفرد نحو معرفة الغيب إنما هو شكل مخترع لكي يخدع نفسه بأن وجوده في هذا الحياة ذو أهمية بالغة ، وهكذا يستشعر أهميته الوهمية )).
[الأساس الفكري للجاهلية ، ص 153 ، إبراهيم أبو عواد . دار اليازوري ، عمّان 2007م .].
وهكذا يظهر لنا أن فلسفة حياة الكهانة مضادة للمنهجية النبوية في الحياة . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يزعم الألوهية أو ادعاء الغيب، ولم يقل للناس : اعبدوني من دون الله . ولم يخترع معجزات وهمية لابتزاز أموال الآخرين ، وتثبيت زعامة سياسية انتهازية . بل كان المسار النبوي واضحاً للغاية في الوسيلة والغاية . وقد قال الله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم : (( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسنِيَ السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )) [ الأعراف : 188 ] .
والخطابُ القرآني المتماسك دَحَضَ محاولاتِ نفي النبوة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورَفَضَ اعتباره شاعراً أو كاهناً، لما في ذلك من هدم للرسالة النبوية ، والاعتداء على حق الله تعالى ، والطعن في النبوة ، وسلخ الرسالة المحمدية من الشرعية السماوية .
ففي حال غياب الشرعية السماوية عن البشر سوف يفقدون شرعية وجودهم كأنبياء ورسل، وعندها يخسرون سلطاتهم ، ويصيرون بشراً عاديين غير معصومين في دائرة الخطأ والصواب . وبالتالي جعل مقام النبوة عرضةً للانتقاص والنقد والنقض بلا نكير ، وهذا ما يسعى إليه أعداء الله في كل زمان ومكان _ حسب تفكيرهم المحدود _ .
إن اتهامات الكافرين للنبي صلى الله عليه وسلم تظل محصورةً في دائرة العنف اللفظي الذي له تحولات عنفية عملية . لكنها _ في كل الأحوال_ تفتقد إلى منطقية المنهج العلمي . فكفار قريش لم يقدموا دليلاً عقلانياً لكي يدحضوا النبوةَ ، أو يُظهروا انحرافات النبي صلى الله عليه وسلم _ وفق اعتقادهم الفاسد _ .
فالذي يريد أن يرد على منهج النبوة ، عليه أن يمتلك منهجاً أقوى ، وهذا متعذر . إذن ، لا
يمكن مواجهة النبوة لأنها رسالة سماوية كاملة لا اختراع بشري ناقص .
ولم تقدر كل التهم التي اخترعها المشركون ومن شاركهم الموجهة ضد النبي صلى الله عليه وسلم على النيل منه، أو الحد من نشاطه الدعوي ، أو إطفاء حماسته في تبليغ كلمة الله تعالى . فقد تم تبليغ الرسالة كاملةً غير منقوصة ، وقد أدى النبي صلى الله عليه وسلم الأمانةَ كاملةً ، ولم يبخل بأي جزء منها.
قال الله تعالى : (( وما هو على الغيب بضنين ))[ التكوير : 24] .
أي إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبخل بتعليم الناس ، وإرشادهم إلى الحق ، وتبليغ الوحي الإلهي كاملاً غير منقوص . مما يدل على مدى العناية الإلهية المحيطة بالرسالة ، وإصرار النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الأمانة كلها رغم العوائق الكثيرة التي اعترضت طريقَه .
فلم تزده الأزمات إلا ثباتاً على الحق ، ولم تزده التهم الباطلة إلا التزاماً بطريق الدعوة . وهذا
دَيْدن الأنبياء أصحابِ الهمّة التي لا تنكسر .
والثبات النبوي على الصراط المستقيم منبعه من التأييد الإلهي ، وقوةِ الخطاب القرآني في تثبيت النبوة. فقد قال الله تعالى: (( ما ودعك ربك وما قلى (3) وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5) ألم يجدك يتيماً فآوى (6) ووجدك ضآلاً فهدى (7) ووجدك عائلاً فأغنى (8) )) [ الضحى] .
وهذه الآيات الكريمات تمثِّل منهجاً ربانياً واضح المعالم في رعاية النبي صلى الله عليه وسلم والاعتناء به . وقد اشتملت على معانٍ كثيرة بالغة الأهمية . فالله تعالى ما ودَّعك وما قلاك _ يا محمد _ ، أي ما تركك ولا أبغضك . وفي الأصل فإن قلب النبي صلى الله عليه وسلم مطمئن بالموعود الإلهي ، وواثق بالعناية الربانية التي لا تتخلى عن المؤمنين بها .
فالبناء النفسي المتماسك في الشخصية النبوية الداخلية ضروري للغاية لكي يبدوَ ظاهر الشخصية المحمدية متماسكاً أمام التحديات الجسيمة . فمن غير المنطقي أن يظهر منهاج النبوة مهزوزاً، أو فاقداً للشرعية، أو عاجزاً عن تقديم نفسه ، والدفاع عن حججه، ودحض أقوال الخصوم . فالثقة بالله تعالى تدفع إلى الثقة بالنفس ، وبالتالي تحصين الجبهة الداخلية في الكيان النبوي ، فيظهر فاعلاً بكل حيوية على خارطة الأحداث الكَوْنية .
عن جندب بن سفيان _ رضي الله عنه _ قال : (( اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً ، فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً. فأنزل الله عز وجل : [ والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) ] )) .
[متفق عليه. البخاري( 4/ 1906 ) برقم ( 4698 )،ومسلم ( 3/ 1421 ) برقم ( 1797 ).].
وقد جاء الرد الرباني واضحاً في دحض الشبهات، وتفنيد الوساوس التي تعتمل في نفوس أصحاب الشكوك . فالله تعالى لا يتخلى عن مبعوثيه ، فهو يؤيدهم ، ويحيطهم بعنايته ، ويشملهم برحمة مخصوصة ، بحيث لا يركنون إلى أنفسهم طرفة عَيْن ، وإنما يظلون متمسكين بحبل الله المتين ، واثقين من وعد الله الذي لا يتخلف .
وقد وجّه اللهُ تعالى المسارَ النبوي نحو التعلق بالآخرة ، وعدم الانشغال بمتاع الدنيا الزائل : [ وللآخرة خير لك من الأولى ] . أي إن الآخرة بما فيها من نعيم خيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا الفانية . (( ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، وأعظمهم لها إطراحاً كما هو معلوم بالضرورة من سيرته . ولما خُير _ عليه السلام _ في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة ، وبين الصيرورة إلى الله _ عز وجل _ اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية )).
[تفسير ابن كثير ( 4/ 674 ) .].
وليست منهجيةُ النبي صلى الله عليه وسلم هي الزهد القسري، أو زهد العاجز الذي لا يقدر على امتلاك الأشياء ، فيمثِّل دور الزاهد الورع . بل إنه كان بوسعه أن يكون أعظم ملوك الأرض قاطبةً ، ويملك الدنيا من المشرق إلى المغرب ، بكل ما فيها من متاع ، وكان ذلك في متناول اليد ، لكن المنهجية النبوية متطلعة دائماً إلى الله تعالى، واختيار الرفيق الأعلى _ سبحانه _ ، لما في ذلك من سعادة القرب من الخالق تعالى، والنعيم بطاعته ، والاحتماء بمجده ، ونيل رضاه ، وإيثار الآخرة على الدنيا .
فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : دخل عمر بن الخطاب _رضي الله عنه _ على النبي صلى الله عليه وسلم و هو على حصير قد أثر في جنبيه ، فقال : يا رسول الله ، لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا، فقال : (( ما لي وللدنيا ، وما للدنيا وما لي ، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ، ثم راح وتركها )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 344 ) برقم ( 7858 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه ابن حبان ( 14/ 265 ) برقم ( 6352 ) .].
(( قال الطيبي : وهذا تشبيه تمثيلي ، ووجه الشبه سرعة الرحيل ، وقلة المكث، ومن ثم خص
الراكب . ومقصوده أن الدنيا زُينت للعيون والنفوس ، فأخذت بهما استحساناً ومحبة ، ولو باشر القلب معرفة حقيقتها ومعتبرها لأبغضها ، ولما آثرها على الآجل الدائم )).
[فيض القدير للمناوي ( 5/ 464 ) .].
إن انبثاق هذا المنهج الواعي المتمثل في بعد النظر ، وعدم الاغترار بالشهوات الأرضية ، والركون إلى زخرف الحياة الدنيا الوهمي ، يشير إلى الأساس العقلاني الواعي للفكر النبوي . فتظهر الحياة الآخرة بكل حضورها في الواقع المعاش ، وهذا الظهور يدفع الإنسانَ إلى البحث عن الخلود لا الفناء ، والتركيزِ في النعيم المقيم لا النعيم المؤقت الزائل.وهنا يتجلى إبداع العقل البشري الذي لم يسقط في فخ الآنية، وإنما سعى إلى ما وراء البهرج الفتان الخادع للحياة الدنيا
الزائلة .
وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار ما عند الله تعالى من النعيم، فلن يضيع أجره سدىً، وإنما سيبلغ رتبةً سامية ما بلغها أحد قبله ، ولن يبلغها أحد بعده . وهذه الرتبة السامية مقتصرة عليه حصرياً لما يتمتع به من صفات الكمال البشري.
وقد قال الله تعالى : (( ولسوف يعطيك ربك فترضى )) .
وهذا شرفٌ ما بعده شرف ، وخاصية نبوية جاءت كمنحة ربانية خالصة ، لأن الله تعالى يعرف ماذا يقول، ويعرف أين يُنزل رحمته وفضله، ومن هم العباد المخصوصون بالفضل العميم ، فهو _ سبحانه_ مطلع على السر والعلانية ، ويعلم أسماءَ أوليائه ، كما يعلم أسماءَ أعدائه .
وقد عدّد الله تعالى النعمَ العظيمة على النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ وجده يتيماً فآواه ، وضالاً فهداه ، وفقيراً فأغناه .
قال الله تعالى : (( ألم يجدك يتيماً فآوى )) .
أي : هيّأ لك المأوى بعد أن كنتَ يتيماً فاقداً للأبوين ، فالله تعالى لا يريد أن يتفضل أي مخلوق على محمد صلى الله عليه وسلم . وحدها الرعاية الربانية هي التي تشمله ، وتقوده في حياته ، وتحفظه في مماته.
والحفظ الرباني للشخصية المحمدية لم ينقطع . فاليتم الذي عاناه النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر فيه سلباً، لأن توفيق الله تعالى نقل حالة اليتم من الضياع إلى الثقة الكاملة بالله تعالى واللجوء المطلق إليه .
فلم يرد الله تعالى أن يَركن النبي صلى الله عليه وسلم إلى المخلوقات لكي تعوضه عن حالة اليتم، لأن الله تعالى قد خلق الشخصيةَ المحمدية ، وأحاطها بالرعاية والاستقامة ، وعصمها من الاضطراب النفسي أو الخلل المشاعري اللذين يظهران في شخصية الأيتام _ في الوضع الطبيعي _.
وقد صار اليتم فرصةً ذهبية لانقطاع علائق النبي صلى الله عليه وسلم بالناس_بغض النظر عن درجة القرابة _، واتصاله الوثيق بخالق الناس . وهذه القاعدة البنائية الإيمانية المتماسكة التي قامت عليها أبعاد الشخصية النبوية أدت إلى تنشئة النبي صلى الله عليه وسلم وفق الأخلاق الفاضلة ، وتحمل التحديات بروح متوهجة ، ومواجهة الأزمات بقلب ثابت . وبدون هذه الصفات تفقد النبوة معناها وشرعيتها .
قال الله تعالى : (( ووجدك ضآلاً فهدى )) . وليس الضلال هنا بمعنى الكفر أو الجحود ، بل بمعنى الاحتياج إلى هداية الله تعالى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كنا ليهتديَ إلى طريق النبوة ، وحمل الرسالة ، وتبليغ الأمانة ، لولا توفيق الله تعالى وهدايته. فكل المخلوقات إذا فقدت هدايةَ الله سوف تضل طريقها ، وتعجز عن اختيار ما ينفعها .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 1994 ) ، في الحديث القدسي يقول الله تعالى : (( يا عبادي كلكم
ضال إلا من هَدَيْتُه ، فاستهدوني أهدكم )) .
فالإنسان مهما بلغ من العلم العظيم ، والنسب الشريف ، والشخصية القيادية الخارقة ، يظل عاجزاً أمام عظمة الله تعالى ، وضالاً ما لم يتعرض لنفحات الهداية الربانية . والنبي صلى الله عليه وسلم هو كيانٌ بشري قبل أن ينال شرفَ النبوة وتكليفَها ، لذلك فالبشرية النبوية إنما خرجت من الضلال إلى الهداية بفضل الله تعالى ، وكل شيء سوى الله تعالى ، فهو محتاج إلى الله ، وضال بدون الهداية الإلهية . ولا يوجد مخلوق قادر أن يتحرك على الصراط المستقيم بدون التوفيق الرباني .
والفرد لا يمكن أن يتعرف على الله تعالى اعتماداً على عبقريته ، أو شهاداته الجامعية، أو قوة عائلته ونفوذها. لذلك فهو في مستنقع الضلال ، وغارق في جحيم الظلمات . وفرصته للخروج من الظلمات إلى النور هي الهداية الربانية التي تنتشله من الوهم الظلامي ، وتزرعه في قلب الحقيقة النورانية . والنور الإلهي لا يهبط في قلب نجس، لذلك فعلى الإنسان أن يطهِّر نفسَه لكي يكون أهلاً لنيل شرف الهداية.
قال الله تعالى : (( ووجدك عائلاً فأغنى )) .
أي أغناك بفضله بعد أن كنتَ فقيراً، والغنى غنى النفس ، كما أن النبي القائد صلى الله عليه وسلم كان يملك كل السلطات في يده، بما فيها السلطة المالية ، وأموال الدولة الإسلامية ، لكنه آثر حياةَ التقشف والزهد في الدنيا انتظاراً لوعد الله في الآخرة . فلم يكن حاكماً دكتاتوراً مستبداً يسرق الشعبَ، وإنما يوزع الأموالَ وفق حاجة الناس ، أي يضع المال في مكانه الصحيح . فلا يعني تجمع السلطات في يديه أنه مستبد يذل الآخرين ويستعبدهم لكي يظلوا ملتفين حوله . ولكنْ لأنه قائد الدولة الإسلامية فهو يقوم بواجبه في توزيع المناصب والأموال على مستحقيها وفق مصلحة الدولة الإسلامية لا مصلحته الشخصية أو حظوظ نفسه .
قال الله تعالى: [ ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وِزرك (2) الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) ] [ الشرح] .
(( قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه ، وشريف منزلته عنده ، وكرامته عليه بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ، ووسّعه لوعي العلم ، وحمل الحكمة ، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، وبغّضه لسيرها ، وما كانت عليه ، بظهور دينه على الدين كله ، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، وتنويهه بعظيم مكانه ، وجليل رتبته ، ورفعه ، وذكره ، وقرانه مع اسمه اسمه )).
[الشفا للقاضي عياض ( 1/ 17 ) .].
وما أحسن قول حسان بن ثابت _ رضي الله عنه _ :
وضم الإلهُ اسمَ النبي إلى اسمـه
إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجـــله
فذو العرش محمود و هذا محمد
وهذه النعم الجزيلة تتضمن شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام ، وبث العلم والأخلاق الفاضلة فيه، وغفران ذنوبه التي أثقلت ظهرَه بحملها الثقيل ، ورفع ذكره في الدارين ، حيث اسم النبي صلى الله عليه وسلم مع اسم الله تعالى في الشهادتين اللتين تترددان في أنحاء المعمورة حتى قيام الساعة ، ولا يُقبَل إسلام المرء بشهادة واحدة .
إن النعم الجزيلة التي أسبغها الله تعالى على مقام النبوة تنبئ عن عظمة الصفات النبوية التي جعلت من الشخصية المحمدية كياناً شريفاً عالمياً ، ومثلاً أعلى في كل الأزمنة والعصور ، وقدوةً بين المخلوقات . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليصل إلى هذه الدرجة السامية لولا توفيق الله تعالى الذي وضع الشخصيةَ المحمدية على الصراط المستقيم ، ومنحها الصفاتِ الخارقة لكي تقود البشرية إلى بر الأمان .
إن الذات المحمدية بكل صفاتها المميزة أضحت مثلاً أعلى يُنظر إليه على أنه أقصى ما يمكن الوصول إليه في عالم البشرية . فهذا الكمال الإنساني الراقي يعطي الأملَ المشرق للآخرين كي يسيروا على الدرب المستقيم الذي أسّسه النبي صلى الله عليه وسلم حلماً وواقعاً، ويعيدوا أمجادَ الحضارة العربية الإسلامية التي يظهر فيها التلاحم المتين بين النظرية والتطبيق ، فلا يحدث انفصام في الكيان الاعتباري للمجتمع المسلم، ولا يحدث تناقض بين النصوص الدينية وبين تطبيقات الواقع المحسوس. مما يشير إلى دور القيادة المحوري في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وأهميةِ العقلية المركزية في وضع الطاقات البشرية في أقصى مداها لبناء الإنسان والدولة .
والنعم الإلهية التي شملت النبي صلى الله عليه وسلم لا تنقطع، فالله تعالى لا تنفد خزائنه من كثرة العطاء وإسباغِ النعم على عباده . واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالمنح الربانية الجليلة يدل على المكانة الخاصة لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي هو أرفع مخلوقات الله تعالى درجةً .
قال الله تعالى : (( إنا أعطيناك الكوثر )) [ الكوثر: 1] .
وفي صحيح مسلم ( 1/ 300 ) عن معنى " الكوثر " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فإنه نهر وعدنيه ربي _ عز وجل _ ، عليه خير كثير ، وحوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم )) .
وكما أن النعم الربانية المحيطة بالرسالة المحمدية مذكورة في القرآن الكريم ، فأيضاً الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم واضحٌ في الخطاب القرآني الذي يَرُد على الأعداء ، ويفحمهم بالبرهان الناصع ، والحجة الساطعة ، ويدحض باطلَهم ، ويفضحهم على الملأ بسبب كفرهم ، وعداوتهم للحق الناصع ، وعنادهم المبني على الجهل والغرور والحميّة .
ولا تخفى أهمية الدفاع عن مقام النبوة، ودحضِ أقوال خصومها،وذلك لمنع التشويش على مسار الدعوة الإسلامية، وتعزيز مسيرة الحق عبر تجاوز التحديات ، ونيل الشرعية في المنظومة المجتمعية .
قال الله تعالى : (( إن شانئك هو الأبتر )) [ الكوثر: 3] .
أي إن مبغضك يا محمد هو الأذل الذي ليس له عَقِبٌ ( ولد ) .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 721 ) : (( الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره. وحاشا وكلا، بل قد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمراً على دوام الآباد إلى يوم المحشر والمعاد )) اهـ .
ونلاحظ من خلال سياق الاعتداء اللفظي من قبل الكفار على المقام النبوي الشريف أنهم يحاولون بكل وسيلة الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النيل من تاريخه الأسري ، ووضعه العائلي . وهذا يدل على عجزهم عن مقارعة الحجة بالحجة ، وتقديم البراهين العقلانية المنطقية ، لذلك تناولوا وضعه الأسري بالانتقاص لأنه قد مات أبناؤه .
ووجود الأبناء بالغ الأهمية، وذو مركزية عشائرية في المجتمع الجاهلي،وقد اعتقدوا _ لجهلهم_ أنهم ناجحون في طعنهم ، لكن الأمر ارتد عليهم خسراناً ولم يتأثر مقام النبوي السامي بهذه التصرفات الطائشة الحاقدة التي لا منطق لها .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه ، فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة ، وأنت سيد أهل يثرب ، فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه _ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم _ يزعم أنه خير منا ؟، فقال : أنتم خير منه . فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن شانئك هو الأبتر )) .
[صححه ابن حبان ( 14/ 534 ) برقم ( 6572) . وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 721 ) : (( رواه البزار ، وهو إسناد صحيح )) . ].
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)