أخــلاط منظمة الدعوة الإسلامية
مصعب المشرّف
16 أبريل 2020م
في المؤتمر الصحفي الذي عقده الأمين العام لمنظمة الدعوة الإسلامية وقدّمته إليه سكرتيرته .. وتفرّدت فضائية "الجزيرة مباشر" القطرية بنقل أجزاء كبيرة منه. جاء حديث هذا الأمين العام فيه مملوء ومزدحم بمنمقات الكلام وإدعاء البراءة من كل سوء ؛ التي ظن أنها بعد إسباغه عليها ستصبح قانونية ملزمة للقضاء ، والحكم ببطلان التفكيك لتمكينها المشبوه. وحتى تعود حليمة لعادتها القديمة.
ولم ينسى الأمين العام في طيات حديثه المسترسل الإشارة إلى شخصية سودانية عامة محترمة هي المرحوم سوار الذهب ؛ بغرض غسل وتبييض وجه هذه المنظمة . وهو بالطبع إستغلال مرفوض.
وكذلك ظل الأمين العام لهذه المنظمة الإجرامية المحلولة يذكرنا بأنها قد تم إنشاؤها عام 1980م ... على أيام عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري .... أو كأنّه يستغفلنا بما يدفعنا إلى الظن بأن هذه المنظمة لا علاقة لها بدولة الإخوان المسلمين (الكيزان) البائدة.... لكن وبرصد تاريخي بسيط سندرك أن سحر أمين عام هذه المنظمة قد إنقلب عليه وكشف أخلاط زيف إدعاءاته ومغالطاته.
بداية فإنه يمكن القول عن علاقة تنظيم الأصولية العالمية بهذه المنظمة إنما هي علاقة خاطف بمخطوف .. وسارق بمسروقات....... والدليل على هذه العلاقة الحرام ؛ أن عام 1980م كان سابقاً لدولة رجب أردوغان في تركيا (2014م / -----) . كما كانت إمارة قطر في تلك الفترة بعيدة عن التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. وكانت على عهد أميرها الراحل الشيخ خليفه بن حمد آل ثاني (1972/1995م). أبعد ما يكون عن تبني فكر الإسلام السياسي الذي جاء به القرضاوي طريداً من مصر جمال عبد الناصر إلى قطر.
وفي ذلك الحين من عام 1980م لم يكن الترابي شيئا مذكورا على مستوى هرم السلطة أو الشارع والناخب البرلماني العام .. وكان حزبه لا يستطيع الوصول إلى معظم مقاعده في البرلمان (على قلتها) إلا بواسطة أصوات "دوائر الخريجين" الفئوية المغلقة خارج إطار الدوائر العامة. كما أنه لم تكن علاقاته على ما يرام (لأسباب فكرية وتنافسية) مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية عرّاب التكفير والإرهاب والإسلام السياسي.
عليه ؛ فإن كافة الحجج والبراهين تدل على أن تأسيس منظمة الدعوة الإسلامية عام 1980م إنما كانت بأموال وإشراف سوداني 100% . وأن جعفر نميري وقتها قد منح الضوء الأخضر لإنشاء هذه المنظمة إتساقاً مع الأفكار التي وسوس له الترابي بها في صدره ؛ تلك الأفكار الإسلاموية السياسية القائلة بإمكان تنصيبه خليفة راشد سادس وإمام عام للمسلمين ينمّي بيت المال ويجزل العطاء للفقراء والمساكين.... وهو ما أسفر لاحقا عن تبني نظام مايو للدستور الإسلامي على طريقة الإسلام السياسي . الذي لم يرى الناس منه سوى قطع ألأيادي .. أيادي الفقراء ؛ وجلد الشمّاسة والنازحين بالسياط . والمطاردات للنساء في الشوارع وإقتحام المنازل والقطاطي . ومساومة النساء على أعراضهن أو تلفيق التهم بالشروع في الزنا في حقّهن .. وفي المعارضين السياسيين من الجنسين على حد سواء.
وفي عام 1980م لم يكن جعفر نميري ونظامه المايوي الإتحاد الإشتراكي المتهالك بعيداً عن جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور حسن الترابي آنذاك .. والذي إنسلخ بعد عام 1977م من حسد المعارضة الحزبية لنميري . وذهب وحده ليعلن إنضوائه وأتباعه تحت رايات الإتحاد الإشتراكي بمسمى الإتجاه الإسلامي ..... مسمى "الإتجاه الإسلامي" المؤقت ؛ الذي خدع العديد من المثقفين وطلاب الجامعات آنذاك ، قبل أن يخدع نميري المتواضع الفكر ضحل الوعي والثقافة.
كانت المصالحة الوطنية هي المدخل الذي غرس فيه الترابي فيما بعد تيجان فيروساته في خلايا صدر ودماغ نظام مايو البائد ، بعد أن فتح له الصادق المهدي الأبواب ومهّدَ له السبيل ويَـسّـرَه.
ذلك أنه وبعد أن فشلت محاولة الجبهة الوطنية بقيادة الصادق المهدي في قلب نظام حكم جعفر نميري بالقوة العسكرية من خلال تدبيرهم لما عرف بالغزو الليبي المندحر (المرتزقة) في 2 يوليو 1976م . فقد جاءت مصالحة (الوحدة الوطنية) في يوليو 1977م.
ولكن الصادق المهدي لم يتمكن من المضي إلى آخر الشوط في موضوع المصالحة الوطنية لعدّة أسباب ؛ وهو ما منح الترابي الفرصة للإنسلاخ عن الجبهة الوطنية . فيخطف تلك المصالحة وبتصدر المشهد على قناعة منه أنه لن يخسر شيئا.
أعلن الترابي نفسه "شريكا" لجعفر نميري وانخرط هو وحزبه في عضوية الإتحاد الإشتراكي ، على زعم من القول العلني أنهم ينشدون الإصلاح من الداخل... ويتهامسون ويتغامزون فيما بينهم بأنهم إنما يدبرون لهدم معبد النميري من الداخل.
وفي عام 1983م أعلن نميري بإيعاز من حسن الترابي ما عرف وقتها بقوانين سبتمبر الإسلامية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها ، وتسببت في عودة التمرد إلى جنوب السودان بقيادة جون قرنق. ومضى الحال من سيء إلى أسوأ في ظل هذا التحالف ما بين نميري والشيطان السوداني الأكبر . حتى فطن نميري إلى المأزق الذي أوقع فيه نفسه بعد فوات الأوان . فأعلن فض تحالفه مع الترابي في مارس 1985م قبل ثلاثة أسابيع فقط من إنتفاضة أبريل التي أطاحت به وبدولة الإتحاد الإشتراكي أو ما كان يعرف بنظام مايو إلى غير رحعة.
كانت هذه وبإختصار هي الأحداث التي ولدت فيها منظمة الدعوة الإسلامية لتكون ذراعاً قوياً من أذرعة الإسلام السياسي ..... ومن ثم فإن تأسيس ما يسمى بمنظمة الدعوة الإسلامية الذي جاء عام 1980م لم يكن بعيداً عن الترابي بل كان جزءاً من تدبيره الإستراتيجي... وعلى طموح منه أن يصبح هو المرجعية العالمية الأولى والوحيدة للأصولية الإسلامية العالمية.
ولكن لم يكن الترابي ليصفو له الجو كي يبيض ويصفر على المستوى العالمي . فهناك أكثر من منافس وحاسد . وطامح لقيادة الأصولية العالمية بما يكقل له تكريس أفكاره أو جماعته. فكان أن بدأ القرضاوي المصري من قطر في تشكيل التحدي الأكبر للترابي ؛ مستعينا في ذلك بالإمكانات المالية الهائلة التي تحظى بها منطقة الخليج عامة . فحصل على ما يرغب ويشتهي من التمويل والجنسيات وجوازات السفر لأتباعه من مواطنيه وغيرهم . وهو مما وفر لهم دعماً لوجستيا ومرونة في الحركة والتجوال وفتح الحسابات المصرفية وتحويل الأموال منقطعة النظير.
وكان السودان والقارة الأفريقية من ضمن تلك "الفتوحات" التي نجح القرضاوي في ضمها إلى تنظيم الأصولية العالمية بفضل سحر المال . شريطة أن تنتهج مباديئ أفكار الإرهاب والجهاد المصري الماثل الذي تم إستنساخه في كافة بلدان العالم بعد أن وصل القرضاوي إلى قمة هرم تنظيم الأصولية العالمية.
هكذا وضع تنظيم الأصولية العالمية يده على منظمة الدعوة الإسلامية . ثم بدأ في يناء وتأسيس الآليات الفكرية ومراكز الإستقطاب في الخرطوم . ومن بينها على سبيل المثال مجمع خاتم المرسلين (ولا أدري لماذا تعمدوا إغفال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل والأنبياء معاً . وليس الرسل فقط) ... فهل رغبوا بترك الباب موارباً لعلهم يتمكنون من إبتداع إبتعاث "أنبياء" منهم أم ماذا؟
رأينا في السودان مثل صارخ على بعض الأدوات البشرية التي إستقطبها القرضاوي . وكان أبرزها مثلا رجل الأعمال المُلتحي عبد الحي يوسف الذي يحلو لي تشبيهه بالرئيس الأمريكي التاجر المُتأنِّـق ترامب ... فهذا دخل إلى البيزنيس من باب الدين ، وذاك دخل إلى السياسة من باب البيزنيس .. فأصبح كلاهما خطراً ماحقاً على الدين والسياسة والبيزنيس مجتمعين.
كذلك تسلل تنظيم الأصولية العالمية عبر منظمة الدعوة الإسلامية خُـفيَةً إلى جامعة أمدرمان الإسلامية .. ووضع يده وسيطر كاملاً وصراحةً على جامعة أفريقيا التي أصبحت مفرخة لدعاة وأئمة مساجد من أولئك المتزمتين الجهاديين على طريقة دون كيشوت جرى توزيعهم بعد التخرج على دول وشعوب إسلامية غير ناطقة باللغة العربية . مما يسهل به غسل أدمغة تلك الشعوب وتلقينها أفكار حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي.... ولا بأس (على حسب الحماية والتمويل) من تلقين تلك الشعوب فكرة هامشية عن عودة الخلافة التركية بزعامة العثماني أردوغان ؛ حتى لو كان ذلك من باب سقاية الشربوت ، ورفادة النفخة التركية الكضابة .... ومجاراة أحلام زلــوط.
وأما عن إرتباط إسم المشير سوار الذهب بمنظمة الدعوة الإسلامية. فلم يكن ذلك سوى إلتقاط من القرضاوي لقفاز ذهبي. ومحاولة لتبييض وجه هذه المنظمة المشبوهة ، دون أن يعي سوار الذهب لهذا المخطط الذي استهدف إستغلال إسمه كغطاءٍ محكم لبئر الخبث والخبائث...
الملفت للإنتباه أن تعليق لجنة التمكين المقتضب حول فساد منظمة الدعوة الإسلامي إنما شمل فقط الجوانب المالية . ولكنه لم يتطرق إلى حقيقة أن هذه المنظمة قد تحولت بعد مجيء الكيزان إلى السلطة ... تحولت إلى بؤرة لرعاية ونمويل الإرهاب في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط .
وبالنظر إلى إتكاء الأمين العام على "حصانة" منظمة الدعوة الإسلامية . على إعتبار أنها منظمة عالمية تتلقى أموالاً من الخارج . فهذا مردود عليه بأن هذه المنظمة ليست مسجلة كهيئة أو مؤسسة رسالية أممية في زمرة المنظمات الدولية الراعية لكافة الأديان والثقافات . وهو ما يجعلها شبيهة بالجامعة العربية التي لا تعترف بها الأمم المتحدة بسبب أنها منظمة "عنصرية" تقتصر عضويتها على العرق العربي دون غيره من الأعراق الإنسانية الأخرى. وهو ما لا تقره القوانين الدولية السائدة بعد الحرب العالمية الثانية ؛ .. وعلى ذات النسق فإنه لا يجوز تصنيف منظمة الدعوة الإسلامية سوى أنها "جمعية خيرية" ذات طابع محلي . تعمل داخل الأراضي السودانية تمتثل وتعمل وفق قانون الدولة (السودان) التي نشأت بها حتى لو كانت في حقيقتها جهة أجنبية (FREE VISA) تستأجر سجـلاّت وتصاريح وتراخيص سودانية.
وبما يجعل من هذه الدولة هي المسئولة عنها أمام المجتمع الدولي . وبالتالي فإن غطاء المسئولية المشار إليه هنا يبيح للدولة إلغاء ترخيصها ومصادرة ممتلكاتها ووقف أنشطتها بقرار أحادي منها متى ما اقتصت المصلحة ذلك.
ثم أن أكثر ما يفسر هذا الواقع أن السودان لم يتم تصنيفه دولة راعية للإرهاب إلا بسبب وجود هذه المنظمة الملعونة داخل أراضيه ومسجلة بإسمه . وحقيقة أنها تتلقى أموالاً مجهولة المصادر من أفراد وجماعات وتنظيمات ذات توجهات مشبوهة.
وعليه فلربما نستطيع القول هنا أن الحكومة الإنتقالية الماثلة ؛ وفي الوقت الذي لا تمتلك فيه حل "إتحاد الكرة السوداني" . إلا أنها تمتلك كل الحق في حل "منظمة الدعوة الإسلامية" التي ليس لها مرجعية دولية معترف بها . وإنما هي محض "جمعية خيرية" سودانية كما أسلفنا... ومن ثم فلا يمتلك القضاء السوداني أو غيره حق نظر إية دعاوى من هذه المنظمة تتعلق بوقف نشاطها ومصادرة أموالها وممتلكاتها ، طالما كان هذا القرار صادر من مصدر أو لجنة صادرة بمرسوم ومرجعية سيادية سودانية.
الحديث عن منظمة الدعوة الإسلامية متشابك ويطول . ولكننا كدأبنا في السودان يهمنا في المقام الأول تنظيف بلادنا الآن من أدران السوء التي خلفها نظام الإنقاذ الوهمي البائد . ولا يهمنا إلى أين تذهب هذه المنظمة التي إعترف تنظيم الأصولية العالمية من الدوحة في إمارة قطر صراحة بعد تفكيك السودان لخيامها وإقتلاع أوتادها بحقيقة تبنيه ورعايته لها .... فبعيدا عن أراضينا تصبح أخلاط جرائم هذه المنظمة ضمن مسئوليات العالم ... ولا يملك أحد الآن أن يسألنا عمّا تفعل.
ومن نافلة القول الإشارة هنا إلى أن إمانة وإدارات منظمة الدعوة الإسلامية لم تتفاجأ بقرار لجنة تفكيك التمكين . والدليل على ذلك أنها أخلت معظم مكاتبها منذ فترة ، واقتلعت كافة معداتها وتركيباتها وأجهزتها المكتبية ومعيناتها حتى مراوح السقف ومكيفات الهواء ومفاتيح مصابيح الإنارة . واجتهدت بما في وسعها وأكثر طوال أكثر من عام في تصفية ممتلكاتها وتهريب أموالها بالعملات الحُرّة عبر ثقب صالة كبار الشخصيات في مطار الخرطوم مثلها مثل غيرها من منظمات وشركات وشخصيات. . مستغلة في ذلك البطء واللخمة والبراءة وقلة الخبرة التي شهدتها تلك الفترة الرمادية من بداية عمر ثورة ديسمبر المجيدة... وقبل أن ييأس الكيزان من حكم السودان كما يئس الكفار من اصحاب القبور.
التعليقات (0)