أختام هجرية، صورة شعرية حديثة على متون نثرية قديمة
أسامة الشحماني
يكادُ يتفق مشتغلو النقد الأدبي العرب قدامى ومحدثون على كون الشعر هو مركز الثقافة العربية ومحور تشكلها، ومنهم من عدّه أصلها، على إن هذه المركزية لم تكن لتؤدي الى تطور في التنظير النقدي لخصوصيات وآفاق الشعريات العربية، أو الى إعادة قراءة الدراسات البلاغية العربية القديمة لدفع ما إضطلعت به من مناهج ومصطلحات نقدية الى أمام، بما يتسع لإستيعاب ما طرأ على النص الشعري من تغيّر في أشكال التعبير و طبائع البنى. ولعل سؤال الحداثة والتجديد في النص الشعري من أهم الأسئلة التي عانت من التعكز على أسس نظرية وأرضيات فلسفية ما كانت من نتاج العقل العربي، ولذا تفتقر المدونة النقدية العربية الى تأصيل واضح المعالم لمفهوم الحداثة، ولم يتأسس مفهوم نقدي لمصطلح الحداثة حتى بعد ظهور حركة الشعر الحر وما واكبها من حراك فكري، وهذا ما يمكن ملاحظته في أهم كتاب نقدي ظهر في تلك الحقبة الزمنية، نعني دراسة الشاعرة نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر) ، إذ تتجنب الشاعرة قصداً وعلى إختلاف تمفصلات كتابها الإشارة الى مصطلح الحداثة وتستعيض عنه بإصطلاحات أخرى من قبيل التجديد أو المعاصرة، و لكلٍ معنى. ولسنا هنا في وارد البحث المفصَّل في مسببات عزوف العقل النقدي العربي عن بحث مفهوم الحداثة، ولكننا نرجِّح أنّ إشتغال النقاد بقضية قصب السبق في ريادة التجديد (الشكلي) في الشعرية العربية غيَّبَ الإهتمام بالتأصيل النظري للتعامل مع هذا المفهوم، الذي مازال يرزح تحت طابع شمولي، وموقف فكري ضبابي متوتر، لا يكف عن تدمير العلاقة مع التراث بدعوى أفوله وضرورة البحث عن بدائله، ومن هنا أصبح مفهوم الحداثة في الكثير من التجارب الشعرية لا يعني أكثر من إنسلاخ الأنا عن أبعاد عالمها التراثي في محاولة لخلق وتثبيت هوية مختلفة، منقطعة عن الذاكرة التاريخية، ولا أحسب قارئاً يتصور أن حداثة الشعر الذي هو مركز الحضور الثقافي الإنساني يمكن أن تتجلى بالقفز على أهم مرجعيات التواصل في البنى والأنساق المفترض وجودها كمشتركات بين النص والمتلقي. الحداثة إستجابة حضارية وفعل حركي تتجاوز النصوص فيه تحديدات الزمن، و كم من عملٍ شعري يجوز وصفه بالحديث، فيما لو قورن بالكثير مما نشر باسم الحداثة، على الرغم من كون تلك الاعمال تعود لشعراء قدامى سبقوا ضجيج العديد من مدعي الحداثة الآن.
إن إرتباك المشهد النقدي العربي قاد تلقائياً الى بروز نصوص وأسماء كثيرة أصبحت محسوبة على الحداثة الشعرية، في حين أنها لم تأخذ من حمى الحداثة غير هذياناتها، وبقيت تدور حول فكرة مستهلكة إختزلت الحداثة بتكريس فوضى النص كشكل تعبيري عن فوضى الحياة، ولم تجهد نفسها إلا في صياغة نصوص حاولت الإستجابة لإشتراطات النظرية النقدية وما لها من إجرائية منهجية صارمة، أكثر من إستجابتها لحاجة النص الشعري الذي هو أقوى تأكيد عرفته أشكال الأدب لإستمرار ليونة اللغة وطرائها الفني. إن كل هذا الإضطراب حدث كنتيجة طبيعية لعدم وضوح المفاهيم عند غالبية كبيرة ممن إستلطف فكرة تداول الحداثة، فمنهم من عدها لهاثاً وراء ما يتوائم ومقاسات إسلوبية جاهزة نقلتها ترجمات ذات طابع تجاري فإعتقدوا أنها هي الحداثة ولم يعوا أنهم بهذا اللهاث أجهزوا على اللغة وخنقوا كلَّ ما فيها من مكامن شعرية. وقد برزت ظاهرة التضخم في النتاج الشعري (الحديث) بشكل لافت للنظر في بغداد، ولا عجب، بوصفها من أهم مدن العالم العربي وأكثرها وضوحاً في مسيرة تحديث الشعرية العربية إبتداءً من أبي نؤاس وليس إنتهاءً بالربع الأخير من القرن العشرين حيث تنامى دور الشاعر و موقفه مما تعاقب على الإنسان العراقي من تواريخ مؤلمة، وحيوات معطوبة. لقد تشكلت تجارب شعرية عراقية مهمة نذكر منها على وجه التحديد تجربة حداثة النخبة التي نهض بها ثلة من شعراء جيل الثمانينيات و التسعينيات، إذ تعاملوا مع الحداثة كاسلوب وموقف من الحياة وليس من الوزن والقافية، فكانت لهم ملامح شعرية ذات خصوصية لغوية لم تقع تحت تأثير سلطة التنظيرات الحداثية المتطرفة، تلك التي دعت للقطيعة مع التراث وبشرت بقيم ليست من نتاجها، وإنما كانت معنية بنبذ الجزء الخامل من التراث الشعري شكلاً ومضموناً، وخلق فعلٍ شعري يتنامى داخله دور الشاعر ليصبح شاهداً على ما يرى، ويعيش إسطورة وجوده وطبيعة وعيه بالأشياء متحرراً من القيود الثقافية والأقماط المعرفية أو القوالب والطقوس التي رافقت موجة الحداثة. ولذا يمكننا القول إن إشكالية المنظور النظري للحداثة لم تمنع الشعرية العراقية النخبوية من أن تقدم إبداعات خصيبة، فلم تكن معنية كثيراً بالجري وراء ذلك الهاجس النظري، وعلائقه بالمنظومات الفكرية الغربية كما ساد في المشهد الثقافي العربي، بقدر عنايتها بالتأسيس لنصوص تثبت إستقلالية العقل الشعري عن سلطة التجارب السابقة، وليس عن مجمل مرجعياتها الفكرية وخلفياتها النظرية، ولعل هذه هي إحدى أهم ميزات الحداثة الشعرية العراقية التي مثلها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي شعراء متحرِّرون من ثقل التبعية و الإنتماءات ، فكان لهم أسلوب شعري منفرد كرَّس الجانب الثوري والرؤيوي للحداثة ليحقق توافقاً وإنسجاماً في الإشكالية الأكثر جدلاً في هذه الموضوعة ، وهي ثنائية الماضي والحاضر.
من بين التجارب الشعرية التي مثَّلت الإتجاه النخبوي للحداثة تجربة الشاعر عبد الرحمن الماجدي، إذ وقعت في حقل التجارب الفردية ذات البعد الإنساني ـ بالمفهوم الأنطلوجي للمفردة ـ الواعي بموقف الأدب من متغيرات الحياة والبعيد عن الإنغلاق والتعمية، فقد جسّدت نصوصهُ كياناً شعرياً ذا أبعادٍ واقعية، و تميَّزت بتلقائية وعفوية في الإلتقاط المجازي للعالم، فضلاً عن كونها أدخلت الشعر للتعبير عما يتعذر التعبير عنه، وأسطرت اليومي المعاش لتكشف عن غرائبية العالم الذي يقع تحت وطأتهِ إنسانُ العصر الحديث:
حفرةٌ عجيبة ، يزدادُ عمقها
كلَّما هدأت معاولُ الشك.
في ديوانه (أختام هجرية) يشدُ الماجدي أوصال خطابه الشعري الى بؤر دلالية هدفها كشف كل أستار الحياة وعلاقة العقل بالمستور عنه، ويفصح عن صور درامية يتصاعد فيها إنفعالٌ يحملُ روح الجماعة، فضلا عن كونه يضاعف الوظيفة الإيقونية للَّغة، إبتداءً من عنوان الديوان (أختام هجرية) إذ يحيل المتلقي الى دلالة بصرية تذكره بجذور النشأة الأولى للغة كونها قبل كلِّ شيء وجوداً سيموطيقياً، وكأنه يطمح لأن ينزع عنها ماهيتها، ويكشف العنوان من جهة أخرى ما يظهر على النصوص من تنافذ مع مرجعيات رمزية وخلفيات سرديَّة غائبة، شكَّلت نصاً مؤجلاً أو باطاناً لا يرتهن إنفتاح دلالته أو إنغلاقها بتعدد قراءات المتلقي، وإنما بطبيعة تداخل دلالة النص بعلاقات و وقائع قرائية مترابطة، إسترجاعية/تاريخية/جمالية، تشد النص إلى عمق ذلك الباطن المغيَّب وقيمه التأويلية.
في النص حديقة الرحمن يمازج الماجدي بين الذوق الصوفي والنظرة العقلية عبر لغة إيحائية تضمرُ داخل أنسجتها بنية رمزية تقودنا الى نبش ما في ذاكرتنا من آثار خلفها الحلاج والجنيد والخيام وابن الفارض وان عربي وغيرهم، ممن برزت في خطابه رؤى وأفكار يشبه أسلوبها سردية الحلم، يقول:
أشارَ إلينا وفي الظلّ تسلّمَ نياشيننا ، عندما الآخرون نسوا عيونهم في مباخر ِ الأساقفة.
أشارَ إلينا .. وأطلعني على آيةٍ منه، على لحظة يقينه،
فتعرّفتُ على وريثه في بهو كلامه ،عندما الآخرون ألبسوه قميص الردة
وخاطوا فمَ يومه بالوشاية.
على حشائش تأويله ،نصبتُ شؤوني ، وسوّرتها بالفراغ
وأجلستُ براهيني على أرائك حكمته
مستدرجاً الحاذقين لعسل انتظاره.
أنا الشبيه
يا أحدَ عشرَ غائباً ، خذني لآجرّك، وطوّقني بالهائل من أسيافك
لأحصي هزائمي ، وأعيدُ بها ترتيبَ يومي.
قُدني لمأدبة شراكك ، لأستردّ طهارتي من دنس غيابك.
أدخلني حديقتك ،لأتذوّقَ طعمَ الغفلةِ في ضحكك.
يكشف النص السابق عن صورة شعرية منفلتة عن قيود المكان والزمان حيث يمكن للمتلقي أن يضعها أين ومتى يشاء، وقد أدّى تضافر العلاقة فيها بين محوري القول الشعري الأساسيين (الإختياري/الإستبدالي) إلى خلق إنسجام بين الرؤيا الصوفية التي حملتها الصورة، و بساطة وسهولة اللغة التي قدمت من خلالها، حيث أنبأت علاقة التجاور والتأليف في الحركة الدلالية المكررة لزمن الفعل الماضي ثمَّ الأمر عن مقصد النص ولازمته الرمزية عالية التردد، وهي أطوار وتجليات ذلك الفاعل/المُحدِث/المستور وكيف أخرج الفعل من الوجود الى العدم. أما على مستوى المحور العمودي الإستبدالي فكان المعنى الأساسي للنص فيه منحصراً بتمجيد القوى الغامضة للحياة، وما توميء إليه من علائق جدلية ودلالات مركبة من أبعاد تنقض بعضها: الجماعة/الأنا، الظاهر/المستور، المتناهي/المطلق. ومن الملاحظ أنَّ الضمير المعبر عن الجماعة (أشار إلينا) الذي يفتتح دلالة النص سرعان ما يختفي تاركاً لسلطة الأنا حريَّة الحركة التي تؤدي بها الى الإنصهار في المطلق (أنا الشبيه) ثمَّ الدخول بشبكة من جزئيات و غوامض خافية عن الوعي الجمعي، لتعبر عن إشارات تربطها وحدها بذلك المطلق/المستور، الذي شكَّل للنص بطانة دلالية غائبة منحت المعنى ثقلاً وقيمة شعرية، إذ جعلته ينبني على تحتيَّات وأسس كامنة جعلت اللغة في عملية تسامٍ أو تجاوز دائم للشيء المكتوب. وهناك تناص واضح مع خلفيات و بطائن لا تقودنا اللغة الى إستحضارها، وإنما الى مط مساحة تأويلها وجعلها أكثر رحابة لإستيعاب ما تؤديه إشاراتها وما عليها من حمولة رمزية، ترتعد فرائس المتصوفة و العارفين لمجرد سماعها أو المرور على خفاياها. ومما يميِّز النص كونه وعلى الرغم من حرصه على منح باطن لكل خارج، لم يكن مستغلقاً عصيَّاً على نقل الرؤيا الشعرية من حيز الغياب الى حيز الحضور، فوضوحه أنفذ من غموضه، ولاسيما على مستوى ميله الى معجم لغوي لا يشكل كياناً مطلوباً لذاته الإ بقدر التعبير عن الدهشة المتلاحقة بذلك الكامن الذي تضيق الرؤيا بالإخبارعنه.
تخترع نصوص الماجدي أنساقها التعبيرية و لغتها الشعرية بإحساس و وعي مقصود لذاته، فتنسج صوراً تداخل بين علاقات لغوية إسلوبية لها دلالات كامنة فيها أو فيما تتعالق به من مبانٍ، وأخرى مجازية تقتضي التأمل العميق وبالإعتماد على مخيلة المتلقي كأداة لإستغوار المعنى.في نصه الصدفة الى آخرها يستنطق الشاعر ذاكرة الحرب و قيمة اليأس الذي تزيا فيها بأزياء شتى، عبر أنا شعرية تستعين على تحمل تلك الوقائع بتحويلها الى أحداث شعرية تميل الى إستبطان السخرية و المفارقة لإحداث الصدمة الشعرية، و يتناص هذا المحكي مع حواريات وإسترسالات تكونها جزئيات مختلفة، إلا إنَّ النص ينجح في أن يوحِّد بين متنافراتها ويجمع بينها برابط دلالي ظاهر كرَّسه تكرار الأفعال ذات الزمن المستمر وما إشتملت عليه من بناءٍ صرفي (همزة التعدية) جعلها أكثر قوة لإستقطاب المعنى الى نقطة إرتكاز واحدة هدفها الكشف عما أصاب الإنسان تحت مظلة الحرب من مظاهر إستنزاف و إستلاب. يقول:
واقفاً، كساحرٍ تخونه الرقى، أستدرجُ الهواء بقوارير المنتظرين.
أفتضّ رسائلَ طازجة؛ كلماتها تصرخُ كدراويشَ يقيئون طريقتهم.
أقلّبُ ركام الوقت: ثمة مفازات منسية لاتصلحُ الا لدفن أحلامنا الميتة.
أقلّب: أمهاتنا آلهة حزينة تخلّتْ عن عروشها لعبيد صاروا آباءَنا.
أقلّبُ أيضاً: جندٌ مكومون على حلمٍ شتائي،
وسكك تتقاودُ لنهرٍ يزيديّ يحسبهُ العابرُ بصاق شيطان.
أقلّبُ..فأراني، فيما جيوشُ الأيامِ تركضُ،
صدفةً يشيخُ في حدائقها الوقتُ.
يترك في أنحائها الطيبون ثيابَ حدادهم ويغادرون لمدنٍ نائمةٍ.
فأرى مواعظهم مددةً على التلّ،
ناظراً لخرائب مدينتي؛
حيث أصدقائي يلّوحون بلا كلل، حافرين عيونهم وسطَ الاكفّ.
يبعثرون ندمهم ، ويندمون.. يرقبون الصدفة الى آخرها.
في مجموعة أختامه الهجرية سبعة نصوص تركها الماجدي من دون أن يتقدمها أي عنوان يذكر وكأنها تتوق لأن تتطابق تماماً مع إيقونة ذلك الختم الأسطوري الذي يحتفل به الديوان بدلالات موزعة بين الأرض/السماء، الحلم/اليقظة، الذة/الألم. من هذه النصوص:
ياصاحبي الغربة، أحدكما سيأكل رأس الآخر،
ولن يسقيه ربه شيئاً.
سأدعوكم لحفلةٍ تنكرية،
هل توافقون؟
لنخلع أقنعتنا إذا !
وهي كما رأينا نصوص قصيرة لايتجاوز مبناها جملة أو جملتين مكثفتين، إلا إنها تجعلنا ننجذب لما توميء إليه وكأنها مقولات لعرفانيين ومتصوفة كبار، لا يخفى تأثر الماجدي بهم على مستوى الرؤيا والبناء الشعري، إذ يشحن نصوصه بطاقات روحية تجعلها تنفتح على مساحة تأويلية واسعة، و يقدمها بلغة خالية من التعقيد تشبه ضربة واحدة بريشة ملونة يتفاوت النظر إليها بين الإلتماع الخاطف، والإضطراب والتلاشي المباغت.
للماجدي تجربة شعرية لم ينحصر تعاطيها مع مفهوم التجديد و الحداثة في إطار اللغة وفنية إختراع أنظمتها وبناها بأساليب ماهرة وحسب، وإنما بخلق فرقٍ مميز بين تعدد المعنى وتعدد طبقات المعنى في المفردة، فالجملة، ثمَّ النص. وقد شيَّدت مجموعته الشعرية أختام هجرية طرازاً تصويرياً تداخل فيه الطقس الروحاني العرفاني بنسيج التاريخ الإسطوري ليأسِّس لموقف شعري له كيانه وهويته الخاصة، التي بدى الماجدي حريصاً جداً على أن تكون مكافئة لما للأدب من رسائل لم تكن إشتراطات الحداثة لتسلبها مضامينها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الرحمن الماجدي شاعر عراقي ولد في بغداد العام 1965، درس الأدب الروسي وتخرج في جامعة بغداد العام 1989 . ترجمت أعماله الى الانكليزية والهولندية والفارسية. يقيم في هولندا ويعمل في مجال الصحافة العربية والعالمية.
أختام هجرية ، منشورات بابل، المركز الثقافي العربي السويسري، زيورخ ـ بغداد ، ط 1، 2007.
نشر في ملحق (ورق) الأسبوعي الصادر عن جريدة المدى البغدادية في 31 كانون الثاني 2010
التعليقات (0)