لم يشأ سارد رواية "كأنه نهار" لأحمد الشريف، بحكم عمله مرشدا سياحيا، أن يخوض تجربة المغامرة العاطفية مع إحدى السائحات اللواتي يأتين لزيارة مصر، وما أكثرهن، ولكنه فضَّل أن يغوص في مشاكل مجتمعه، وبيئته الصعيدية في الفيوم، والمهمشين على الأرض في تلك البقعة المصرية. ظننت في بداية قراءتي للصفحات الأولى من هذه الرواية القصيرة (70 صفحة) الصادرة عن مركز الحضارة بالقاهرة، أن السارد سيدخل في مغامرة مع كريستين التي أوصته بها صديقته فاتن (كريستين ليست ضمن الفوج رسميا. أوصتني بها صديقتي فاتن وقالت: إنها في زيارة لمصر لمدة أيام، وتريد أن تشاهد الأماكن التي لم تزرها مع زوجها المصري، أو الذي كان زوجها. هما على وشك الانفصال).
قلتُ إذن سنرى كيف عالج الكاتب الشاب أحمد الشريف مسألة العلاقة بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب، على نحو ما رأيناه في رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، أو "حياة على النيل" للكاتبة الإنجليزية جانيس إليوت، على اعتبار أن الأحداث تدور في مصر، وليس هناك في الشمال أو في الغرب، أو في أية دولة أوربية، وقلت هي فرصة إذن للمقارنة أو الموازنة، بين تفكير ورؤية جيلين، جيل يوسف إدريس، وجيل الشباب من أمثال أحمد الشريف.
ولكن لم يحدث ما توقعته أو ظننته، إذ سرعان ما غير الكاتب دفة روايته، لتصبح تنويعة على المشاكل الداخلية والاجتماعية التي يعاني منها السارد، أو بطل الرواية، مع العودة أحيانا إلى كريستين وصديقتها المصرية، ليثور التساؤل التالي: هل كان جيل يوسف إدريس منبهرا بالغرب، وفتياته ونسائه (رمزيا) بينما انتفى هذا الانبهار لدى الجيل الجديد، وبالتالي لم نجد الكاتب حريصا على إبراز علاقة قوية بين إحدى السائحات الأجنبيات وأحد شخوص روايته، بما فيها المرشد السياحي رجب الذي تُعجب به وبسمرته السائحات، وهو لا يعيرنهن أدنى اهتمام.
يقول السارد ـ بعد زيارة لبحيرة قارون ـ (ص 7) : سألني رجب بعد صمته الطويل الذي أعقب صورته مع كريستين، يبدو أنها أعجبت به وبسمرته:
ـ بيقولوا المكان زي الجنة.
ـ يعني شافوا الجنة قبل كده؟
حاولت أن أشاكسه: إيه رأيك لو تتجوز واحدة منهم.
ـ لا طبعا.
سألته عن سبب رفضه القاطع: عريانين وجسمهم كله شايفه، ومش حاسس بحاجة، مفيش أحسن من نسوان بلدنا.
هل هي رؤية انتقادية لنساء الغرب، وسلوكياتهن، أم هو اعتصام ـ بشكل ما ـ من الفتنة، أم وجهة النظر الأخرى أو المغايرة لما ساد في أعمال بعض أدبائنا في الأجيال السابقة، خاصة من ذهب منهم إلى هناك سواء للتعليم أو الزيارة والسياحة أو العمل، فانبهر بالغرب ونسائه، وودَّ لو لم يعد ثانية إلى مصر؟ وهو أيضا ما عبر عنه كاتب السيناريو محمد جلال عبد القوي في مسلسله الرمضاني "المرسى والبحار" حيث يهرب الشاب فارس العربي كريم (حفيد الزعيم محمد كريم) إلى فرنسا ليلتقي بفتاته الفرنسية التي أحبها وبادلته الحب في مصر، وعندما يصل إليها في بلدتها، يقف أبوها في وجه هذه العلاقة غير المتكافئة، ثم يتغرب فارس تائها في بلاد الله.
بعد ذلك ينكفئ سارد رواية "كأنه نهار" على داخله ومجتمعه، ويبدأ في الظهور المجتمع المصري ومشاكله، وأمراضه (عند المغيب جاء حربي، وبدأوا في لعب الكوتشينة، ولف سجائر الحشيش، وشرب العرقي) والحديث عن الجنس الحلال والحرام.
ومع تصاعد الانكفاء، يظهر تيار الوعي، ليحتل مكانا بارزا في الرواية بعد ذلك، سواء على لسان السارد، أو شخصيات أخرى في الرواية (هذه البلدة رغم أنها تبدو هادئة، مسالمة، إلا أنها تفور وتغلي بالأحقاد والضغائن، آباء يقتلون أبناء، أبناء لا يهتمون بمشاعر الآباء).
وتظل العلاقة مع الآخر غير واضحة المعالم، إلى أن يغلق مكتب السياحة الذي يعمل فيه السارد، ويلتقي بإحدى زميلاته أيام الجامعة التي لا ترحب بحديث السارد عن الأجداد الرائعين، وتريد أن تعيش لحظتها (خلينا مع الحلوين أحسن).
ويتساءل السارد: هل أستطيع أن أسقط عشرين أو ثلاثين سنة من الانكسارات والكبوات والأيام المترعة بالكوابيس وفشل الأب وخيبته وديونه وغلق المكتب وجحود الأهل وأنانية الأصدقاء وحسدهم وغيرتهم والظروف غير المواتية.
ووسط دوامة الأحزان والمعاناة، لا يرد ذكر الآخر الغربي أو إحدى فتياته اللواتي قابلهن السارد أثناء عمله بمكتب السياحة، الأمر الذي يدل على أن مسألة الحوار معه غير واردة على الإطلاق في ثنايا التفكير.
ويطرح السؤال التالي نفسه: هل انشغالنا بهمومنا على هذا النحو الذي رأينا السارد عليه، يبعدنا عن رؤية الآخر، والحوار معه، بل رفض التعامل معه كما لاحظنا على رجب.
وبالتالي هل يعد هذا تطويرا أم انتكاسة للعلاقة والحوار، الذي بدأ روائيا وإبداعيا منذ ابتعاث رفاعة الطهطاوي وزملائه إلى فرنسا عام 1826، ومرورا بما كتبه توفيق الحكيم أثناء دراسته في السوربون 1924 ـ 1928 مثل عصفور من الشرق، وغيرها، وما كتبه د. طه حسين مثل أديب وغيرها، وسهيل أدريس مثل الحي اللاتيني، والطيب صالح مثل موسم الهجرة إلى الشمال، وغيرهم؟.
أرى أن المشاكل والهزائم الداخلية التي يتعرض لها سارد رواية "كأنه نهار" وتعريته للواقع المصري في المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية، قد حال دون الإجابة الحاسمة على هذا السؤال المطروح، كما أن عنوان الرواية نفسه لا يسهم في إعطاء إجابة قاطعة، وهو عنوان يصلح لديوان شعر، أكثر من صلاحيته لرواية تحاول أن تحمل قضايا المجتمع وهمومه، بعيدا عن طرح العلاقة مع الآخر.
ونختتم هذه المداخلة بالسؤال التالي: هل نحن أمام عمل مفكك روائيا، أم أمام عمل يحمل طبيعته الخاصة، وظروف نشأته، ويحمل شظاياه الإبداعية التي ينجح الكاتب في سكبها على الورق، وإعادة تضفيرها تحت ضوء النهار؟
التعليقات (0)