حسن توفيق.. آخر مجانين العرب!!
بقلم الدكتور أحمد أبو مطر
يا إلهي كيف تمرّ بنا سنوات العمر من شقاء إلى قسوة، من غربة إلى منفى، ومن عاقل إلى مجنون. من يصدّق أن تستمر علاقة حميمة صادقة نقية بمجنون إلى ما يقارب الخمسين عاما، وتستمر أنت في التلهف على لقائه وهو يزداد عشقا وولها بالكلمة وجنونا بالكتاب والكتابة التي حفر له فيها اسما يتألق شعرا ونثرا وبحثا وتحقيقا. لم أكن أحلم أنا الشاب القادم من مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين عام 1961 للالتحاق بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، أن التقي بشاب من عمري وربما نفس عام الولادة 1944 في حرم جامعة القاهرة العريقة، ليكون صديقي العربي المجنون الذي اسمه منذ سنوات عديدة ليس علم من نار بقدر ما هو نار أحرقت كل الصعوبات التي عشناها ليصبح هذا الاسم، الشاعر والباحث والكاتب المصري حسن توفيق الذي اشتهر في السنوات الأخيرة عبر كتابات معينة بصفة"مجنون العرب"، رغم أنني الوحيد المطلع على هذا الجنون منذ بداية لقائنا في جامعة القاهرة. أنا لا أصدق وربما المجنون ذاته أننا تتلمذنا ودرسنا تحت إشراف ورعاية عباقرة ذلك الزمن المصري النقي الرائع. أنا القادم من مخيم رفح وحسن توفيق القادم لا أدري من أية قرية أومدينة أوضيعة أوحارة مصرية، نجلس معا لنستمع ونصغي لعباقرة مصر وروادها أمثال المرحومين الدكاترة والأساتذة: سهير القلماوي، شوقي ضيف،عبد المحسن طه بدر،يوسف خليف،شكري عياد، علي الراعي،عبد المنعم تليمة، محمد زكي العشماوي وآخرون لن يتكرر كثيرا ظهور نفس العبقرية والتألق في مصر وغيرها من أقطار عربية. وفي نفس الوقت نسير ونشرب ونأكل مع شاعر (لا تصالح ولو منحوك الذهب) أمل دنقل، ونلتقي شعراء وصعاليك ذلك العصر أمثال سفير الفقراء والمحرومين أحمد فؤاد نجم الشاعر البندقية (هما مين واحنا مين، هما الأمراء والسلاطين، هما المال والحكام، واحنا الفقرا المحرومين) في مقهى ريش ومطعم فلفلة بميدان طلعت حرب في وسط القاهرة.
وتستمر علاقة المجنون والجنون
استمرت علاقتنا نصعد من عام جامعي إلى آخر وسط حياة مصاعب لبعضنا أقرب للشقاء خاصة بالنسبة لنا القادمون من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في القطاع، وسلاحنا هو وصية الآباء والأجداد (سلاح الفلسطيني شهادته). وتخرجنا معا نحمل درجة الليسانس في الأداب من قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة في مايو من عام 1965 و أكملنا معا الدراسات العليا، وكان قد سبقنا في إصدار أول دوواينه الشعرية (الدم في الحدائق) عام 1969، وكنا عندما نريد التشاقي معه نسأله (حسن إيه أخبار الدم في الجناين ؟). واستمر بعده في إصداراته العديدة حيث اشتهر من هذه الأعمال دراسته النقدية (اتجاهات الشعر الحر، 1970) و (تحقيق الأعمال الشعرية الكاملة للدكتور ابراهيم ناجي)وقد صدرت طبعتها الأولى عن المجلس الأعلى للثقافة عام 1996.
شعراء جبناء ونساء لهن عضلات
هذا العمل الصادر عام 2009 عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، هو آخر اصدارات المجنون الذي اكتسب هذه الصفة بسبب كتابين له حاول فيهما إحياء فن المقامة العربي، وهما (مجنون بين رعد الغضب وليالي الطرب) و (ليلة القبض على مجنون العرب)، وسأعرض لهما في مقالة قادمة. أما عمله الجديد عن الشعراء الجبناء والنساء ذوات العضلات، فهو يستحق الوقوف عنده لأنه يرصد ظواهر نقدية وأدبية معاشة في حالة الشعر العربي، ولكنه ينتبه لها من زوايا جديدة بإسلوب بسيط ممتع يقترب حينا من السخرية وحينا آخر من النقد اللاذع عبر المفارقات التي ترصدها مقارناته بين شعراء وأشعارهم رغم اختلاف الزمان والمكان، من زاوية ربما عرفت في بعض المصادر ب " السرقات الأدبية " وتعرض لها العديد من الشعراء القدامى والمحدثين، عندما تتشابه ظروف القصائد وأجواؤها النفسية وأحيانا كلماتها، فتدخل عند بعض النقاد والباحثين في باب " السرقة والسطو " وغالبا من اللاحق للسابق بحجة أن هذا هو من سبق لهذه المفردات والتعبيرات ورسم تلك الأجواء، بينما يفسرها مجنون العرب حسن توفيق، بأن الأمر في حقيقته عائد إلى " أنّ طبيعة حياة الشاعرين هي التي جعلت تجربة الشاعر الثاني تبدو تكرارا لتجربة الأول". ومن هذا المنطلق يتتبع المجنون عدة حالات عربية ابداعية ثار حولها الجدل النقدي من منظور السابق واللاحق في التجربة ذاتها، وبإسلوبه النقدي الساخر القريب من سيناريو لمشاهد سينمائية أو مسرحية يتتبع عدة حالات أو ظواهر منها:
حالة الشاعر إمرىء القيس السابق ولاحقه الشاعر عمر بن أبي ربيعة
المجنون هنا يكتب فعلا سيناريو مشهد مسرحي خفيف الظل وطريف الكلمات، حيث محاكمة جدّية لعمر بن أبي ربيعة بعد إخراجه من قبره والتأكد عبر تحليل الحامض النووي (حسب إدعاء المجنون) أنه هو بن ربيعة شخصيا، ولن أفصّل مشاهد المحاكمة المتخيلة كي لا أفسد متعة القارىء المتشوق لقراءة الكتاب، فقط من واجبي الأخلاقي أن أنبه القارىء أن لا يقرأ بعض الصفحات بصوت عال على مسامع من هم دون سن السادسة عشرة لأن في الأمر:
فحييت إذ فاجأتها فتولهت وكادت بمخفوض التحية تجهر
وقالت وعضّت بالبنان:فضحتني وأنت إمرؤ ميسور أمرك أعسر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
.................
فبت قربر العين أعطيت حاجتي اقبل فاها في الخلاء فأكثر
فيالك من ليل تقاصر طوله وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويستمر سيناريو المحاكمة المشوق متداخلا مع الشاعر أحمد شوقي وإمرىء القيس ونزار قباني وولادة بنت المستكفي وجميل بثينة الذي كان قد أدخل نوعا من القتلى لقائمة الشهداء، ولا أدري لماذا لم تصدر فتوى في ذلك الزمان بتكفيره:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
لتطلّ علينا من جانب من جانب المسرح صاحبة الشهداء الحقيقيين الشاعرة الخنساء التي استشهد شقيقها صخر أولا ثم أولادها الأربعة في معركة القادسية، وظلت دموعها تذرف شعرا إلا أن أصبحت أشهر شاعرة رثاء في الشعر العربي. وينتهي هذا السيناريو باطلالات لمظفر النواب وحافظ ابراهيم ومحمد مهدي الجواهري مستغرقا أول أربعين صفحة من الكتاب. إنه سيناريو رائع إن انتبه له بعض المخرجين المسرحيين سيجد أمامه مادة دسمة مشوقة تصلح فعلا لمشاهد مسرحية، تستعيد لقطات من التراث متداخلة مع صفحات من الحاضر العربي، لا تخلو من رسالة سياسية صامتة لكنها مفهومة.
وإبراهيم طوقان أيضا،
له حضوره في تخيلات مجنون العرب منذ أن كان طالبا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكم كان ذو دلالة اليوم تحديدا أن يذكرنا بما قاله إبراهيم طوقان قبل ما يزيد عن ستين عاما، وكأنه يتنبأ بواقع وحال الفصائل الفلسطينية اليوم خاصة بعد حرب حماس وفتح المستمرة:
وبيان منكم يعادل جيشا
بمعدات زحفه الحربية
واجتماع منكم يرد علينا
غابر المجد من فتوح أمية
............
لم تزل في نفوسنا أمنية
في يدينا بقية من البلاد
فاستريجوا كي لا تطير البقية
فهل يعلم ابراهيم طوقان في قبره أن التحرير من النهر إلى البحر، أصبح مجرد طلب أو تمني أمتار من القطاع والضفة فقط، وأن قتلى حروب فتح وحماس لا تقل عن قتلى جيش الاحتلال، وكذلك أحمد شوقي هل يدري في قبره أن خلافات الأحزاب المصرية اليوم لا تقل ولا تختلف عن خلافات هذه الأحزاب في زمنه عام 1924.
ويستمر المجنون في رصد لقطات مهمة من حياة الشعراء العرب في هذا الكتاب الجدير بالقراءة والاهتمام، إذ أضفى أسلوبه المشوق البسيط (السهل الممتنع) على الكتاب ميزة تجعله محط إهتمام غير المتخصصين في الأدب والشعر.
مجنون العرب هذا (حسن توفيق) عمل مديرا للقسم الثقافي في جريدة الراية القطرية ثلاثين عاما فقط، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1990، و جائزة مؤسسة عبد العزيز البابطين عن أفضل قصيدة عام 1991.
الخلاف الوحيد بيني وبين هذا المجنون أنه (مجنون بصدّام) وأنا (مجنون من صدّام)، وأشكر قدرتنا على الحوار والنقاش وتفهم رأي الآخر بدليل أنه لم يحدث بيننا (صدام)، ولم تتدخل قوات التحالف الدولي لفض أي اشتباك بيننا أو تحرير بعضنا من احتلال الآخر، وما زلنا نلتقي ونتناقش ونستعيد ذكرى أيام رائعة، وفي النهاية أقول لهذا المجنون:
عليك مني سلام الله ما بقيت صبابة منك نخفيها فتخفينا
ahmad.164@live.com
كتب الدكتور أحمد أبو مطر هذا المقال في جريدة إيلاف - عدد الأحد 14 مارس 2010 - وقد أحببت أن أقدمه هنا ضمن مدونة مجنون العرب لا لأنه مقال أسعدني وإنما لأنه يقدم نموذجا للصداقات الجميلة وما أندرها في هذا الزمن !
التعليقات (0)