ماذا نتذكر منك أيها اليوم الحزين..
أنتذكر الغدر؟؟
أم نتذكر الرخص؟؟
أم نتذكر التنكر لمن له علينا فضل؟؟
أم نتذكر الأحلام التي وأدتها غدارات البور سعيد التي لم تكن أقل غدرا ممن حملها في ذلك اليوم المشؤوم؟؟
أنتذكر الحرية التي فقدناها؟؟
أم نتذكر المساواة التي ضاعت؟؟
أم ربما نتذكر الوطنية التي وأدتها المؤامرة؟؟
أم قوافل الضحايا التي لم تنقطع منذ صبيحة ذلك اليوم المشؤوم؟؟
لو عاد الأمر لي لحذفتك من التقويم..
فما حاجتنا الى يوم يحمل كل هذه المعاني..
ما حاجتنا الى يوم قتل فيه أول عراقي (بالأصل) يحكم العراق منذ 539 ق.م ؟؟
قل لي بربك ماذا نتذكر منك أيها الثامن من شباط؟؟
أنت اليوم الذي رفت فيه بيارق العصبية الطائفية والعنصرية والقومية على أرض العراق..
في هذا اليوم المشؤوم نجح أعداء الوطن العراقي بأغتيال الجمهورية العراقية الفتية والزعيم عبد الكريم قاسم ليدخل العراق بعدها في متاهات القمع والأضطهاد والأعدامات العشوائية ولترف رايات الظلاميين والرجعيين السوداء على العراق بعد أن ظن العراقيون أنهم تخلصوا منها الى الأبد.
لم يكن مجرد أنقلاب عسكري يطيح بحكومة..لقد كان تحالفا مرعبا أطاح بأحلام وأمنيات شعب بأكمله..
يوم تجسدت فيه مقولة "أتق شر من أحسنت أليه" بأبشع صورة..
لم يكن عبد الكريم قاسم هدف الأنقلابيين كما لم تكن الثورة أيضا الهدف...لقد كان هدف هذا الأنقلاب المشؤوم الأطاحة بالمفهوم الوطني وبالعراق كوطن بدء في السير بخطى واعدة الذي بدأت تلك الثورة ترسخه في العراق..
فمن المشاريع الضخمة آنذاك الى الأصلاح الزراعي وصولا الى التشريعات المتطورة (والتي لازلنا الى اليوم نطمح أن نصل لها) أصبحت الجمهورية خطرا على الآخرين..
فبناء الهوية الوطنية العراقية سيخسر القوميين العرب والكرد شعبيتهم..وتطور المجتمع وتحرره وتحرر المرأة فيه سيضرب رجال الدين ومن يواليهم بعنف كما سيهز أركان القبلية التي كانت تسيطر على الريف في العراق والتي هزها من قبل قانون الأصلاح الزراعي الذي أعتق الفلاحين من الأقطاع..وبالمحصلة فأن وجود بلد بأمكانات أقتصادية وبشرية ضخمة وبتعددية حزبية ودستور دائم ونظام جمهوري سيكون خطرا على مشروع عبد الناصر "للوحدة" كما سيكون خطرا على الأنظمة الوراثية التي تحيط بالعراق.
أخذت الشباك تنسج من أجل قتل الثورة..وتعددت الأوكار فمن السفارة المصرية الى بيوت الأعظمية وأزقة النجف وصولا الى كردستان أخذ المتآمرون بالتوحد..وعجبا تجمع في تلك المؤامرة الأضداد من شتى الصنوف فالأسلاميين الشيعة أتحدوا مع السلامين السنة والقوميين الكرد أتحدوا مع ألد خصومهم القوميين العرب والبعثيين كما أتحد في هذا الحلف الودويون الناصريون مع خصومهم السعوديون(رغم أنهم يخوضون حروبا فيما بينهم في اليمن ومصر) كل هؤلاء جمعهم شئ واحد..العداء لما يجري في العراق...
وفي ذلك اليوم المشؤوم نجحوا...
قتلوا الزعيم ولم يشاؤوا أن يبقوا له ذكرا فتخلصوا من جثته..ونسوا أن الناس لايحتاجون قبرا لعبد الكريم فهو حي في قلوب محبيه..وحي في قلوب من خلصهم من جور الأقطاع وحي في قلوب الفقراء الذين نادرا ما أحبوا رجل سلطة..
لم يعلموا أنهم من أجل أن يمحوا ذكراه كان لابد أن يعيدوا الأقطاع ويدمروا مدينة الطب وملعب الشعب وميناء أم قصر والميناء العميق ومدينة الثورة التي أنشأها ولم يطلق عليها أسمه بل أطلقت عليها من بعده أسماء من جلبوا عليها الكوارث(صدام والصدر).
حاولوا تشويه صورته فلم يجدوا رغم ضخامة ماكنتهم الأعلامية (التي جعلت من هزيمة حزيران نصرا ببطولات أحمد سعيد وأمثاله) مايسيؤون به للرجل..فلم يكن له سوى حساب مصرفي واحد في بنك الرافدين يضم دينارا واحدا ومائتي فلس حسب شهادة حسن العلوي الذي كان من أبواق البعث حينها..لم تكن له حسابات في بنوك سويسرا ولم تكن لديه أستثمارات خاصة...لم يكن يملك حتى مسكنا يعيش فيه ولم يبن لنفسه قصورا وهو من أوجد المساكن للفقراء..كان ينام في حجرة في وزارة الدفاع على سرير عسكري لايختلف عن أسرة الضباط في المعسكرات وأحيانا كان يفترش الأرض حين يأتيه ضيف.فيما كان يرسل سائقه الى بيت أخيه ليجلب له الطعام في قدر يسمى محليا "صفر طاس" كأي كاسب لايترك عمله في الظهيرة.
كل ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة التي صادرها الانقلاب كانت سريرا في المنزل وخزانة كتب وجعبة عصي عسكرية ومشجب ملابس.كما لم تنعم أسرته بالثراء ولم تستفد من كونه رئيسا للدولة.
لم يجدوا ما يعيبوه عليه الا ألأدعاء بخذلانه للقضية العربية..ولا ادري ما قدموا لها..
أتهموه بالتخاذل والتردد فيما لم تؤد رعونتهم الا الى صب الكوارث على الشعوب من نكسات عبدالناصر حتى هزائم صدام..
قد يظننا البعض نبالغ بتأثرنا..فقد لايرون في هذا اليوم الا يوم تغير فيه النظام...
لقد عدنا بسبب هذا اليوم قروننا الى الوراء..
فالأصلاح الزراعي لم يستكمل بل أجتثت الزراعة فيما بعد..
ومشروع الدستور الدائم قتلته رصاصات الأنقلابيين..
وقانون الأحوال الشخصية الذي ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات قد أغتيل أيضا..
وقبل هذا وذاك..فأن مشروع الوطنية العراقية عانى ولازال يعاني من تركة الثامن من شباط..
في هذا اليوم خسرنا جميعا..لقد خسرنا الثورة ومشروع النهضة وخسرنا عبدالكريم..
خسره الشيعة كما خسره السنة والكرد
أحبه المسيحيين كما أحبه الصابئة والأيزيديين
أحبته النساء كما أحبه الرجال..كيف لا وهو من آمن بحقوقهن وجعل منهن أول وزيرة في بلاد العرب كلها (السيدة نزيهة الدليمي)..
أحبه حتى خصومه (المحترمون منهم) الذين كانوا يكتبون القصائد في هجاءه وكانت قصائدهم تدرس في مناهج المدارس..
لم يكرهه الا من أرعبتهم الجمهورية..
لقد كان كريما ولم يكونوا الا لئاما..
حاولوا قتله وتآمروا عليه فعفا عنهم بعد أن أصدر القضاة أحكاما بأعدامهم..وبدلا من أن يستقيموا ويردوا الدين الذي عليهم تآمروا من جديد..
فنسي عبد السلام عارف أنه عاش فقط لأن الزعيم عفا عنه..
ونسي محسن الحكيم من كان يزوره عند مرضه..
نسي مصطفى البرزاني من أستقبله عندما عاد من المنفى..
نسي أهل المساجد والمنابر التي هللت للأنقلاب أنهم كانوا يشتمون الثورة في كل حين ولم يحاسبهم أحد لأن حرية الرأي مكفولة..
لقد نسوا كل هذا يوم أغتالوه من دون محاكمة..
نسوا ولكن التاريخ لن ينسى رغم كثرة الأقلام التي تزيف الحقائق..
لقد حفظه التاريخ رمزا للنزاهة والوطنية يترحم عليه اليوم كثير ممن تآمروا بالأمس ضده بعد أن أذاق بعضهم البعض البعض الآخر المر والعذاب...
لازالت نزاهته وعفة يده الى اليوم مثلا يناشد العراقيين قادتهم أن يقتدوا به..
فلازالوا يتذكرون أنه كان يسير بينهم من دون مرافقين ولاسيارات مصفحة..
كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثل باقي الناس..
فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم أستشهد ويوم يبعث حيا...
ملاحظة:كلمة الزعيم الواردة في مواضع عديدة أعلاه لاتعني الزعامة السياسية بل تشير الى رتبة الشهيد عبدالكريم قاسم العسكرية والتي غيرت تسميتها بعد الأنقلاب لتصبح عميد.
التعليقات (0)