أحلام ملونة
قصة قصيرة كتبها:
خليل إبراهيم الفزيع
عندما فكر في إقامة معرضه التشكيلي الأول.. لم تغب عن ذهنه احتمالات نجاحه أو فشله.. لكنه بعد هذه التجارب التي امتدت إلى ما يقرب من عشر سنوات من المشاركة في المعارض التشكيلية الجماعية، وبعد النقد المنصف وغير المنصف الذي قرأه عن أعماله التشكيلية في الصحف والمجلات.. وبعد اللقاء التلفزيوني الذي استضافه فيه مذيع لا يفقه في الفن التشكيلي إلا بقدر ما يفقه في اللغة الهيروغليفية.. بعد ذلك كله.. قرر تنفيذ هذه الفكرة التي طالما داعبت خياله، وتمنى أن ترى النور في أقرب وقت، بعد أن سمع عن بيع بعض اللوحات لزملائه الرسامين بمبالغ كبيرة، فإن استطاع بيع بعض لوحاته سيتمكن حتما من الخروج من أسر أزمته المادية، التي تلازمه باستمرار، وكأن بينه وبين النقود عداءً مستحكما.. خاصة بعد أن فقد ثلث راتبه تقريبا عندما أحيل لسبب لا يعرفه من مدرس للتربية الفنية إلى إداري، لا يحظى ببدل التدريس الذي يناله المدرسون، ومع ذلك فإن راتبه يمكن أن يكفيه لو عرف شيئا اسمه الترشيد.. وبسبب إسرافه.. تحولت شقته إلى متحف عصري صغير.. أحاله إلى خانة الإفلاس المزمن.
أعد للأمر عدته، واستدان من بعض زملائه مبلغا لاستئجار صالة عرض كبيرة لمدة ثلاثة أيام، يمكن أن تستوعب كل ما لديه من أعمال، وزيّنها ببعض الديكورات التي زادت من تكلفة الإيجار.. توقع أن يتم خلال الأيام الثلاثة حجز جميع اللوحات وبأسعار مناسبة، تغطي تكاليف الصالة وتسهم في الوصول بحالته المادية إلى الانفراج الذي يتوخاه من إقامة المعرض.. رغم التحذيرات بأن لا يوغل كثيرا في الخيال، والتي أبداها بعض زملائه في المدرسة الإعدادية، ممن يتهمونه دوما بالغموض، ولا يترددون في التعبير عن السخرية من بعض أعماله، وهو الذي يحاول دوما أن يقنعهم بأن المهم ليس الرسم ذاته بل هي الألوان وتعبيرها عن المشاعر، وأن كل لون يعبر عن إحسـاس معين، وهـي جميعهـا تتواءم عـند امتزاجهـا أو تجـاورها لتعطي ذلك الانطـباع المستفز، فتظهر اللوحة كقصيدة جميلة.. تتدفق بفعل سحرها المباح العواطف، أو معزوفة تلامس أوتار الشجن.. تشيع السرور بين المستمعين، وتعطر الأجواء بشجي الأنغام.. هذا الكلام لم يجد منهم آذانا صاغية.. وبقدر ما يتهمونه بالغموض كان يتهمهم بالجهل، وعدم الإطلاع على مدارس الفن الحديث، فلا يلبثون أن ينصرفوا عنه.
هكذا يفهم الفن حتى وإن أوغل في سرياليته، وابتعد عن مقاربة الواقع، بل أنه يرى في هذه المقاربة امتهانا للفن، وامتهانا للواقع في الوقت نفسه، لذلك تفرد بين أقرانه في جمعية الفنون الحديثة بأن رفع لواء الغموض، مكتفيا بخيال وثقافة المشاهد ليصل إلى عوالم أخرى ليس من المحتم أن تتطابق مع رؤيته الشخصية، وكم يكون سعيدا وهو يستمع إلى تلميح أحد المشاهدين بمعان عن بعض لوحاته لم تخطر له على بال.. كان دائم القول إنه يرسم لا ليفهم المشاهد، ولكن ليتخيل ويفكر ويفسر كمـا تملـيه علـيه ذائقته، وكمـا توحي به ثقافته.. ولم يكن في سرده لمزايا الفن الحديث يتحدث بلغة مفهومة، بل هي اشد غموضا من لوحاته، هذه هي حـاله كلما دخـل في نقـاش حـول فـنه، وعندما يطلب منه أحدهم شرحا حول لوحة معينة يسارع إلى القول:
ـ هـذه مهمـتك.. لتكـن لك مشـاركة في هـذا العمل برؤية جديدة، دع ما أعنيه، وأدرك ما تعنيه هذه اللوحـة بالنسبة لك وحدك.. فأنت الحكم في هـذا الأمر.
لم يكن جوابه يلقى قبولا.
أكمل استعداده لإقامة معرضه الشخصي الأول، ودعا أحد كبار المسئولين لافتتاحه بهدف الحصول على تغطية إعلامية مناسبة.. في يوم الافتتاح أخذ أهبته لهذه المناسبة مبكرا، بعد أن تهندم ليظهر بأحلى صورة وأجمل شكل، استعدادا لملاقاة المسئول الكبير الذي سيفتتح العرض.
المساء يرفل بألوان البهجة، وقد اكتست المدينة حلة زاهية الألوان، وبدت في زينتها المفرطة عروسا في ليلة زفافها.. كل شيء يبعث على الراحة، لولا زعيق أبواق السيارات التي طالما أزعجته وأقضت مضجعه، فهو يميل إلى الهدوء، ويعتبر استعمال هذه الأبواق ظاهرة غير حضارية.. بوابة المعرض تزينها الإضاءة الحـادة بألوانهـا المختلفـة.. وتشـكيلاتها البديعـة، حتى بدت كلوحة جدارية تضفي على المعرض بهجة غـامـرة.
كان بكامل زينته ينتظر ذلك المسئول عند بوابة المعرض، وهو على أحر من الجمر.. وعلامات الفرح تقفز من عينيه، والبشر يملأ وجهه.. بانتظار اللحظة الحاسمة التي ستنقله إلى وضع حياتي أفضل، فهذا المسئول سيصحبه عدد من علية القوم، ورجال الأعمال، وسيقبلون على شراء بعض لوحاته، لا حبا في الفن ولكن مجاملة لذلك المسئول الذي ربما استهوته بعض اللوحات فاشتراها بسعر تشجيعي، وربما أغدق عليه شيئا مما تعود بذله في مثل هذه المناسبات.. وقد يتكفل بدفع كافة تكاليف استئجار المعرض.
كانت ملاحظاته وتوجيهاته تتوالى على العاملين في صالة العرض، ليمسي المعرض على أعلى مستوى من الإبهار ولفت الأنظار.. وقد أعد لهذا الاستقبال "دلة" مذهبة مليئة بالقهوة المبهرة بالهيل والزعفران، تصحبها سلة من أجود أنواع التمور المحشوة بالمكسرات، كما وضع المقص المعد لقص شريط الافتتاح في صينية فضية لامعة، مزخرفة بأشرطة حريرية ملونة.
كان على أهبة الاستعداد لاستقبال المسئول الكبير، عندما رن هاتفه المحمول.. حدثه شخص لم يتعرف على صوته، فلما سأله عن اسمه قال متذمرا وكأنه في عجلة من أمره، وقد قرأ في صوته نبرة العنجهية التي تجتاح صغار التابعين:
ـ اسمع.. كلفني عمي أن أقول لك أنه لن يحضر لافتتاح معرضك، لأنه سيحضر سباق الهجن.. وهو لا يعلم متى سينتهي السباق.
أنهى المكالمة.. تركه في ذهول كبير مربك، كما ترك في قلبه غصة بحجم الكون.. تلفت حوله.. لم ير أحدا.. حتى الإعلاميين لم يحضر منهم أحد.. لا شك أنهم علموا باتجاه ذلك المسئول فذهبوا إلى حيث ذهب، وذهب معهم علية القوم، ورجال الأعمال.. كما ذهبت معهم أحلامه الملونة.
التعليقات (0)