الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
اختار الله لنا الإسلام لإصلاح ما أفسد الخلق، وتغيير ما قبُح فيهم إلى الحسن، فكان الناس محور الدعوة إليه، يرعى مصالحهم، يجلب لهم المنافع ويدفع عنهم المفاسد، فهي شاملة لكل مناحي الحياة ومنها الجانب الاجتماعي، لينشر بينهم الفضيلة، ويمنع عنهم الرذيلة وخاصة في علانيتهم، ولذلك حذر من الجهر بـها.
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ " رواه البخاري في صحيحه.
والتحذير من الجهر بالمعصية سببه تفشيها بينهم، ومن الستر إخفاء أسرار ما ستره الله عن العبد، لأن الله قد يعفو عنه، إلا أن الناس لا ينسون، وهذا ما يدل على أهمية اعتبار أحكامهم.
إن الكثير منهم مهملون لإحدى ركائز الرقابة الراشدة، وهي أحكام الناس على الفرد، إذ تحتقر ملاحظات القوم، بانطباع [لا يهمني الناس ] أو[أنا لا أخشى إلا الله] حتى ولو كان الملاحظون من أهل الحكمة، وكان المدبر عنهم مخالفا عاصيا.
لقد كان من مقاصد الشريعة النظر إلى قيمة الكليات الخمس، التي منها حفظ العرض، وهو ما يطلق عليه الشرف والسمعة.
والشرع أودع في نفس المؤمن استشعار رقابة الله للاستقامة، واستحظار العرض لحفظ الكرامة من شـماتة الآخرين، وهمزهم ولمزهم.
إن أحكام العقلاء لها أثر مهم جدا في معالجة المرض الروحي، والتيه الاجتماعي، إذ ليس كل أحد ينصاع بسلاسة لأحكام الشرع، فإذا حدث عدم الانبعاث نحو الخير انطلاقا من الوحي، كبّل النظر الإنساني والتنبيه البشري عن ولوج السوء ولو جهرا، وبقي السر بين العبد وربه.
ولذا نجد من يستحي بسبب هندامه، ومن يخجل بدافع منصبه، ومن يحجم لعلة الحسب وغيرها من مسببات تجنب الانغماس في الرذيلة.
وهذا ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشبهات [فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه]
عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"
رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي والترمذي وأحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة والدارمي والبزاروغيرهم واللفظ للبخاري.
إن الاستبراء هو توخي سلامة الدين والعرض، الدين لتجنب تعكير العلاقة مع الله، وتكدير صفوها، والعرض لصرف النفوس السيئة، والألسنة السليطة، والأضواء الخبيثة على الشخص، لئلا تصيبه سهام الكذب، ونبال التهم، ومقصلات التعيير، ووخزات النقد السفيه الذي قد يـمدد كاللاصق المرن، قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله {يا أهل العراق يخرج الحديث من عندنا شبراً ويصير عندكم ذراعا}.
ولذلك نجد قول عمر رضي الله عنه {من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به}.
إن شباب اليوم لا يلقي بالا لوضع النفس في مكامن الشبه، بل لا يفقه معنى الشبهة وخطرها على الدين والنفس والعرض والسمعة، ولا يبالي بها، إلا إذا اصطدم بواقع مؤلم كمثال رفض توظيفه بسببها.
إن الشرف يتعلق لا محالة بأحكام الناس كي يحافظ المسلم على براءة حياته.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على عرضه من رجلين مرا عليه وهو يشيع زوجته صفية بنت حيي بعد زيارتـها إياه وهو معتكف قائلا لهما {على رسلكما إنها صفية بنت حيي} وهو تصرف متعلق بالشرف والعرض.
عن صفية أمّ المؤمنين “أنها جاءتْ رسولَ الله صلى الله عليه و سلم تزُورُه في اعتكافِه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدّثتْ عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه و سلم يقلّبُها حتى إذا بلغت بابَ المسجد عند باب أمّ سلمة، مرّ رجلان من الأنصار فسلّمَا على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم: على رَسْلِكُمَا إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله و كبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: إنّ الشيطان يبلغ من الانسان مبلغ الدم و إني خشيتُ أن يقذِفَ في قلوبكما شيئاً”.رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فلا يتهيأ لأحدنا أن التردد على الأماكن السيئة أوالأشخاص المشبوهين أوغير ذلك عديم الأثر على سمـعة الشخصية، لأن التهمة ستسبقه إلى مضاربه وبمبالغات كثيرة كان هو سببها، هو من فتح لـها مجال التشدق، ومنحها فرصة التهكم.
إن كثيرا من حالات الغيبة والنميمة كان مصدرها من وقعت عليه بولوجه الشبه أوالتصرفات السيئة
وكثير من مداخل وأروقة المؤسسات ومنها التعليمية بالخصوص تعيش على وقع خلوات خطيرة بين الجنسين تؤول إلى تراجع كثير من خاطبي الزواج بسبب طول ألسنة الفاسقين صدقا أوكذبا صوابا أوخطأ نحو ضحايا الاستهتار بأحكام الناس.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يقال عنه {إن محمدا يقتل أصحابه}حين عرض عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل عبد الله بن أبي بن سلول بعد انكشاف نفاقه.
عن جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَتِ الأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ، ثُمَّ كَثُرَ المُهَاجِرُونَ بَعْدُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوا، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
إن ما فعله رأس المنافقين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جدير بهدر دمه في سبيل الله، إلا أن اعتبار حكم الناس والأمم حال دونه مع تفويض السريرة إلى الله، إنه في عداد المسلمين فكيف يقتل محمد أصحابه المسلمين وما مبرره؟
وهذا موسى بن عمران جاءته إحدى بنات الرجل الصالح من أهل مدين {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ} سورة القصص 23، وعند سيره ـ وهو لا يعرف البيت إلا بدلالتها ـ يطلب منها السير خلفه وإذا أرادت التنبيه إلى الطريق فلترمي بحجر، تجنبا للفتنة في الدين والسمعة.
إن الحفاظ على العرض والسمعة من الخدش كفيل بتجنب متاعب اجتماعية كثيرة بعد الوقوع في السبل العرجاء، كان يمكن لسيدنا موسى عليه السلام تجاهل توجسات الناس فيه، وحتى الشيطان هو في منأى منه لأنه نبي معصوم عن الوقوع في الفاحشة لو سار بجنبها على الطريق، فإنه مازنى نبي قط، لكن من وحي الله تعالى أن علمنا ربنا بتصرفه حدود العلاقات بين مختلف أصناف البشر، والحفاظ على النفس من الغير.
ولذلك ألح الإسلام على حسن الأخلاق لأنها احتكاك بالبشر الذين سيصدر منهم مواقف تجاه المتعامل معهم، سوء الخلق سيخدش المشاعر، وقد يفرق بين الأفراد، وهي مفتاح {قيل وقال} تتسرب كالسوس إلى عرض سيء الخلق.
وهذا ربنا سبحانه وتعالى يحذر من قذف المحصنات المؤمنات الغافلات الذي يقابله عقوبة الجلد ثمانين لما لحديث الغوغاء على المتهم من تبعات سيئة، فماذا يحدث لو لم يعاقب الوحي على القذف؟ إنه الذريعة الواسعة لتبادل التهم وتسليط الألسن على الأعراض.
بعدما حدث لعائشة رضي الله عنها من إفك المنافقين تأثر النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الجمهور، لكن لم يوح إليه بسرعة ببراءتها كي نتعلم منه أمرا خطيرا وهو قيمة أحكام الناس.
وها هو ذا يقر الفكرة بمنح شهادة الناس على بعضهم كتوقيع منهم نيابة عن الله.
عَنْ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم
ولذلك أقر الشرع ابتداء باجتهاد الصحابة فكرة اختيار الحاكم بالبيعة أوالانتخاب في المصطلح المعاصر أوالشورى عن طريق الرعية بنوابهم وهو اعتبار لأحكامهم على أهلية من يقدم لقيادتهم.
وقديما أدركت العرب هذا المنهج السليم للاستقامة على السلامة، حين كان فطاحلهم يقولون عند كل نائبة {ماذا تقول عنا العرب؟}،فقد قالوها كذلك حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكة لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة:{ماذا تقول العرب عنا إذا دخلها محمد عنوة؟}ما لم يكن عندهم نظام يحتكمون إليه غير أحكام البشر.
إذا أفلت السواد العام من الرقابة الراشدة في الملبس والمأكل والحلاقة وأجراس السيارات في الأعراس وصخب أغانيها في الشوارع وغيرها زاغ المجتمع.
يشيع عندنا كلمة {Normale}أي {عادي}، فبسبب التهرب من أحكام المجتمع العاقل أصبحت كل مخالفة للدين والعقل والعرف عادية جدا، لا يلوي الشاب على ملاحظة ولا تنبيه، سراويل ممزقة تقليدا للغرب، ألبسة بها تصاوير لا يفقه لابسها معانيها، قلادات على الرقاب، خواتيم من ذهب حول الأصابع، أساورة حول المعاصم، وفتيات يتشبهن بالرجال ويلغين الأنوثة الحقيقية، ثم إذا نبهت يقال لك "عادي"، إلى أن أصبحت الرذيلة عادية بسبب الطرد الممنهج لرقابة الناس على تصرفات الأفراد.
وبالعكس فإن كثيرا من مكارم الأخلاق روعيت بسبب الرقابة الاجتماعية، فلم يجرء الناس قديما ولو مع الجهل بالشرع أوبعضه على الخطوط العرفية أمام مرأى أكابر القوم ومشايخ العشائر، فكانت إعانة جادة على الالتزام بالحدود الأخلاقية ولو في غياب الوعي الإيماني.
وإذ أنبه إلى هذه الفضيلة الغائبة، لا أدعو إلى مغبة الانصياع لملاحظات السفهاء، فما كل فرد يؤخذ بحكمه، لأن المعمول برأيه وتنبيهه هو العاقل الحكيم من رؤوس القوم وعلمائهم العارفين بمكامن الحسن الموافق إقرار الشرع، ومكامن القبيح الموافق إنذار الشرع.
إن الأحكام الاجتماعية التي تساهم في استقامة الأفراد ومحافظتهم على السمعة والشرف لابد أن تصدر من الحكماء العاقلين المالكين لأدوات الاجتهاد لبناء النقد على أسس مشروعة لا من السفلة.
إن الأمة في تقديري لن يستقيم لها أمر إلا إذا استجمعت كل عوامل الدفع نحو الفضيلة والكبح عن الرذيلة، ومنها الوحي والعرف، وأهم ما في العرف أحكام الناس التي أولاها الشرع اعتبارا كبيرا.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
التعليقات (0)