مواضيع اليوم

أحاديث مبللة: اكتبوا أفضل لتحصلوا على عناق دفيء

علي مغازي

2010-08-29 20:58:46

0

لا أذكر بالضبط أوّل نص كتبته في حياتي، وأعني بكلمة "كتبته" أي (أن حالة شعرية راودتني ثم تشكّلتْ ملامحُها بالتّأمل، ومع الوقت أخرجتها على شكل جُمل أولية متتالية، ثم نقّحتها، وأخيرا دوّنتها على ورقة بيضاء، واخْترت لها عنوانا فكانتْ قصيدة).
لا أتذكّر أبدا أبيات هذه القصيدة. لكنني أتذكّر أنّها كانت (غزلية)، ومن المرجح أن أغلب كلماتها لم تخرج عن القاموس العاطفي المعتاد (الشوق، الهجر، الوداع، الدمع الألم، القلب والمهجة...) وما إلى ذلك.
ومرت الأيام وكتبت قصائد أخرى عن نساء كلهن من صنع خيالي...

في إحدى المرّات التقت عيناي بصورة امرأة رائعة، على غلاف مجلة ملوّنة، كانت شقراء... شقراء إلى درجة العجز عن الاستيعاب، وكانت لها عينان زرقاوان وشفتان ورديتان، ونظرة شهية كـ "خبز الدار"، وكانت ترتدي قميصا شديد البياض تدمع له العين. ورحتُ أتأمّلها بعمق لأحصل على حالة "إلهام" تفضي إلى كتابة قصيدة، وأظنّ أنّني نجحت في ذلك. لكنني بلا شك فشلت في جعل تلك المرأة، داخل الصورة، تذرف دمعتين تأثرا بقصيدتي التي ألقيتها عليها، لقد بقيتْ ثابتة ولم تكلّف نفسها مشقّة الخروج من غلاف المجلّة إلى الحياة كما أعيشها.
"أرجوكم لا تخبروا أحدا أنني كنت أعتقد بإمكانية حصول هذا رغم كل التّجارب الفاشلة.

بعد ذلك، صرت أكبر سنا، وفي السّنة الخامسة من تعليمي الابتدائي وقع ما لم يكن في الحسبان، لقد خرجتْ تلك المرأة من الصورة وجاءت إلى مسقط رأسي، بمدينة "الدوسن"، ودخلت مدرستنا واختارها المدير معلمة بالقسم الذي أدرس فيه.
في الواقع لم تكن هذه المعلمة هي المرأة ذاتها التي في الصّورة سالفة الذكر، ولم تكنْ تشبهها. لكنها بالمقابل كانت جميلة، هادئة وعميقة، حازمة ولطيفة، والأكثر من كل هذا، أنها ترتدي قميصا شديد البياض، بينما شعرها ينسدل على كتفيها.
وتهيأ لي أن هذه المعلمة الوافدة حديثا، إنما هي صنيعة تأملاتي، فلولاي لما كانت موجودة في هذه المدينة الواقعة على هامش الهامش.

فكرتُ أن أكتب قصيدة فريدة، أتغزّل فيها بمعلمتي، بعينيها السماويتين وشفتيها الورديتين. ونفّذت الفكرة بكل شجاعة، من دون الحاجة إلى ألهام، ورحت أقرأ قصيدتي لكل من يرضى الاستماع إلي. لكن زملاء لي في المدرسة لا يستلطفونني، أخبروا المعلمة بفعلتي هذه، فاسْتدعتني على الفور. وتحدّثت إليّ بأسلوب لم أعهده من قبل، كان لكلامها وقع السّحر، فاسْتطاعت بأقل جهد أن تسحب مني اعترافا صريحا بما فعلت، ثم طلبت مني أن أقرا القصيدة. وبالفعل قرأتها بصوت متقطّع، والدموع تتزاحم في عيني، ورجلاي ترتعشان وقلبي ينبض بشدة، خوفا مما ينتظرني من عقاب.
وما إن أكملت إلقاء القصيدة حتى تجمّدتُ في مكاني، وأنا أفكّر بسرعة الضّوء في الجهة التي يُحمتل أن تأتي منها الصّفعة،
(هكذا جرت العادة)، لكن الذي حدث هذه المرّة، أن المعلّمة ابْتسمت لي برقّة بالغة، وأخذتني في ذراعيها وضمّتني إلى صدرها بقوّة حتى اشتممْتُ عطرها الدّاخلي.

كان هذا أول عناق حصلتُ عليه بسبب قصيدة كتبتها.
وكانت المرة الأولى التي لم أتعرّض فيها لعقاب عن (خطأ حقيقي) قمتُ به.
ومنذ ذلك اليوم أحببت العطر فسعيت لمزجه بلغتي، وأحببت المرأة فكانت محورا مهما في كتاباتي.

إنني لا أكتب إلا ما يمليه عليه جسد الحبيبة... ولا أقول إلا ما يتفوّه به صمتها ثم... ... أدّعي البلاغة...

اتّضح لي الآن أن تلك المعلمة الرائعة لم تكن أبدا صنيعة تأملاتي. لقد كنتُ أنا صنيعتها في تلك اللحظة.
لقد منحتني ذلك العناق الدافئ الذي أعتبره الآن أول وأفضل جائزة حصلت عليها عن قصيدة كتبتها...
إنها جائزة لم أجرؤ على ذكرها في سيرتي الذاتية.

بقلم: علي مغازي

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات