لا أحد يجهل القيمة الجمالية للورد في حياة الفرد، ولا أحد ينكر الفوائد الجمة لعطره الفواح الذي يمارس على المرء سحرا يكاد يستحوذ على كل جوارحه، لدرجة يصبح معها شبه غائب عن الوجود، وغير قادر على الاهتداء إلى معرفة سر هذا الانخطاف الذي يغشى بصره، وحقيقة هذا الشلل الذي يصيب عقله وهو يعيش تحت تأثيره السحري .لأن مفعوله على الإنسان أمر مستعص على الفهم ، يفوق حدود الخيال، ويتجاوز خطوط العقل،ونسوق هنا، في هذا المقام، بيتا شعريا للمتنبي،للمثال لا الحصر، يظهر فيه قوة تأثير العطر على الإنسان في جانب واحد من الجوانب الكثيرة التي يضيق المجال لتعدادها.
وفَتّانَةَ العينيْنِ قَتّالَةَ الهوى إذا نفَحَتْ شَيخاً روائحُها شبّا
فالشيخ يمسي شابا يطفح بالحيوية والفتوة والطاقة، حين تداهمه رائحة الورد الزكية العبقة، وبالجملة يمكن ان نقول :الورد مبعث السعادة والبهجة، ومنبع الانبهار والدهشة. ومصدر التغيير والتحول.
وغني عن البيان أن نقول: إن للورد لغة لا يفهمها إلا من حباه الله الموهبة الأصيلة، والروح الشفيفة، والقلب الطافح بالحياة، ذلك لأنها لغة مليئة بالدلالات والمعاني ،مترعة بالخطابات التي يتسع مداها الواسع، ويتفتق أفقها الرحب بحسب خيال المرء الخصيب، ورفاهة مداركه الشاسعة ، ولعل شاعرنا الجميل أمل دنقل خير نموذج نقدمه في سياق الحديث عن لغة الورد، حيث نجده في قصيدته الخالدة" زهور" ينقل لنا ما انتاب سلالا من الورد من مشاعر الحزن ،وما عاشه من حالات: الدهشة، والسقوط، والتغيير، والاحتضار الذي كان يجود أثناءه بعمره للشاعر بسخاء منقطع النظير بلغة حانية تشبه إلى حد كبير لغة الشاعر،وروح عالية وأنفاس حارة متقدة تكاد تختلط برئة الشاعر الحزين أمل دنقل،وكأننا أمام روحين متحدين، أو مرأتين صقيلتين مشعتين فيهما من الاحتراق والاشتعال المفضيين إلى الحياة الفضلى، والطريق المثلى إلى الخلود.
وسلالٌ منَ الورِد, |
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه |
وعلى كلِّ باقةٍ |
اسمُ حامِلِها في بِطاقه |
*** |
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ |
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً- |
َلحظةَ القَطْف, |
َلحظةَ القَصْف, |
لحظة إعدامها في الخميلهْ! |
تَتَحدثُ لي.. |
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين |
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين, |
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ |
تَتَحدثُ لي.. |
كيف جاءتْ إليّ.. |
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ) |
كي تَتَمني ليَ العُمرَ! |
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!! |
*** |
كلُّ باقهْ.. |
بينَ إغماءة وإفاقهْ |
تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ |
وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ... |
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ! |
ومن جانب أخر، فان للورد حضورا مميزا في تاريخ البشرية، لما يمثله من رمز البهاء والحسن والجمال، ولما يشكله من عنصر أساسي من عناصر الطبيعة، التي يجد إنسان الأمس بين أحضانها الراحة والصفاء والانسجام، وما يمنحه له الورد خاصة من زخم وعمق وثراء روحي،وغنى جمالي، وما يضفيه على وجوده من معاني السمو والرفعة والصفاء والأنس وما إلى ذلك من المعاني التي تندرج ضمن هذا النطاق.
ولعل تعلق إنسان الأمس بالورد كان تعلقا روحيا نظرا لبساطة الحياة، وأسلوب العيش السهل اليسير، الخالي من أي تعقيد أو تكلف، إذ كان المجال الروحي مجالا خصبا، يحضر الورد في حياة المرء حضورا مستمرا، فقد شكل جزءا من كيانه، وتنسم من عبقه حياته وبهجته، واستمد منه كل قواعد الجمال، فمشاهده المتنوعة تسبي عقله،وتخلب لبه.
و ليس من قبيل الصدفة أن يخلد الخليفة عبد الرحمان الناصر عهده ببناء مدينة في غاية الرونق و الجمال سنة 325هـ، و أن يختار لها اســم "الزهـــراء" فــي قصة معروفة، و من أبدع ما نظم في هذه المدينة قول ابن هذيل:
كـأن غصون الآس و الريح بينها *** متــون نشاوى كلما اضطربت سكْرا
كأن جــــــنيَّ الجــلـنـــار و ورده *** عشـيقان لـما استـجمعا أظهرا خفـــرا
أما إنسان اليوم، فنظرا لتعقد الحياة،وتطور أسلوب العيش، وانسحاقه تحت إغراءاتها المختلفة، وضغوطاتها الثقيلة، وإيقاعاتها المتسارعة،ولهاثه وراء الماديات، فقد أصبح الورد كنعصر يمثل الجانب الروحي في حياته، بعيدا عن مجال اهتمامه، وقصيا عن نطاق انشغاله، وهو وان صادف ورأى باقة زهر، وشاهد مزهرية ورد، في مناسبة من المناسبات القليلة الناذرة، فانه يقف مندهشا مأخوذا بجمالها ، متسائلا في نفسه بتراجيدية موغلة في المآسي، موجعة بنواح وجودي عن ما يربطه بهذا الكائن النباتي، وكيف أضحى بعيدا عن محيطه وبيئته وحياته، آنذاك سينتبه إلى ما تركته العولمة الشرسة في روحه من تشوه وتغيير، وما حفرته التكنولوجيا الفضة في نفسه من ثقوب غائرة، يصبح معها الورد في هذا الحوار الصامت مسبل الأجفان، محمر الوجنتين، حائر النظرات، مترددا في البوح عما يعتريه من غرابة ووحشة تجاه هذا المخلوق الغريب أمامه بكل هذه الأقنعة التي لا يريد أن يلقي بها عن وجهه بعيدا في الصقيع.
سيظل الورد في كل مكان وزمان عنصر الجمال القوي، لا غنى للإنسان ولا محيد له عن العيش بقربه، والانتفاع بغناه الروحي، وزخمه المعنوي، الذي يضفي على وجوده الرونق، والبهاء، والمتعة، والروعة، والدهشة، إذ يمنحه الكنه الذاتي، ويعطيه سر الحياة المثلى،ويمده بالفضائل العليا، وهو وان سار اليوم على غير طبيعته بفعل التغيرات التي شهدها العالم هائما على وجهه، تائها ضائعا، فانه لابد أن يأتي ذلك اليوم، الذي سيتنبه فيه إلى توهه فيعود- بحرقة الأوصال- إلى معانقة ورد الروح، ويحضن- بحرارة الدم والقلب- زهرة الحياة بشوق متدفق، وحنين كاو، كي يعود النبض ويستمر الجمال.
عبد العزيز أمزيان/ المغرب
التعليقات (0)