مواضيع اليوم

أجنحـة الغيـاب - قصة قصيرة

كمال غبريال

2010-05-05 20:49:35

0

أجنحـة الغيـاب


كمال غبريال

إهــداء:
إلى زهرة لها ملمس الندى ورائحة الصبح.

كان الوقت امتداداً موشحاً بالخريف والصفرة الباهرة، وكان المكان لحظة محمومة بالأشواق بعيدة المنال، والخيالات فادحة الروعة . . كان هذا على مرمى حجر من أقدار ملتبسة بحميمية، وسياجات تستحيل على التخطي.

أعرف سوف تأتي. لابد وأن تأتي أميرتي، لكن متأخرة جداً كعادتها. كعصفور لا يعبأ بتباشير المساء، وكومضة نور تستعذب هتك أستار الليل. . وأعرف أني لابد وأن أنتظرها. ساعات طويلة لا أفعل شيئاً غير مراقبة عقارب الساعة وهي تندحر. . تفسح لموكب أميرتي الطريق، تلملم خيوط الليل فيما بعد انتصافه.
أرى أميرتي قبل أن تهل علي بساعات. حورية من نور ونار. نسائم ترفرف فوق رأسي. تدور بي. تذهب وتعود. . فراشة هي تهب جناحيها للريح. للضياء. لنزق الشتاء الملتحف بثلوج. . لا تلبث أن تسيل جداول، تبلل أطراف أنامل أميرتي.
أسمعها تناديني بغير صوت، فقط أطراف ثوبها تموج. أتزلزل. أسبح في عوالم أخرى. بعيدة. وساحرة. وحميمية ككوخ على قمة تل، يحتوي العشاق بين أعطافه، و لا يبوح بأسرار الشوق، ولا هسيس شفاة تتعانق في قبلات مقدسة. . أتصور أحياناً أنني منخرط في بكاء، يستدعي أميرتي من خلف خط الأفق. يبلل وجنتيها بقطرات تنفلت رغماً عني. . تفضح وقاري المزيف. تأتي بي إلى ما تحت عرشها، لأرفع نشيداً ومرثاة. نشيد تسبيح لمن تربعت ربما إلى الأبد، على قلب كان موهوباً للفناء، ومرثاة على أيام راحت في نقر آبار مشققة. لا تروي ظامئ ولا تضبط ماء.
قلت: أريد أن أغادر الزمان والمكان.
قالت: وهل أنا غيبوبتك؟
قلت: أنت الحقيقة الرائعة كغيبوبة!
قالت: أحب حتى طلاسمك، غموضك الموحي!
قلت: أنت الزهرة على سطح أمواجي المتلاطمة.
قالت: حسبتك تحتويني في أعماقك.
كنت قد قلت لها: عيناك لابد ستعيدان الخفقان لقلبي، والمداد لقلمي، وكان قد جف وكف، فارقه شيطان الشعر والمشاعر، كأن إلى غير رجعة. . استحال أداة حسابات وتحليلات. تورط في مستنقعات الفلسفة والتنظير، تلك الجافة والمريرة كثمار شجيرة حنظل تحت سفح تل لم يعرف زخات المطر منذ عقود، مودعاً كل أزمنة السهد والتنهد واستنطاق النجوم، أبحث فيها عن وجه حبيبة، كانت دوماً مراوغة ومستحيلة. لكنها أبداً مكتملة الملامح. بهية كقطرة ندى على جبين زهرة في صباح لا يأتي إلا فجأة. . نظرتْ إلي وقتها وقد ارتسمت ابتسامة بسيطة وغامضة معاً، على شفتيها اللتين بدتا شهيتين كثمرة قد لا تطالها يدي يوماً، دون أن ينقطع أملي في التهامهما في غفلة من كل آلهة سومر وطيبة وأثينا، تلك التي حَرَّمتْ النزق على البشر، لتحتكره هي لنفسها، فقد كنت أعرف على وجه العموم أنني بلا نزق لن أصير ملاكاً، كما قد لا أصل حتى إلى مرتبة الأشياء. . أما الآن وأنا أعيد ذات الأمنية على مسامعها وقد اعتقلنا جوبيتر بشبكة واحدة ذهبية، لتصير هي الملهمة والإلهام معاً. وغدونا كطائرين هبطا سوياً على شجرة صنوبر مبللة برائحة مساء طال أكثر مما ينبغي، بعد أن أستنزفهما التحليق في فضاء لا نهائي من الصبوات المنفلتة والمهدرة، ليلتصقا مرتجفين التماساً لدفء يفتقدانه معاً، وتشابكت أجنحتهما في عناق منذور للأبدية، فقد التزمتْ صمتاً مترقباً، لا يخلو بالتأكيد من حذر مفترض. هل تدرك أنها مندفعة أو مسوقة بالأقدار نحو مياه عميقة وداكنة الزرقة، ولم تتحسب لتكلفة السباحة فيها ضد التيار، أم هي المحمولة على أجنحة الأشواق مدركة لمجمل الأمر منذ البداية، ولديها ما يكفيها من ثقة بالذات، تدفعها لتقفز إلى شلال مشاعر مازالت حتى الآن محكومة، وقد تشاركنا معاً في إطلاقها من إسارها، لكنها في كل لحظة مهددة بالانفجار، لنتدحرج سوياً في قاع ذاك المحيط، الذي قد عرفتْ يقيناً أنه بلا شطآن؟!
لم أقل: أنت داخل كل قطرة من دمي، كل نثار الدموع التي لن يتيسر لي أن أزرفها. . أنت يا صغيرتي ومضة ضوء تهتك ظلمات الدهور في أعماقي.
قالت: كيف لمفكر مثلك أن ينشد الغياب؟
قالت: عقلك بحر يغريني بالسباحة في لجج غموضك.
قلت: عقلك جسد أشتهي أن أحتويه . . أغمره!!
قالت : تخيفني كلماتك، وتغريني بالمغامرة.
قلت: أنت اللحظة الرائعة، قبل أن تميل قمم الجبال المسكونة بالسحر والأساطير، لتخلد في عناق يؤججه حنين غامض ومشبوب.
قالت: ماذا لو ارتميت الآن في حضنك؟!
قلت: عندها قد يتوقف الزمن.
قالت: فليكن.
قلت: أرجوك لا تفعلي، فأنا مازلت أسير الزمان والمكان.
كان كفها الرقيق يبدو مستريحاً ومستكيناً داخل كفي، فيما أتحسب حتى لا أضغط عليه أقوى مما يحتمل. . كان هذا وحده يقتضي مني انتباهاً، لم يندر أن أفتقده طوال الطريق، وكلما لامس كتفها كتفي، أو تلاقت عيوننا، التي تتصنع طوال الوقت الحملقة في امتداد الطريق الممتد كأن بلا نهاية. . كانت كلما اشتد ضغط أصابعي على كفها الرهيف، تطلق آهة خفيفة، لاتبذل كثيراً من الجهد لتكتمها، مع ابتسامة يذوب لها القلب، وأنا أنهل من مرأى وجهها المنير ملتمساً اعتذاراً، بغير وعد بعدم تكرار ذات الذنب مرات ومرات. أظنها أيضاً كانت تريدني أن أستزيد من اعتصار يدها في يدي. . هذا على الأقل ما قلته لنفسي، وأظن آهاتها كانت بوحاً أقوى مما تتيحه حروف منظومة في كلمات، هي بالتأكيد أعجز من أن تعبر عما يموج بحشانا. . كان العجيب بالفعل تزامن التفاتة كل منَّا نحو الآخر، ليجد عيون رفيقه تستقبله كما لو حضن مفتوح، يصرخ بنداء سري ومحموم. تنسكب منه لواعج وأشواق، لم يكن أينا يجرؤ على البوح بها صريحة ومفتضحة، أو كنا نضن بها خشية التخفيف من غلواء هديرها. . هكذا لم يكن غير صراخ العيون في صمت متقد بلهيب، يزداد بالكتمان اشتعالاً، لا يتبدى إلا في تورد خفيف متوتر على وجنتيها. لم أقل لها كم أشتاق لأن تلامسا وجنتي، وننفصل العالم في غيبوبة نبتهل للآلهة أن تكون أبدية. . تقترب مني وأقترب منها، تلفح أنفاسنا وجوهنا، يعب كل منا من أنفاس الآخر في نهم محموم. أتحير إن كان ما أستشعره برودة سلام وسكينة وارتياح لمجرد احتضان ذلك الوجه الملائكي بعيني، أم هو لهيب الرغبة في احتوائها كلها في صدري، فأطبق عليها مرة دونما نية لإخلاء سبيلها بعد؟. . هل كان كلانا بالفعل يستمتع بهذا بالصمت المشحون بالمشاعر والتوتر والتحسب والقلق، حتى لو كان مجرد حالة ابتدائية لا حيلة لنا إلا احتمالها وتجاوزها. بعدها لا تعود يدها فقط هي المستريحة داخل يدي كعصفور ينشد الدفء، وإنما تهرب هي بكامل جسدها الرقيق الرائع في أحضان تغوص فيها إلى المنتهى؟!
لم أقل: أنت تسكنينني يا طفلتي منذ بدأت أتهجى الأبجدية، تجوسين بين حناياي فأستعذب الخدر، يسري على سفوح لا تكسوها الأعشاب الطرية، ولم تعتد المرح عليها صغار الأيائل.
قالت: فقط أريد أن أسمعك.
قلت: أنا أسمعك حين أراك. . أراك حين أسمعك. . حين تصمتين وتنأين، أراك وأسمعك معاً.
قالت: أرجوك تكلم.
قلت: أرني عينيك لأقرأ.
قالت: سأغمض عيني عليك وأذهب.
قلت: سأغلق فمي وألهج باسمك!!
أكان ذاك الصمت رحماً ينمو في رحابه جنين العشق والجنون، فلا يغادر ملكوته إلا عملاقاً يحطم كل ما قد يعترض طريقه من محظورات وسدود وقيود، أم هو السكون الطبيعي، الذي لابد وأن يسبق كل العواصف؟!
كانت أشجار الكافور والجزورينا العملاقة على جانبي الطريق، تمتد أمامنا للتتعانق هناك بعيداً، كأنما لتخفي ما استطاعت من شتات أضواء برتقالية، منسكبة من قرص الشمس وهو ينزلق بتؤدة إلى بحيرة الغروب، فيما تبدو أوراق الجزورينا الإبرية المخضبة بالحمرة، مستغرقة على وجنات أوراق الكافور خنجرية الشكل، يهدهدها نسيم كان رقيقاً وحالماً، كما لو وعد بلقاء في عالم آخر. عالم خُلق فقط للعشاق الذين لا يتهيبون من رساخة أجسادهم، فيعمدون إلى السماء، يحرضون ملائكتها على العشق والهيام، ويصدحون بأناشيد لم يسبق لجنبات الكون أن رددت أصداءها!!. . هل تأملتْ مثلي ذينك الصفين من الأشجار العتيقة، وهما يلتحمان هناك في مستقبل هو على مرمى النظر، وكأنها نبوءة الطبيعة لمصير ينتظرنا معاً، أم كنت وحدي من يتعجل احتواءها، ليتسرب إلى شرايينها ذات ما يتقد في أوصالي من أشواق؟!. . هل كنا في أحيان كثيرة نحث الخطى، حتى نصل سريعاً لهذا الهناك، حيث تذوب في بعضها البعض الأشجار والعشاق؟!. . ألهذا أيضاً كنا نهرول معاً، ونتمهل معاً؟. . نتمهل حتى لا نصل إلى نهاية. فكل النهايات سواء. كلها تطفئ نيران الترقب والتشوف، حتى لو كنا نغرق عندها في محيط بلا قاع. وكل منا يعتصر ضلوع الآخر. لا يترأف حتى بصرخات التأوه، نستزيد منها لتتأجج أشواق بقيت طويلاً مستترة تحت رماد التحسب والانتظار.
كنت أردد لنفسي، متيقناً أنها لابد وتسمعني الآن وأنا أهمس لها: تأخرت علي طويلاً، فقد كنت أنتظرك من عقود قد تعادل ضعف عمرك. . كنت أتأمل في كل ربيع ملامحك على وجه رياح الخماسين وهي تضرب أوراق ذات تلك الأشجار السامقة، التي تنظر الآن إلينا ونحن ننساب متلاصقين. . حين أنظر إليها فأراها تبتسم، كان يقيني يزداد في أنها بالفعل تنصت لبوحي الداخلي، وأنها تكاد تطفو مثلي على سطح الأرض. تطير. لا بل كأنني أحملها لتنصت إلى بوحي، ورأسها مستند إلى ذاك القلب الذي عاد يخفق بعد سبات طويل. . أيضاً كنت أعرف أنها لن تبوح بما بداخلها نطقاً، كانت نظراتها تقول لي ذلك بالفعل. كأنما تقول عليك أن تقرأ ما تستطيع قراءته في عيني. من ارتعاشات خفيفة لوجنتي. من الدفء الذي يسري لكفي، وقد انتشلته يدك كما لو من برودة مساء شتوي قارس.
كانت الشمس لم تسقط بعد على خط الأفق، والسحاب المشرب بالحمرة يتداعى، أمام أوائل خطوط الليل، فكان فكان علي ولم أبرح اللحظة، أن ألملم أوراقي إشفاقاً من ريح المساء. . فيما كان الطريق مازال ممتداً أمامنا بلا نهاية، ولم يكن أينا بالفعل يرغب في أن يشهد له نهاية، نعم كان كل منا يشتهي أن يعانق الآخر. يصير الجسدان واحداً. تمتزج الأنفاس ويتداخل اللهاث. هناك حيث يتوحد صفي الأشجار، تلك التي ترافقنا الآن كشهود على هيامنا وغيابنا عن كل ما بالكون سوانا، لكن الحقيقة التي لم يبح أينا بها حتى لنفسه، هي أنه طالما مازال بالطريق بقية، ومادامت يدي تعتصر يدها، ويتلاصق كتفانا بين الحين والآخر، فلا حاجة بنا للوصول إلى أية نهاية!!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !