مواضيع اليوم

أثر الجاهلية في الأمة الإسلامية

إبراهيم أبو عواد

2014-05-05 14:14:00

0

 أثر الجاهلية في الأمة الإسلامية

 

من كتاب / الأساس الفكري للجاهلية

 

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

 

..................

 

     من المؤكد أن الجاهلية كنسق فكري مُعْدٍ تؤثر سلباً في حياتنا عبر سلوكيات شاذة دخيلة تخترق بنية مجتمعاتنا على مر العصور . إنها تؤثر في أفكارنا وممارساتنا اليومية، وتزرع عاداتٍ بالية وأفكار ذهنية تنعكس على الواقع المعاش . ومن العادات السيئة التي وجهتها الجاهليةُ نحو مجتمعاتنا العصبيةُ القَبلية، والتعصب الأعمى للعشيرة والجماعة التي ينتمي إليها الفرد .

     وعن جابر بن عبد الله_رضي الله عنهما_ قال: كُنَّا في غزاة، فَكَسَعَ {(1)} رَجلٌ من المهاجرين رَجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين . فسمع ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( ما بال دعوى جاهلية ؟! )) ، قالوا : يا رسول الله، كَسَعَ رَجلٌ من المهاجرين رَجلاً من الأنصار، فقال : (( دعوها فإنها مُنتنة )) {(2)}.

     فدعوى الجاهلية خبيثة ، لما تنطوي عليه من قيم سلبية تفت في عضد المجتمع الإنساني . والعصبية القبلية العشائرية تجسد لب دعوى الجاهلية المستندة إلى القبيلة ونصرها ظالمةً ومظلومة . وهذا المبدأ رفضه الإسلامُ ، وأسس بدلاً منه مفهوماً جديداً للعلاقة بين الفرد وأخيه، والفرد وقبيلته .

     قال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر ( 2/ 280 ) : (( هو قَوْلهم : يا آلَ فُلان . كانوا يَدعون بعضهم بعضاً عند الأمرِ الحادث الشديد )) اهـ .

     وعن أنس _ رضي الله عنه_ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) فقال رَجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً ، فرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ ، قال :  (( تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره )){(3)}.

     إن هذا المعنى كان غائباً تماماً عن العقلية العربية البدائية ، فلم تكن تدرك أن المنع من الظلم هو نصر للشخص. وهذا مرجعه إلى انحصار التفكير في معاداة الآخر والتفوق عليه وإرغامه على الخضوع والتسليم .

     ولَمَّا جاء الإسلام وضع معنى جديداً للنصر يتضمن شِقَّين : الأول _ نصر المظلوم والمضي معه حتى يحصل على مظلمته ، والثاني _ منع الظالم من الاستمرار في ظلمه ، والعمل على محو ظلمه بالأساليب البناءة الهادفة ، وبذلك نكون قد نصرناه على نفسه الأمارة بالسوء والعاشقة لظلم الآخرين، وأرجعناه إلى جادة الصواب، لكي لا يستمر في حصد السيئات والتعرض للعقاب الدنيوي والأخروي،وهذا بحد ذاته نصر واضح للفرد. وهكذا يكون الإسلام قد سن معنى جديداً لأتباعه ، لكي يظلوا متصلين بالنصوص الشرعية وملتزمين بها .

     وفي الجاهلية كانت عِبارة " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " تؤخذ على ظاهرها . وفي مجمع الأمثال للميداني ( 2/ 334 ) : (( قال أبو عُبَيْد : أمَّا الحديث فهكذا ، وأمَّا العرب فكان مذهبها في المثل نصرته على كل حال. قال المفضل : أوَّل من قَالَ ذلك جُنْدُب بن العَنْبَر )) اهـ .   

     ويستمر تأثير الجاهلية في البنى الاجتماعية داخل الأمة الإسلامية . ففي صحيح مسلم ( 2/ 644) : عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أربع في أُمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة )) .

     فهذه الخِصال الذميمة متغلغلة في ثقافة الجاهلية . ولم يقف تأثير هذه الصفات في النسق الجاهلي، بل تعداه إلى التغلغل في حياة الأمة في كل مراحلها . أي إن تأثير الجاهلية مستمر في حياتنا .

     فالفخرُ في الأحساب سمةٌ جاهلية بامتياز . والأحسابُ جمع حسب ، وهو ما يَعُدُّه المرءُ من مفاخر له أو لآبائه مثل الشجاعة والكرم . وهذا جهلٌ مطبق ، لأن الفخر إنما يكون في التقوى والطاعة .

     والطعن في الأنساب ، هو القدح في نسب أحد من الناس ، وهذا انتقاص للآخرين ، وتشويه لسمعتهم . فالأنسابُ لا تُعرَف إلا من أهلها .

     والاستسقاء بالنجوم ، هو ربط نزول المطر ببعض الظواهر ، وهو شِركٌ ، فلا فاعل في الكون إلا الله تعالى . ولا تأثير للنجوم أو غيرها على نزول المطر .

     والنياحة ، هو رفعُ الصوت بالندب على الميت ، وإظهار الجزع . وهو _ بلا شك _ سَخط على الإرادة الإلهية ، وعدم الرضا بالقضاء والقَدَر .

     وقال العيني في عمدة القاري ( 8/ 84): (( وكان أهل الجاهلية يُمزِّقْنَ الثيابَ، ويخدشن الوجوهَ ، ويقطعن الشُّعورَ ، ويدعون بالثبور _ الويل _ )) اهـ .

     وهذا الحديثُ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أُخبِر بما سيكون مستقبلاً . والأُمَّةُ _ رغم معرفتها بُحرمة هذه الخِصال _ ، إلا أنها متمسكة بها ، فقد ورثتها عن الجاهلية ، ولن تتركها أبداً . 

     وهكذا نجد أن تأثير الجاهلية يضرب بشراسة في تفاصيل المجتمع الإسلامي . وهذا التأثير يؤخذ بعين الاعتبار في مجالات كثيرة ، وحالات عديدة . وأبرز مثال على ذلك هو عدول النبي صلى الله عليه وسلم عن تغيير معالم البيت الحرام ( الكعبة ) ، لكون الناس حديثي عهد بالجاهلية .

     فعن السيدة عائشة _ عليها السلام _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : (( ولَوْلا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض )){(4)}.

     إن هذا الحديث يؤسس لفقه الواقع وفقه المآلات، ويأخذ بعين الاعتبار الحالة النفسية للأفراد. فالنبي صلى الله عليه وسلم وازن الأمور ، وأخذ بعين الاعتبار الحالة السائدة بأن القوم حديثو عهد بالجاهلية ( قريب زمن تركهم للكفر ) ، وتصرف وفقها وحسب ما تمليه . وهذا درس شريف من النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعوة سامية لتقدير الأمور بقَدْرها ، والعدول عن فعل الأمر الذي يترتب عليه عواقب وخيمة ، ومفاسد كثيرة .

     ففي بعض الأحيان تكون المصلحة في ترك المصلحة ، وقد يجلب تنفيذ المصلحة ضرراً أكبر ، وعندها على المرء أن يمتنع عن فعلها ، لِمَا قد تؤدي إليه من مفاسد أكبر . فتظهر قاعدة وجوب ارتكاب أخف الضررين .

     ومهما فعلنا سوف تظل بعض آثار الجاهلية فينا ، بسبب ضعفنا البشري ، وسوء إدارتنا للأمور والأزمات التي نتعرض لها . لكن الواجب علينا أن نمحوَ آثار الجاهلية في سلوكنا قدر المستطاع ، وذلك بالالتزام بالمنهج الإسلامي في التعامل مع المؤثرات الخارجية، ومقاومةِ هيمنة القوى الظلامية الداخلية والخارجية على مسار حياتنا ، وسطوة المفاهيم المشوَّشة ذات الانتقالات المتشعبة ، والمنبعثة في قدرتنا على الحراك ، وتوليد تكتلات فكرية تعتمد على منهجية المقاومة والتحدي .

     إن مركزية القوة السلطوية في مجتمعاتنا تكرس حالة التخلف والتبعية الجاهلية ، وهي تقوم بهذا العمل غير الشريف تعميقاً لحفرة التخلف التي نحن واقعون فيها ، ولكي تضمن وجود أتباع فارغين غير معنيين بقضايا الوجود البشري. فالإدارة والسلطة ، وإدارة السلطة ، وسلطة الإدارة، هي مفاهيم تستخدمها القوى المجتمعية في حياتنا المعاصرة بشكل فج، لإنتاج أفكار استهلاكية بعيدة كل البعد عن الاعتناء بمشكلاتنا وأزماتنا المعاصرة.

     إن القوى الرسمية والشعبية في مجتمعاتنا تفرض عبثَ الانتقالات الذهنية الملموسة وغير الملموسة ، وتؤسس لمراحل تغييب الوعي بالكامل لصالح بروز طبقة حاكمة توظِّف بعضَ تفاصيل الحياة الجاهلية في حياتنا، لتظل هي محتفظة بالسلطة، وبالطرق المؤدية إليها ، لتضمن أن لا ينازعها أحد .

     ولأننا آثرنا النوم مع نسائنا، وتركنا قضايانا الوجودية ، ومثَّلنا دور الجاهل بحذافيره ، وصلنا إلى جاهلية جديدة من نوع خاص ، جاهلية تتشابه في كثير من حيثياتها مع الجاهلية العربية قبل مجيء الرسالة المحمدية الإسلامية .

     ولم يقف تأثير الجاهلية عند حد معين ، بل تعداه وصولاً إلى تأسيس جاهلية جديدة تتناسب مع عصر المادة والذرة الذي نحياه ونحن غائبون عن مجرياته، وحاضرون في مدارات اللاوعي أو الوعي السالب، وأحلاهما مُر .

     وبما أن التأثيرات الجاهلية كانت الأساس لنشوء جاهلية معاصرة تتمتع باستقلالية وأركان خاصة ، كان من الطبيعي أن نشعر بأننا مُهمَّشون . والحقيقة أننا همَّشْنا دورَنا بأيدينا ، فماذا كانت النتيجة ؟ . كانت النتيجة أفول نجمنا في العالم ، وتصارع القوى الكبرى علينا ، والسعي إلى احتكارنا ، كأننا بضاعة ذات ماركة مسجلة تُعرَض على رفوف مراكز التسوق في البلاد ذات التوجه الاستخرابي{(5)} . وصار وجودنا تحصيل حاصل ، لأننا ابتعدنا عن المنهج الرباني السماوي ، وحَكَّمنا القوانين الأرضية الشيطانية ، وجعلناها دِيناً لازماً للعباد . وأخشى أن نقول يوم القيامة : ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [ [ الأحزاب : 67] .

     والجدير بالقول إن جاهلية الأعراب البدائية وصلت إلينا نحن العائشين في القرن الحادي والعشرين ، فالجاهلية المعاصرة التي نحياها تخنقنا ونحن مستمتعون لأننا مخمورون ، بعد أن شربنا خمرة حضارة المومسات الكافرة في الشرق والغرب ، وغرقنا في أحلام اليقظة الوهمية التي يروجها السياسيون وعلماء السلاطين . 

     إن الأجهزة الفكرية التي اخترعتها الدولةُ الجاهلية القديمة والمعاصرة لتبرير مشروعيتها الوهمية، تدور في فلك الاستحواذ على إبداع الفرد وتوجيهه نحو تكريس ظلم الحاكم ، وإضفاء الشرعية والقداسة على أفعاله، وتسويق ظلمه على أنه روح العدل والتسامح، ووضع إطار أخلاقي لأفعاله اللاأخلاقية . وكل الأنظمة القمعية في الأنساق الجاهلية تخترع وسائل حماية نفسها عبر تكثيف الأطر الدعائية ، والأسوارِ الحامية للمشروعية الوثنية الافتراضية .

     لذا فإن (( كل نظامٍ سياسي فاشلٍ يتكون من عنصرين : قاتلٌ يرتكب الجريمة ، وكاتبٌ يبررها ويؤسس لها بروازاً أخلاقياً )){(6)}.

     وهكذا يصير الفرد ضحية نظام مُغلَق قمعي ، وظيفته الفتك بمقدَّرات الشعب المادية والمعنوية، والسيطرة على التفكير، وتوجيهه نحو حافة الانهيار ، أو بالأحرى رمي التفكير الإبداعي في قلب الانهيار الأكيد . وبعد هذا وذاك يتم تسويق الانهيار على أنه روح الإبداع الخلاق ، ضمن جدلية عبثية ، وانتقالاتٍ نسبية ، وتسوياتٍ لا معنى لها تهدف إلى تنويع التكوينات اللاأخلاقية في النسق الاجتماعي المتحرر من الضوابط الشرعية ، والمصاب بعقلية الدونية وعقدة الشعور بالنقص جراء الفوارق الشاسعة بين المادية الغربية،وبين المادية الشرقية {(7)} التي بدأت تحل محل السمو الروحي والرفعة الأخلاقية . لذا فإن عشق الدنيا واستيلاءها على القلوب خرق في جدران المجتمع الإسلامي خروقات كبيرة ، دخلت منها الجاهلية القديمة والمعاصرة حاملةً على ظهرها عادات وتقاليد بالية .

     ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها،وتهلككم كما أَهْلَكَتْهُمْ )) {(8)}.

     إن التكتلات الجمعية تغدو تأريخاً لمراحل القمع الوجودي الذي يتبناه الكائن في معركته مع ذاته ، فالكتل الذهنية عبارة عن طبقات تراثية تكونت من التقاليد والأعراف غير المعصومة، ولكنها في كثير من الأحيان يعتقدها الإنسان ديناً واجباً وشريعة كاملة ومعصومة لا مناص منها . وهذه التقاليد القادمة من فكر السابقين وأطروحاتهم وآمالهم ورغباتهم وأنماط معيشتهم ، أصابها كثير من دعاوى الجاهلية ومفرداتها وقيمها السالبية المتخلفة.ولأننا أصحاب إيمان ضعيف تسللت الجاهلية إلى حياتنا، وصارت تغزونا من كل الجهات المشرعة في وجه الريح الجاهلية ، لضعف خطوط الدفاع، والتحصينات الخارجية. فكل مسلم على ثغرة من ثغور هذا الدين، فالواجب عليه أن لا يُؤتَى من قِبَله . لكن الواقع شيء مخالف لطموحات الشعب الإسلامي .    

     وعلينا أن نعلم أن هذا الواقع نتاج أفعالنا المخجلة ، وتقصيرنا اللامحدود ، وضعفنا في وجه ريح الاستخراب الذي تقوده قوى الهيمنة والاستكبار العالمية. ولكن هذه الأوبئة التي تقضم جسد الأمة شيئاً فشيئاً لا يجب أن تدعونا إلى التشاؤم أو التخاذل . إذ إن في زوايا الزنازين الضيقة ضوءاً ثورياً شاملاً متأججاً سوف نغير بواسطته العالم ، مستندين إلى المرجعية السماوية : الكتاب والسنة الصحيحة . وهكذا نفهم أن الدائرة تدور بكامل حيثياتها ومنحنياتها ، وأن الله تعالى سوف يستخلفنا في هذه الأرض ويورثنا إياها نحن المسلمين الموحِّدين أحباب الخالق تعالى ، ولن يتخلف الوعد الإلهي .

     قال الله تعالى : ] وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ [ [النُّور: 55] .

     وأما سبب نزول هذه الآية ، فعن أُبي بن كعب_ رضي الله عنه_ قال : لَمَّا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله ؟ ، فَنَزلتْ : ] وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ [ ، الآية{(9)}.

     إن جيل الصحابة_ رضوان الله عليهم _ قد طهروا أنفسهم من عبثية الجاهلية، فماذا كانت النتيجة ؟ . لقد استخلفهم اللهُ تعالى في الأرض ، ومكَّن لهم دينهم ، وأورثهم أرضه ، وأعانهم على فتح البلاد وقلوب العباد بالحجة والمنطق والتسامح ، وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى لَمَّا صبروا ، ومنحهم التمكين والثبات والعلو، وأعلى ذكرهم في الدارين ، فنالوا السعادتين الدنيوية والأخروية .

     وهذا الاستخلاف وتوابعه لم يحصلوا عليه إلا عن طريق بذل جهد كبير في تنقية النفس والجسد، والتخلص من أدران الحياة الجاهلية التي هي بمثابة انتحار بطيء . ونحن سوف نناله _ أي الاستخلاف _ إذا نظفنا أنفسنا من بقايا الجاهلية وقيمها وسلوكياتها ، لأن معنى الاستخلاف والخلافة لا يهبط في قلب غير نظيف ، ولا يصير واقعاً ملموساً إلا إذا اجتهدنا في تطهير ذواتنا من كل الأوساخ الفكرية التي وصلتنا من فوضوية المعاني الاجتماعية والأخلاقية الجاهلية .

     إذن ، نكتشف أن تلوثنا بالسجايا والطباع الجاهلية يحول بيننا وبين تلقي الفيوضات الرحمانية الربانية المقدَّسة . وبالتالي نغدو مشتتين ضائعين، ونزداد بعداً عن مفهوم الاستخلاف الحق. فالأمر ليس سهلاً، إذ إن الجاهلية أنماط استهلاكية عابثة تلغي الروح في الإنسان ، بل إنها تعمل على استهلاك الروح وحرقها بالشهوات الحيوانية، وإطلاق العنان للغرائز دون رقيب، ونصب الحواجز بين الإنسان وذاته . وهكذا ينفصل الفرد عن نفسه ومحيطه وقدراته والغاية المقصودة من مجيئه إلى هذه الأرض، فيكون وجوده على الأرض كعدمه، إذ إنه لم يحقق الهدف المنشود من وجوده ، فيخسر شرف معرفة خالقه تعالى ، ويفقد قدرته على معرفة ذاته ، ويتنكب الصراط المستقيم . فيا لها من خسارة فادحة أن يقضيَ الإنسان حياته على هذه البسيطة عبثاً دون معرفة الغاية والطريق والمصير والعاقبة. وعلى أية حال سوف تؤول الأرض في نهاية المطاف إلى مالكها الحقيقي الله تعالى ، الذي ملَّكها للإنسان لفترة زمنية محددة من أجل إعمارها وتحقيق مفهوم الخلافة ، وسوف يرث اللهُ تعالى الأرض ومن عليها . قال اللهُ تعالى : ] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [ [ مريم : 40] .

..............الحاشية......................

{(1)} كسع فلاناً_ كَسْعاً: ضرب مؤخَّرَه بيده أو بصدر قدمه. [ انظر المعجم الوجيز ، ص 534 ] .

{(2)} متفق عليه ، واللفظ للبخاري ( 4/ 1861 ) . ومسلم ( 4/ 1998) .

{(3)} رواه البخاري ( 6/ 2550 ) واللفظ له ، ومسلم ( 4/ 1998 ) .

{(4)} متفق عليه، واللفظ للبخاري( 2/ 573 ) . ومسلم ( 2/ 968) .

{(5)} من الأخطاء الفظيعة إطلاق لفظة " الاستعمار" على قوى الشر الاستكبارية ، لأن هذه الكلمة معناها جميل متعلق بالإعمار . قال تعالى : ] هُوَ أَنشَأَكُم منَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [ [ هود : 61] ، ومعنى استعمركم فيها أي جعلكم عُمَّارها . وهذه الدول أبعد ما تكون عن الإعمار ، فالواجب استخدام لفظة "الاستخراب" القادمة من الخراب .

{(6)} صرخة الأزمنة ، إبراهيم أبو عواد ، مخطوط .

{(7)} نحن لا ننكر أهمية المادة في حياة الفرد ، لكن ما نرفضه هو أن تحل محل القيم الروحية والمعنوية . فالإنسان روح ومادة ، وحياته كذلك . إذن ، فلنعط كل مسار أهميته وخصائصه دون إلغاء المسار الآخر .

{(8)} متفق عليه ، واللفظ للبخاري( 4/ 1473 ) . ومسلم ( 4/ 2273 ) .

 

{(9)} رواه الحاكم ( 2/ 434 ) برقم ( 3512 ) وصححه ، ووافقه الذهبي  .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !