مواضيع اليوم

أبي .. الذي مات .. أم أنا ؟

محمد شحاتة

2010-09-18 21:50:22

0

خمدت الأنفاس..

  وتوقف القلب ..

   وصعدت الروح إلى بارئها ..

                                فسكن الجسد ..
هوى الجبل الأشم ..

 رفع في لحظة النهاية راية التسليم ..

                      وترك نفسه للموت يقتلعها ..
لم يترك طوال عمره فرضاً من صلاة ..

كان قلبه معلقاً بالمسجد  الذي لا يبعد عن بيتنا أربعة أمتار ..

كان وهو في شدة مرضه يصلي قائماً على قدميه الموجوعتين ..

كان يتحدى المرض ..

 والقهر ..

 وقسوة الأيام ..
كان غالب حاله الصمت ..

صمت الصبر ..

 وصبر الحكمة ..

وحكمة التأمل ..

وتأمل عاديات الزمان وهي تدور وتمور من حوله ..

وهو ينافحها و يذبها عن عياله مهجة قلبه وفلذات كبده
منذ تسع وعشرين عاما ضربه القدر في شريكة عمره وتوأم روحه.. (أمي) ..

نزعت روحها يد المنون وهي التي كانت ظهره .. وظهيره .. وسنده ..

و هي التي كانت عونه على الحياة وعلى ثمانية من العيدان الخضراء الصغيرة  ..

وهي عصاه التي يتوكأ عليها..

      أكل القضاء منسأته ..

           فما هوى ..

            ولكن ..

هب ليصارع عاديات الزمان وهي تدور وتمور من حوله ..

فرد جناحاه ليحوي عيدانه الخضراء الثمانية ..

ونشر أوراق حنانه وعطفه على صغاره ليحميهم من لفحات الأيام وغدرات الليالي القاسية..

وقف وحده .. في الميدان ..

وحده ..

بلا يد تمد له العون ..

بلا مدد من شقيق ..

أو شريك.. أو صديق.. أو رفيق ..

ناضل وحده .. وقاتل وحده ..

وقاسى وحده .. وبكى وحده ..

لم يضبط أحد يوماً دموعه..

  لم يرصد أحد يوماً بكاءه..

    كانت دموعه له وحده ..

كان بكاؤه في قلبه لا في عينيه.

 كان يسبح وحده في قلب الطوفان ..

لم يهدأ له بال حين كان يخرج أحداً من عيدانه الخضراء من قلب الطوفان إلى بر الأمان ..

فلا زال صغاره الباقون في جوف العاصفة وعليه أن يستنقذهم واحداً تلو الآخر ..

وهو الأعزل من كل سلاح .. ومن كل عون.. ومن كل مدد ..

إلا سلاح وعون ومدد التوكل على الله .. والأمل في الله ..

لم يكن شيء يسعه في هذه الدنيا من الفرحة قدر لمسه بيديه شهادة إكمال أحد عيدانه الخضراء تعليمه ..

كنا نترصده كل مرة وهو يشارك أحد عيدانه الخضراء أوراق التنسيق واختيار الكلية التي يرغبها..
ولم يكن أسعد منه في الدنيا حين دخلتُ الكلية التي يتمناها ..

وحين تخرجتُ   .. وحين زاولتُ مهنتي..

هنا ..

وكأنني أراه لحظتها شاهراً سيف التحدي ..

صارخاً بصوت الصمت المدوي في أركان الدنيا ..

أيتها الدنيا .. أيتها الدنيا ..

                          لقد هزمتك ..

لم تتركه الدنيا يهنأ ..

تكالبت عليه بالمرض.. ضرب المرض قدميه..

فما سقط وما ترجل عن كبريائه..

رفض جميع النصائح بالتوكؤ على عصا ..

قال : عصاي التي كنت أتوكأ عليها "أم أولادي" قرضها القضاء ..وقصمها القدر..

فلا أتوكأ على عصا بعدها أبداً..
كان يتساند على الحوائط حتى يصل إلى المسجد ..

ويأبى إلا أن يصلي واقفاً ..

رغم المرض .. والألم..

                ضربته الأيام في قلبه ..

ثم تزاحمت عليه الأمراض ..

فكان يصارعها في صمت وعزة ومعاندة دون أن ينطق لفظة (الآه)

حتى أننا حسبنا أنه ليس مريضاً..
في شبابه ..

منحنا كل ما في وسعه من قوة وعطف وحنان ..

خارت قواه..

وبقي عطفه وحنانه علينا يتدفقان كشلال هادر لم ينقطع لحظة ..

ولم لا !!..

وهو الذي بعد رحيل عصاه التي كان يتوكأ عليها..

حمل (وحده) إلينا حنان الأم وحِمى الأب ..

حتى كدنا لا نشعر بفراق أمنا لنا ونحن عيدان خضراء لم تشتد بعد ..

ولكن ..

ولأن لكل شيء نهاية ..

ولأن كل نفس ذائقة الموت ..

ولأنه آن للفارس أن يترجل ..

ولأنه آن للجبل الأشم أن يسكن ..

هوى الحبيب على الأرض ..

خارت قواه ..

لم تحمله قدماه ..

احتضنته بين ذراعي .. حملته.. أجلسته على الكرسي .

حاولت إضحاكه..

فوجئت به.. 

 ولأول في حياتي رأيت ابتسامة خفيفة ساخرة ارتسمت على وجهه ..

كانت ابتسامة التسليم !! ..

كانت ابتسامة اليقين بلحظة النهاية ..

شهق شهقة واحدة ..

فاضت فيها روحه الطاهرة..

مات ..

مات أبي ..

مات أبي وهو جالس..

وكأنه حرم الأيام فرصة الانتصار عليه ..

 والنيل منه وهو نائم ...


مات أبي ..


ترجل الفارس عن الميدان..


مات أبي ..


هوى الجبل الأشم..


مات أبي


خمدت الأنفاس..
وتوقف القلب ..
وصعدت الروح إلى بارئها ..
                         وسكن الجسد ..


فلا أدري ..


أبي .. الذي مات .. أم أنا ؟
                               إنا لله وإنا إليه راجعون ..
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !