وجد المجنون .. أناساً كثيرين يتزاحمون.. ملامحهم الحزينة عربية.. وأيديهم تمتد بأوراق مطوية.. يقدمونها لأناس يرتدون قبعات أجنبية.. وكل منهم يريد الحصول على وظيفة.. تؤمن له أن يشتري كساءه أو دواءه أو رغيفه.. وتجنبه شر أن يتسول.. أو أن ينحرف عن الطريق ويتحلل.. بعد أن يكفر بكل الخير.. ويظل يفتش في السر أو في الجهر.. عن أردأ أنواع الخمر.
سمع المجنون كلمات فيها رطانة.. يحتاج أغلبها لتفسير أو إبانة.. لكن صاحب «البيان والتبيين».. عليه أن يتحمل كل ما في الزمن المهين.. وهكذا شوهد شخص من أصحاب القبعات.. يقرأ مما أمامه من قوائم ومن كشوفات:
= مدام زبيدة زوجة الرشيد البعيد.. مهنتك الآن في الزمان الجديد.. خادمة في بلاط سيدنا الذي انتصر.. وعليك إطاعة أوامره إذا أمر.. وستحصلين على دولارين فوق المرتب.. إذا نَظفتِ أحذيةَ سيدنا الحر المهذب.
= مدام ولادة بنت المستكفي .. انت عشت في العز بما يكفي.. ولدينا لك الآن وظيفة.. نعتقد أنها وظيفة مشرفة وشريفة.. عليك بالرقص في البارات.. للترفيه عن أمثالي من أصحاب القبعات.. وأنا شخصياً أعتقد أن جسمك يمتلك كل المقومات.
= مستر بشار بن برد.. لماذا لا تنطق ولا ترد؟.. أنت أعمى النظر بلا حد.. ولهذا ستعمل مهرجاً لسيدنا إذا تعب.. وعليك أن تضحكه إذا ضاق واكتأب.. ويمكنك أن تقلد البروفيسور يحيي المشد .. وهو يفكر في الذرَّة التي من أجلها اجتهد وجد.. وعليك من الآن أن تلاحظ.. أن لدينا من العيون اليواقظ.. ما يجعلنا نعرف دائماً ما تفكر فيه.. خاصة أن عقلك تائه أو سفيه.. ألست أنت الذي تهجمت على النساء.. وقلت في حقهن أقبح هجاء:
«لا يخدعنَّكَ من محجبة
شتم توجهه وان جَرَحَا
عُسْرُ النساء إلى مُلاَينةٍ
والصعبُ يمكن بعدما جمحا»
.. يا مستر بشار.. انت رجل مهذار.. ولكن عليك من الآن..أن تحترم كل النسوان..وإلا طردناك مما انعمنا به عليك من وظيفة.. اعتقد أنها تبدو لك مريحة ولطيفة.
لمح المجنون من بعيد.. رجلاً يبدو على ملامحه الهم الشديد.. كانت شفتاه توحيان بأنه يتبرم.. أو بأنه يريد أن يتظلم.. لكنه لا يريد أن يتكلم.. وهنا تحرك المجنون بلا إبطاء.. وأشرع أذنيه للإصغاء.. عندما سمع أحدهم يقول.. يبدو أن الليل سيطول.. لقد قرر شاعرنا أبونواس.. أن يزيح رهافة الإحساس.. وأن يعيش مثل كثيرين من الناس.. ولهذا فإنه تقدم بطلب.. إلى هؤلاء الذين يكرهون المسلمين والعرب.. لكي يتم تعيينه في وظيفة كناس.. يجمع القمامة في أكياس.. لكنهم أهملوه ووبخوه.. وقالوا إنه شخص معتوه.. وإنه خارج عن أجواء هذا العصر.. لأنه لا يجيد غير الشعر.. ولا يكتبه إلا إذا شرب الخمر
.
لم يستطع المجنون أن يعرف الحقيقة.. فالظلمات من حوله تبدو عميقة.. وهكذا ترك الناس تتجادل.. ومن أجل الوظائف الجديدة تتقاتل.. ثم أخذ يتساءل: هل يعقل أن يتذلل أبو نواس.. لكل هؤلاء الأنجاس..لكي يعينوه في وظيفة كناس؟
فجأة تحركت الريح في الطرقات.. وهي تحمل صوتاً عالي النبرات.. فأرهف المجنون أذنيه.. لكي يستمع إلى ما حملته الريح إليه:
إن المصائب إن فاضت تطهرنا
مما كسانا به الغاوون من كسلِ
فاثبت على مبدأ عشت الحياة له
ولا تبتْ لحظة في خيمة الدجلِ
وانهضْ لحقك يا انسان مصطحباً
روح المجاهد واحذرْ موطىء الزلِل
هذا هو الوطن الغالي يذكِّرنا
بما اعتراه وأن الليلَ لم يِطلِ
المجد للنور مادامت جوانحُنَا
عطشى لوجهِ نهارٍ رائع خضلِ
على الفرات دمٌ والعار في دمنا
فيا فراتُ اغتسلْ بالنار واكتحلِ
ويا حبيباً إلى روحي وسيِّدها
انهضْ وقم وانتفضْ حُييتَ من بطلِ
التعليقات (0)