أبو نواس يتجاهل فاتورة الحساب
بــعــد أن أفـــرط في الـشــراب
بقلم : حسن توفيق
لم تكن تلك الليلة من ليالي العصر العباسي الأول ليلة مقمرة، لكن النجوم كانت تزخرف وجه السماء، وتكسوه بهالات من الصفاء والبهاء .. فجأة رَنَّتْ في تلك الليلة الساكنة ضحكة مستهترة ماجنة، فأدرك الجيران على الفور أن جارهم الشاعر اللاهي «أبا نواس» ساهر في بيته مع بعض أصدقائه ، وهنا تسلل أحد الجيران، وخرج من بيته ليستمع متجسساً على ما يدور من أحاديث بين «أبي نواس» ومن معه من الأصدقاء.
- صدقوني يا أصدقاء إذا قلت لكم إني معجب جداً بشعرائنا العرب الذين سبقوني في القدوم إلى الحياة، والدليل أني أحفظ قصائدهم، وأترنم بها، ولكني- في نفس الوقت- أتصور أن هؤلاء الشعراء قد أضاعوا أعمارهم سدى، لأنهم لم يستطيعوا أن يتذوقوا معنى الحياة كما أتذوقها أنا الآن في هذا الزمان!
= كيف؟ أوضح لنا قصدك يا أبا نواس؟
- انظروا معي إلى امريء القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى وسواهم .. لقد كان كل شاعر من هؤلاء يقوم بزيارة الدار التي هجرتها حبيبته، حيث يذرف الدموع، ويطلب من صديقيه أو صاحبيه أن يبكيا هما أيضاً معه، وهذا واضح من قول امريء القيس «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» كما يتضح في قول طرفة بن العبد «لخولة أطلال ببرقة ثهمد» وكان على هؤلاء الشعراء أن يبحثوا عن نساء أخريات، بدلاً من أن يظلوا يبكون ويطلبون ممن معهم مزيداً من البكاء ! لماذا يبكي هؤلاء؟ لماذا يقفون أمام الأطلال؟ هل غياب امرأة يعني ضياع الحياة؟ أتعرفون أني قد اغتظت من هؤلاء الذين أضاعوا أعمارهم واقفين على الأطلال، فقلت متهكماً وأنا أطلب منهم أن يستريحوا ويجلسوا بدلاً من أن يظلوا واقفين:
قُلْ لمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ
واقفاً ما ضرَّ لو كان جلَسْ
اترك الربعَ وسلمى جانباً
واصطبحْ كرخية مثل القبَسْ
تشعبت الأحاديث، وطالت الجلسة، إلى أن تثاءب أحدهم وانصرف لينام في بيته، وتبعه ثان وثالث، ولم يبق مع «أبي نواس»غير صديقين عاشقين للسهر، قال لهما «أبو نواس» فلنكمل سهرتنا خارج البيت، بل خارج بغداد نفسها، ورحب الصديقان بالفكرة، فخرج الثلاثة يتمشون على أقدامهم، وهم يرون الليل الساكن في هيئة عملاق يرتدي جلباباً فضفاضاً وشفافاً، أما النجوم فقد تراءت معلقة في السماء، كأنها لوحة رائعة لم تخطر ببال أبرع فنان .
- إلى أين يا أبا نواس؟
= إلى بيت حنون .. سنطرق الباب، وندعي أننا قد التقينا أمام بيتها بالمصادفة لكي نجعلها تحس بالأمان، فإذا فتحتْ هذه المرأة اليهودية لنا باب بيتها دخلنا لنسهر ونسكر!
- ولكن ليس معنا ما يكفي من النقود
= ليس هذا مهماً .. المهم أن نسهر ونسكر
نـجحت الخطة . فتحت «حَنُّون» اليهودية الباب . دخل الثلاثة . أخذوا يتسامرون .. يشربون .. يطربون ، وبعد أن اكتفوا بما شربوا، طلب أبو نواس من حنون فاتورة الحساب، بعد أن أفرط في الشراب، وحين أخبرها بأن النقود التي معهم لا تكفي لتسديد قيمة الفاتورة، أخبرتهم أنها سترهن «أبا نواس» عندها، وإذا لم يتم سداد المبلغ، فإنها ستتكفل بإدخاله السجن، والآن جاء دور «أبي نواس» ليروي بنفسه الحكاية من بدئها حتى النهاية
وخمارة للهو فيها بقيةٌ
إليها ثلاثاً نحو حانتها سرنا
ولليل جلبابٌ علينا وحولنا
فما إن ترى إنْساً لديه ولا جِنَّا
يسايرنا إلا سماءً نجومها
معلقة فيها إلى حيث وَجَّهنْاَ
إلى أن طرقنا بابَهَا بعد هجعة
فقالت من الطراقُ؟ قلنا لها إِنَّا
شبابٌ تعارفنا ببابك لم نكن
نروح بما رحنا إليك فأدلجنا
فإن لم تجيبينا تبددَ شملنا
وان تجمعينا بالوداد تواصلنا
فقالت لنا أهلاً وسهلاً ومرحباً
بفتيان صدقٍ ما أرى بينهم أفنا
فقلت لها كيلاً حساباً مقوماً
دواريق خمر ما نقصنَ وما زدنا
فجاءت بها كالشمس يحكي شعاعها
شعاع الثريا في زجاج لها حُسنا
فقلت لها ما الاسم والسعر، بَيِّني
لنا سعرهاكيما نزورك ما عشنا
فقالت لنا حنُّونُ اسمي وسعرها
ثلاث بتسع، هكذا غيركم بعنا
ولما تولى الليل أو كاد، أقبلتْ
إلينا بميزانٍ لتنقدنا الوزنا
فقلت لها جئنا، وفي المال قلة
فهل لك في أن تقبلي بعضنا رهنا؟
فقالت لنا أنتَ الرهينة في يدي
متى لم يفوا بالمال خلدتُكَ السجنا
فجأة شوهد «أبو نواس» وهو يداري دمعة، ويمسح دمعة أخرى تترقرق على الخد، فداعبه صديقاه قائلين إنك قد دعوتنا للشراب، ولم تقدم لنا دعوة للبكاء على الأطلال، كما كان يفعل امرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمي وسواهم ، فلماذا تبكي؟ لقد أتينا لنسهر ونسكر، فما الذي غيرك وكدرك؟ قال: تذكرت الدنيا كلها ومصير الإنسان فيها.
أرى كل حي هالكاً وابن هالكٍ
وذا نسبٍ في الهالكين عريقِ
فقلْ لقريب الدار إنك ظاعنٌ
إلى منزل نائي المحلِّ سحيقِ
إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشفتْ
له عن عدو في ثيابِ صديقِ
التعليقات (0)